محمد النفطي : وجعلنا من الرشوة كل شيء حيّ

كثر الحديث في الأيام الأخيرة عن الرشوة والفساد في بلادنا. و تشير الاحصائيات أن هذه الظاهرة قد تفاقمت بصفة خطيرة بعد الثورة. كما تبين الأرقام أن أكثر من % 80 من التونسيين يصفون المجتمع التونسي بالمرتشي أو بالذي لا يمكن له أن ينكر الرشوة. والرشوة في التقاليد العربية غير الفساد. بل الرشوة محبذة ولم ينكرها الدين الاسلامي. وللآسف فإنّ الرشوة ضرورية في مجتمع لا يؤمن بالتعاون ولا بالتضامن والرشوة ضرورية في مؤسسات يغيب فيها العمل المقنن.

الرشوة  أو الرشاء أصلها مساعدة ضرورية

الزمان خريف 1987 و بالتحديد يوم 9 سبتمبر. المكان صحراء الجنوب الغربي  على مشارف العرق الرملي الشرقي و بالتحديد  في "شبكة البيبان" على الطريق الصحراوية  التي تربط مدينة دوز بواحة بوفليجة. المناسبة  "رالي  جربة 500 " للسيارات والدراجات النارية تنظمه شركة فرنسية.

شبكة البيبان منطقة كثبان رملية كبيرة مرتبطة بالعرق الرملي نسجتها رياح الجنوب والشمأل في  شكل شبكة ( كثبان وصحون متعددة) مترامية الأطراف. يصعب على غير العارفين اجتياز هذه المنطقة و الخروج منها إذا علق بكثبانها ولذلك أطلق عليها  إسم "شبكة".  و"البيبان" لتوفر المداخل الوحيدة لواحة بوفليجة. وتمثل  صعوبة المنطقة  وخاصياتها أهم شروط اختيارها لتنظيم الرالي. في اليوم الأول والمرحلة الأولى عند اجتياز "شبكة البيبان"  علق بالشبكة الرملية 5 متسابقين وتم العثور عليهم أمواتا بعد ثلاثة أيام من البحث المتواصل. ماتوا عطشا.

الزمان ربيع 1989 وبالتحديد منتصف شهر ماي الساعة 11 صباحا. المكان  "أم الشياه" على مشارف العرق الرملي 50 كلم  غرب مدينة دوز. درجة الحرارة 40 د.  سائح فرنسي وزوجته وابنتهما على متن سيارة في طريقهم إلى مدينة مطماطة عبر الطريق الصحراوية. تعطلت السيارة ونفذ الماء. نظروا إلى الخريطة فأشارت لهم بوجود بئر في سفح الجبل على بعد 5 كيلومتر. وصلوا الى البئر بعد عناء. رمى حجرا في البئر. الماء موجود لكن كيف الوصول إليه ؟ لا تتوفر الرشوة. مرت ساعة واشتد القيض وهلك الجميع عطشا.

الزمان صيف 1990. منتصف شهر أوت. المكان   من داخل العرق الرملي. بئر الزنيقرة 50 كلم غرب قرية الصابرية معتمدية دوز. الصابرية بوابة الصحراء  على حدود العرق الرملي الشرقي. والقرية اكتسحتها رمال العرق الرملي  فهجرها أهلها ولم يبق من سكانها إلا القدامى الطاعنون في السن. في منتصف شهر أوت خرج من القرية شيخ طاعن في السن   يسير على قدميه متجها صوب العرق بعدما جاءه خبر بضياع رسلة من غنمه. مرت 7 أيام ولم يرجع الشيخ. انزعج أهله وطلبوا مساعدة الجيش الوطني الذي يوجد لديه أفضل الأدلاء الصحراويين. تم إحضار الدليل العسكري وهو أصيل قرية الصابرية وسئل عن إمكانية العثور عليه حيا بعد هذه المدة الطويلة في الصحراء وفي فصل الصبف وبدرجة حرارة تقارب 50 درجة في النهار. أجاب أنه يعرف الشيخ وهو راعي قديم في العرق وخبير بكل نقاط الماء ولا خوف عليه. إنطلق الدليل في الصباح الباكرعلى متن سيارة رباعية الدفع  مجهزة بوسيلة اتصال للبحث عن الشيخ. حوالي الساعة السادسة مساء أخبر الدليل أنه وجد الشيخ حيا يرزق. بجانب بئر الزنيقرة عاري الجسم.

نجا الشيخ من العطش ومن الموت بفضل الرشوة. عندما لم يجد رشاء ( رشوة) قطّع ثيابه وصنع منها حبلا طويلا أدلاه الى قاع البئر وتمكن من جلب الماء.

ما هي الرشوة؟

الرشوة أو الرشاء  هي الحبل الذي يربط الدلو لجلب الماء من البئر. فلولا الرشوة لما بقي الشيخ في عالم الأحياء.  والرشوة هي الوسيلة التي تساعد على قضاء الحاجة. ومن الرشوة جعل الأعراب كل شئ حي. لو اهتدي السواح الفرنسيون إلى الرشوة لنجوا من الموت.

تعوّد المجتمع العربي الحديث، من أحفاد الأعراب الرحل القاطنين بالصحراء القاحلة، على المساعدة والرشاء و تطبّع على التوكل لقضاء حاجاته في كل ميادين الحياة و العمل حتى انزلق توظيف الرشاء إلى سلوكيات غير محمودة فأصبح يدلي بالأموال إلى الحكام وتغير الرشاء من وسيلة لتحقيق ضرورة حياتية ووجودية إلى فساد في الأرض.

أي حلّ؟

هل يمكن القضاء على تفشّي هذه الظاهرة في مجتمعنا؟ بالطبع لا إذا تمت معالجتها طبقا للمنهجية العلمية العالمية والغربية . غير أنه يمكن التفكير في سبل عملية عربية تتماشى مع طبيعة المجتمع. بل يمكن إختزال السبيل في فكرة واحدة تغني عن الكثير من الكلام وأن نبدأ بإصلاح  القليل والضروري  لفائدة المواطن حتى إذا رأى بأم عينيه النتيجة الحسنة تشجع وساهم في الاصلاح واتسعت بعد ذلك ميادين الاصلاح كما يقال ( واصلاح  القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد).

بإيجاز، ما يمكن عمله هو تشريع الرشوة  أو بمعنى آخر القضاء على الرشوة "السرية" وإبدالها برشاء قانوني ليصبح  "خدمة"  بمقابل مالي يدفع للدولة عبر المصلحة الادارية  أو المؤسسة وتكون هذه الرشوة أو الخدمة محددة في كيفية أسدائها وتكون معلومة ومقننة أي مشرعة. 

محمد النفطي