محمد النفطي: ليس على المريض حرج ولا على الدستور حرج

البلاد مريضة فلا حرج عليها والدستور أعرج ولا حرج عليه. بقي لنا أن نتعايش مع المرض الذي ابتلينا به منذ السنة الماضية وأن نجمع ما بقي لدينا من قوة لندفع ما يهدد وطننا من جائحات صحية واقتصادية واجتماعية وغيرها من الآفات الأخرى التي تنخر المجتمع التونسي  و التي باتت تهدد الوحدة الوطنية وكيان الدولة.  الحكومة واجبة ولم تجب والمؤسسات الشرعية غائبة ولم تغب. الحكومة تكونت منذ أكثر من شهرين ولم يرخص لها في العمل بعد. ألم تقض ثلاثة قروء بعد؟ مرة أخرى هل  تعطلت لغة الكلام لاننا لا ندري ما المحاورة أم لأننا لا ندري خبايا الدستور؟ من ينقذ البلاد إذا تعطل الكلام وتعطل الفهم ؟ من ينقذ البلاد في غياب مؤسسة شرعية؟ المحكمة الدستورية غائبة فهل نردد صيحة الخوارج أم نرضى بتحكيم أبي موسى وابن العاص؟  لست أدري. لكني أثق في المثقف الحر. بدون شك فإن رجال القانون أدرى بشعاب الدستور وبتأويل فصوله وبشرح مصطلحاته وتبيين معانيه. ولكن الاستئناس بأهل الاختصاص قد يضفي نجاعة على التحليل ويسرا للمتلقي والقارئ على الأقل.

خلال الايام الأخيرة تداولت صفحات الفايسبوك مصطلح ( القوات المسلحة) وسرت على جدران بعض الناشطين تأويلات مختلفة. منها ما جاء برأي جاف وبات وأوضح أن القوات المسلحة تعني الجيش الوطني دون سواه. ومنها من علل هذا الرأي بالدستور التونسي وبمقارنة مع البلدان الأخرى ولم يذكرها ومنها ما ذكر مرجع بروتوكول معاهدة جينيف للنزاعات المسلحة. وفي المقابل يلاحظ أن أغلب ما جاء في هذه الصفحات و الذي   ساند الرأي القائل بأن مصطلح القوات المسلحة يسري على كل القوات الحاملة للسلاح في الأصل هم من يساند ما صرح به السيد  رئيس الجمهورية.  بينما كان الشق الآخر يرى أن القوات المسلحة تعني الجيش الوطني دون سواه واصطفوا وراء  بعض رجال القانون الدستوري الذين رأوا أن ما أقدم عليه الرئيس هو بمثابة خرق للدستور.

المتأمل في طيات الدستور وبالتحديد في المواضع التي ورد بها مصطلح القوات  المسلحة لا يمكن له أن يجزم بأنه يفيد الجيش دون سواه بل إن الغموض والخلط ساد في أغلب البنود التي تناولته مما يشجع على توظيفه وتفسيره بطرق  عديدة.

المواضع التي ورد فيها مصطلح القوات المسلحة
الفصل 17: تحتكر الدولة إنشاء القوات المسلحة وقوات الأمن الداخلي ويكون ذلك بمقتضى القانون ولخدمة الصالح العام.

الفصل 18: الجيش الوطني جيش جمهوري وهو قوة عسكرية مسلحة ...
الفصل 19: الأمن الوطني أمن جمهوري قواته مكلفة بحفظ الأمن والنظام العام وحماية الأفراد والمؤسسات والممتلكات وانفاذ القانون ....

ما يمكن ملاحظته من الفصول الثلاثة

• تم استعمال مصطلحات القوات المسلحة والجيش الوطني وقوة عسكرية مسلحة للدلالة على نفس المؤسسة (إن كان يقصد به الجيش الوطني)، بينما استعمل قوات الأمن الداخلي والأمن الوطني للدلالة على كم من  سلك أمني ؟ ما يتعارف عليه هو أن الأمن الوطني هو الشرطة دون سواها. وقوات الامن الداخلي تشمل أيضا الحرس الوطني (قوة مسلحة وعضوية لوزارة الداخلية) والحماية المدنية. هل لأن  الحرس الوطني ليس قوة  و لا تحتكر الدولة إنشاءها أم أنها غير مسلحة أم أنها مدمجة في الأمن الوطني؟ ولماذا لم يتم تعريف الأمن الوطني كما ورد بالفصل 18.

• كان بالإمكان إضافة تعريف قوات الأمن الوطني  قبل ذكر مهامها. ( قواته أمنية أو مدنية أو شبه عسكرية  على سبيل المثال). لأن عدم تعريفها يجر إلى تأويلات حرة. 

أما تعريف القوات المسلحة فهي تشمل مختلف التنظيمات والوسائل العسكرية التي تكرسها الدولة لتطبيق سياستها الدفاعية. و لا تنحصر في الجيش وحده بل تشمل تنظيمات أخرى مثل المليشيات والمرتزقة والقوات شبه العسكرية.

•  Les forces armées sont les différentes organisations et moyens militaires qu'un État consacre à la mise en œuvre de sa politique de défense. Elles ne se limitent pas à sa seule armée mais regroupent d'autres organisations comme les milices, les mercenaires, les paramilitaires ou les partisans dans le cas d'une nation occupée.  (wikipédia).
• من الخطأ إذن القول أن جميع الدول تتقاسم هذه المصطلحات ولا داعي لتعريفها في الدستور. وعلى سبيل الذكر ولا الحصر اقدم هذه الأمثلة في دول لنا معها تقاليد تعاون أمني وعسكري.

• الجندرمة الفرنسية هي قوة مسلحة مكلفة بمهام أمنية وعدلية بوليسية وتكافح الارهاب. عضويا تتبع وزارة الدفاع ومنذ 2009 أصبحت مرتبطة (rattachée) بوزارة الداخلية  لكن كل أفرادها عسكريون. وبقيت فصائل من الجندرمة  تعمل ضمن وزارةالدفاع.

• الكرابنياري الأيطالي: هي قوة عسكرية مسلحة مكلفة بمهام  أمنية وعدلية  من شرطة و حفظ النظام ولكنها تتبع وزارة الدفاع ومنذ سنة 2000 أصبحت جيشا مثل جيش البر و البحرية والطيران...

• الحرس الوطني الأمريكي: قوة عسكرية مدججة بالسلاح لكن تعمل تحت قيادة الوالي ولا تتبع وزبر الدفاع ولا ينصرف فيها الرئيس القائد الأعلى  للقوات المسلحة  رغم أنها قوة عسكرية مسلحة.
• القوات المسلحة الجزائرية: تشمل الجيش إضافة إلى الجندرمة (الدرك) والأمن الرئاسي.
• Le commandement de la gendarmerie nationale est une force armée placée sous l'autorité du ministre de la défense nationale, la Gendarmerie nationale algérienne est commandée par un officier général, dénommé «Commandant de la Gendarmerie nationale», nommé par décret présidentiel. Elle a pour mission la défense nationale et à la lutte contre le terrorisme, et a pour charge l'exercice des missions de police judiciaire, de police administrative et de police militaire.(wikipédia)

• القوات المسلحة المغربية: تشمل الجيش الملكي والجندرمة الملكية والحرس الملكي.

• القوات المسلحة الموريتانية: تشمل الجيش والجندرمة.
• قوات الحشد الشعبي العراقي: مدمجة ضمن القوات المسلحة العراقية وتتبع وزارة الدفاع

وتم سرد هذه الأمثلة حتى نبين أن " كل بلاد وأرطالها" وبصفة خاصة في مجال الأمن والدفاع. أما النقطة الثانية والتي استند اليها البعض ليقول أن رئيس الجمهورية بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة يحق له أن " يتصرف " في قوات الأمن الداخلي لأنها قوات  حاملة للسلاح هي أيضا تتطلب مناقشة.

الرئيس القائد الأعلى للقوات المسلحة: هناك إجماع في كل البلدان على هذا المبدأ. وعادة ما يعني أن الرئيس يرجع إليه إقرار العمل العسكري مثل  إعلان الحرب – إرسال قوات مسلحة الى الخارج- ابرام السلم   (غير أن هذا القرار في تونس مقيد بموافقة البرلمان – الفصل 77). بينما يكلف رئيس الحكومة أو الوزير الأول أو وزير الدفاع بتسيير الدفاع حسب ما ينص عليه القانون في كل بلاد. كما يمكن للقائد الأعلى للقوات المسلحة أن يفوض هذه الصلاحية لآمر القوات المسلحة إذا كانت منتشرة  بعيدا وخارج التراب الوطني.

ويمكن القول أن للقائد الأعلى للقوات المسلحة أي رئيس الجمهورية أن يدعو لتجميع كل القوات الحاملة للسلاح تحت قيادته زمن الحرب أو في حالة خطر داهم مهدد للبلاد (فصل 80) حيث يعتبر هذا القرار من التدابيرالتي تحتمها  الحالة الاستثنائية وهو أمر مستحسن (وحدة القيادة). وقد توقفنا على شبيه لهذه الحالة في 7 مارس 2016 في بن قردان حيث كانت كل القوات الحاملة للسلاح يتم تسييرها من طرف رئيس الحكومة بعد أن تم التفويض له من طرف القائد الأعلى للقوات المسلحة.

القيادة العسكرية أو لنقل القيادة العسكرية الميدانية التقليدية تتلخص في ثلاثة كلمات على الأقل C3  .Command- Control- Coordination . (و لا داعي لذكر الكلمة الرابعة في هذا المقام). وهي تعني  القيادة والسيطرة التي هي من مشمولات الآمر أو القائد بينما تتكفل أركان القوة بالتنسيق.

القائد الاعلى للقوات المسلحة يكفيه إصدار القرار الأولي وهي مسؤولية كبرى لأن نتائج الحرب  والنزاع غير مضمونة بالمرة.  وأحسن مثال لذلك مل ورد في كتابات حسنين هيكل عن القرار الذي أمضاه أنور السادات للعبور في حرب 1973 والذي حرره هيكل بخط يده. يقول هيكل أن أصعب و أخطر  أمر أتخذه السادات في حياته السياسية وبصفته  رئيس مصر والقائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية هو إمضاء الأمر بالعبور والتي عرف ب "القرار".  أما بقية الآمور وسير العمليات ومراقبتها فهي شأن ألعسكريين. ولا يتم الرجوع للقائد الأعلى إلا في إنهاء الحرب وهي أيضا مسؤولية كبيرة لكنها لا تضاهي القرار الأولي.

و لو فرضنا أن القائد الأعلى للقوات المسلحة يمكن له أن يقود ويأمر كل القوات الحاملة للسلاح فذلك لا يعني أنه مكلف بإدارتها أو بتسييرها. يمكن له أن يأمر بتجميعها، أغلبها  أو ما تيسر منها، تحت قيادة موحدة (مدنية  كتفويض  لرئيس الحكومة أو وزير الدفاع أو تحت قيادة سلطة عسكرية) للقيام بمهمة دفاع و أمن.

لقد ولى زمن داريوش  والاسكندر المقدوني وبونابرت عندما كان الملك يقود المعارك مع جيشه على الميدان. وبعد الرسول محمد لم تعرف الخلافة الاسلامية خليفة قاد الجيش في معارك ضد العدو باستثناء على بن أبي طالب الذي قاد معارك أهلية أثناء الفتنة الكبرى.

فإذا كان رئيس الجمهورية يطالب ب"حقه" في القيادة العليا للقوات المسلحة كما ينص عليه الفصل 77 والتي يمكن أن تشمل كل القوات الحاملة للسلاح زمن الحرب  أو في حالات إستثنائية مثلما حصل في بن قردان فهذا أمر محمود.

بقي أن نضيف أن المصطلحات الأمنية  التي وردت بالدستور عليلة وعرجاء والأحسن أن يتم التفكير في تقويمها ونذكر منها مصطلحات الآمن القومي والدفاع والسياسات الأمنية...

محمد النفطي