المولدي الأحمر : أيها السياسيون "وقفت الزنقة بالهارب"!

مولدي  لحمر : أيها السياسيون "وقفت الزنقة بالهارب"!

في سنة 2019 أنتجت الانتخابات التونسية تركيبة سياسية للبلاد أقل ما يمكن القول فيها أنها محبطة وتحمل بنيويا شرها وفي ذات الوقت بذور تفككها وتفسخها. محبطة لأن الرئيس الذي "غوث" له التنوسيون الطيبون هربا من فساد الذمة السياسة وطمعا في تحقيق البعض من أحلامهم، وصوتت له بعض القوى السياسية لحسابات غامضة، كان في الحقيقة رجلا وحيدا  ومحدود السلطات  بالمعنى السياسي والدستوري للعبارة، وبالنظر لفلسفته الانتخابية التي وعد خلالها بأنه سيبذل كل ما في وسعه لتغيير واقع البلاد يمكن القول أنه أصبح في ورطة. ومحبطة بشكل دراماتيكي لأن تشكيلة الأحزاب التي فازت بالمراتب الأولى في المجلس المُنتخب في غربة مزدوجة: مرة لأنها متفرقة في الإيديولوجيا فلا أفق ثقافي يجمعها، ومرة لأنها مجتمعة ضد الشعب بشأن النمط التنموي الذي انفجرت في وجهه الثورة، فتحالفاتها مزيفة – لأنها وعدت في حملتها الانتخابية بعدم التحالف-  ومشروطة بالتغطية المتبادلة على السوءات ومحبطة أيضا لأن المستوى الإدراكي والأخلاقي لقسم كبير من المُنتخَبين أقل من مستوى الشعب الذي ثار على فساد السياسة، ومحبطة أكثر لأن من يسمون أنفسهم ديمقراطيين أو يساريين لا حول لهم ولا قوة، بل أن البعض منهم يحلم بأن يقوم في الصباح فيجد أن "الله" قد غير ما بالبلاد قبل أن يغيروا هم ما بأنفسهم.

فكيف يلتقي الوحيد في السياسة بالحلفاء الألداء دون أن تطحنه اتفاقاتهم على المصالح وتحبطه خلافاتهم الإيديولوجية ضده وضد بعضهم البعض؟ وكيف يلتقي الإستئصاليون بالإستئصاليين في غير تبادل الخبرات والتوافق على ما هو ضد مصالح الشعب؟ وكيف يلتقي المتشابهون في المصالح والأصول والإيديولوجيا وكل منهم لا يبحث إلا عن نفسه للتحالف معها؟  وكيف يلتقي من لا يلتقي مع أحد مع المُفقرين والمخذولين والمهانين والطموحين والحالمين والصادقين؟

في الإقتصاد عشر سنوات ومن حكموا "يهزوا من الخابية ويحطوا في الجابية"، ينظرون في حدود أنوفهم. من يحكم يُشعر الشعب بأنه يسرقه ماله وثورته وينكر ذلك ، ومن يخطط لاسترجاع ما خسره يستثمر في مسار التخريب أكثر مما يستثمر في مسار البناء، البعض من هؤلاء كانوا دوما مقاولي الفرصة الخاطفة، والتهريب والتهرب، بلا وطن، بلا شعب، بلا تاريخ. وفي الأثناء  يُشغل المتربصون الخارجيون محركاتهم الداخلية مقابل الفتات، ومن ليس له محركات يخترعها وينفخ في صورتها.

في الثقافة بعضهم يبحث في كتب البخاري، وبعضهم "ينعم" في غربة تفسخية أو كولونيالية، وبعضهم يبحث عن أبي زيد الهلالي. والجميع يدير ظهره للحرية، كل لأسبابه الخاصة وبتعاويذه المميزة، فينشرون التفاهة والبلاهة، أويُعلون من شأن التزمت والحماقة، ويحاربون - بعلم أو من دون علم-  في جلبة سياسية بلا ذوق ولا طعم الذين نذروا أنفسهم للفن والإبداع.

عشر سنوات وهؤلاء يزيدون جرح التعليم غورا واتساعا. هل سمعتم بشعب من 12 مليون شخص فقط يضحي حكامه كل سنة بعشرة آلاف مهندس وطبيب من شبانه لفائدة بلد واحد؟ هل سمعتم بحكام يفخرون بأنهم يساعدون في تسفير أفضل العقول عندهم بخدعة المنح التي لا يعود أصحابها للبلاد أبدا؟ إنهم مثل الذين يرسلون لداعش الغلابة والمهمشين والمقهورين ولكن بصورة مقلوبة: العقول لا تلقى الرعاية كي تعود وعندما تعود ترتد محبطة، والآلات تتحطم أو تعود شياطين خارجة عن السيطرة. ليس هناك سياسي واحد تبني لثلاثين سنة قادمة سياسة تعيدنا إلى العصر، ليس كمصدرين للعقول بل كمستخدمين لها، هناك فقط مرافقة تكنوقراطية لسيرورة خراب. وفي الأثناء ميئات الآلاف يخرجون من العصر، يخرجون أميين من مدارس متداعية أو مهدمة، تقطعت بينهم وبينها سبل الطريق والأمل.

يمكن أن نواصل إلى ما لا نهاية له تعداد مواطن الخراب التي بدأت بالسريان في منظومتنا الاجتماعية والتربوية وخصوصا السياسية منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وتفاقمت منذ 2011. لكننا سوف لن نضيف شيئا إلى الفهم، بيد أنه بإمكاننا أن نعترف بالحقيقة وهي أنه ربما   علينا أن نشكر الجائحة، فهي لم تأت إلا لتكشف لنا عن طبيعة الجائحة السياسية التي نرزح تحتها. لقد دفعت الجائحة السياسيين ، الذين وصفهم مؤرخ قدير بالهواة، إلى "الزنقة"، وهاهم الآن يدخلونها جميعا وهم يركضون، يتمنون أن لا تكون "زنقة" ويكذبون علينا بالقول أنها ليست "زنقة"، وهم يعلمون أنها "زنقة"، ويركضون عُمي باتجاه حائطها الأخير.

ماذا سيفعلون؟ أمامهم  ثلاثة سيناريوهات فقط كما يقول الصحافيون. إما أن يقرر الائتلاف الحاكم الذي يمشي في المقدمة التراجع، مضطرا، قبل بلوغ نهاية "الزنقة"، فينقذ البلاد ويقلل الكلفة عن نفسه حتى وإن انفرط عقده وعاد متشظيا، فقد تكون فرصة لإعادة بناء الذات ومحاسبتها والتخلص من الأوهام وحتى ضمان البقاء. وإما أن يرفض التراجع وتنفجر فيه الخلافات عند بلوغ الحائط الأخير، فيُحدث الضوضاء والهرج والفسق  في "الزنقة"، وعندها قد يخرج له أهلها ويطردوه منها شر طردة. وإما أن تحتدم جموعهم عند بلوغ آخر "الزنقة" بدون تراجع من أي طرف، وعندها يفجرالحائط الأخير من يقول أن عنده الصوارخ ، ولكن لا أحد ممن أدخل البلاد كلها في هذه "الزنقة" يعرف ماذا بعد الحائط الأخير، ومن سيجدون في انتظارهم خلف الحائط الأخير. قولوا لنا ماذا ستفعلون قبل بلوغ حائط "الزنقة" الأخير؟

المولدي الأحمر
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.