تونس: قراءة في الفصل 64 من مشروع مجلة المياه الذي يتوجه الى منع تجارة المياه المحلاة المعدة للشرب
بقلم حمزة الفيل - سألني عديد المواطنين من بعض مدن الجنوب (مثل قابس وجربة ...) التي توجد بها محطات تحلية مياه، هل حقيقة ان مياه الحنفية محلاة؟ ويكون عادة اجابتي الأولى بسؤال: ما الذي دعاك لهذه الملاحظة؟ فتكون الاجابة تقريبا نفسها، "أحس بالملوحة كلما شربت مياه الحنفية"، فتكون إجابتي: هذا أمر عادي لأن المياه المحلاة يقع خلطها وتوزيعها بملوحة تقارب 1,5 غ/ل وقد تصل الى 2 غ/ل في فصل الصيف!!!
وعادة ما يتبع ذلك سؤال ثان: لماذا بعد عملية تحلية المياه المكلفة يقع رفع الملوحة الى درجة أنها تصبح غير صالحة للشرب (رغم انها مطابقة للمواصفات التونسيةNT09.14)؛ وهنا يصعب إقناع المشتكي من جودة المياه بأن تكلفة المياه المحلاة تتراوح بين ضعفين (عند تحلية المياه المالحة)[1] الى 5 أضعاف (عند تحلية مياه البحر) مقارنة بمعدل كلفة المعالجة التقليدية للمياه الطبيعة. ونظرا للموازنة السلبية للشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه لأسباب لا تتحملها الشركة لوحدها، فتوزيع مياه بملوحة أقل من 1 غ/ل يعتبر أمرا مستحيلا في العشرية المقبلة، خصوصا إذا علمنا ان النسبة الافتراضية للماء الذي يمكن ان يستهلك للشرب وللطعام ايضا من طرف الشخص الواحد لا يتجاوز 2 % (باعتبار ان حصة المياه الصالحة للشراب للشخص الواحد تقدر بحوالي 112 ل/يوم[2], وبذلك يكون حوالي 98% من المياه الصالحة للشراب تذهب في استعمالات غير غذائية وذلك بمفهوم الاستعمال النبيل للمياه الذي ظهر مع انتشار منظومة تحلية المياه في تسعينيات القرن الماضي.
وهنا يفترض إظهار قيمة مفهوم الاستعمال النبيل للمياه (أوما يشابه الماء الغذائي) حيث تمثل نسبته أقل من 2% من الكمية المستهلكة للمياه الصالحة للشراب. والسؤال المطروح: هل الدولة، ومن ورائها الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه لها الإمكانيات اللازمة لتحسين جودة المياه الصالحة للشراب الى مستوى المواصفات الدولية أوالى مستوى يمكن معه شربها من طرف عموم التونسيين مع الضغط على الكلفة وثمن والبيع؟ طبعا الجواب هو أن ذلك مستحيل على الاقل في العشرية المقبلة. علما ان الثمن الحالي (حوالي 0,6 د./م3 كثمن متوسط وهو أقل من ثمن التكلفة) يعتبر أدنى الأثمان في العالم مقارنة بعديد الدول مثل المغرب (حوالي 2 د./م3) وبلدان الاوروبية (بين 11 و15 د./م3)[2].
من ناحية أخرى فان الاستهلاك التونسي للمياه المعلبة وأغلبها طبيعي يعتبر الأعلى في العالم حيث تحتل تونس سنة 2019 المرتبة 4 عالميا حسب تصريح ر.م.ع. الديوان الوطني للمياه المعدنية والاستشفاء بالمياه لجريدة الصباح في 1 جويلية 2020، حيث وصل معدل الاستهلاك الى 2,2 مليار لتر سنويا، ما يعادل 200 لتر سنويا للفرد الواحد. هذا دون احتساب تجارة المياه غير المنظمة والتي تطورت كثيرا في تونس في السنوات الأخيرة.
ومنذ أكثر من عقدين بدأ المواطن يهجر شرب مياه الحنفية الى أن هجرتها الأغلبية الساحقة من الشعب التونسي واتجهت نحو المياه المعدنية لميسوري الحال (نسبة الاستهلاك تضاعفت 25 مرة في العقود الثلاثة الأخيرة[3]) ونحو المياه الموازية (مياه العيون والمياه المحلاة) لضعاف الحال حيث أصبحت هذه الظاهرة منتشرة من الشمال الى الجنوب. فمع تدهور المقدرة الشرائية وارتفاع أسعار المياه المعلبة لم يعد للطبقة المتوسطة القدرة على تحمل رفاهية المياه المعدنية[4]. واذا اعتبرنا ان عائلة متكونة من 5 افراد مع استهلاك فردي 1,5 ل/اليوم ومعدل ثمن اللتر 0,4 د.، فان الكلفة الشهرية للعائلة لاستهلاك المياه المعلبة تقدر بحوالي 90 د., وهذا يمثل بين 18 و9 % من قيمة جرايات بين 500 و1000 د./شهريا تناسبيا. فهذه العملية الحسابية البسيطة تؤكد ان المياه المعدنية تعتبر ترفا غير مقدور عليه لأكثر من نصف الشعب التونسي.
ونظرا لغلاء المياه المعلبة من ناحية وتردي جودة مياه الحنفية كمياه شرب (وان كانت مطابقة للمواصفات التونسية في بعض الأقاليم مثل تونس الكبرى والشمال الغربي) من ناحية أخرى، وغياب المراقبة للمياه الصالحة للشراب في حوالي 50 % من الأوساط الريفية والتي تسهر عليها المجمعات المائية الفاقدة لأبسط قواعد الحوكمة في المياه من ناحية ثالثة, انتشرت ظاهرة بيع مياه العيون مجهولة المصدر منذ أكثر من عقدين تلاها في العشرية الأخيرة بيع مياه الحنفية المحلاة في محلات مجهزة بتقنية "التناضح العكسي" (Osmoseinverse) ويتراوح ثمن اللتر بين 60 و120 مليم. ورغم صدور منشور في شهر سبتمبر 2015 ممضى من طرف 4 وزراء يقضي بمنع بيع هذه المياه إلا ان الظاهرة زادت انتشارا خصوصا بعد صدور حكم استعجالي يقضي بمنع تطبيق هذا المنشور[4].
كما ظهرت منذ أكثر من عقدين تكنولوجيات بحجم صغير لتحلية مياه الحنفية في المنازل بعد ما بدأ يندرج مفهوم الاستعمال النبيل للمياه في عديد الاستراتيجيات الوطنية للمياه في عديد الدول. هذه الوحدات المنزلية دخلت السوق التونسية في بداية سنوات 2000, وبثمن يتراوح بين 500 و300 د. وتنتج حوالي 10 لتر في الساعة بكلفة تتراوح بين 20 و30 مليم للتر الواحد حيث يمكن، بمجرد خلطه مع حوالي 5/1 من مياه الحنفية، الحصول على ماء بمواصفات مياه الطاولة بملوحة بين 0,2 و0,5 غ/ل وبدون أي أثر للتلوث، كما جاء في مقال علمي نشرته سنة 2007 في إحدى أهم المجلات العلمية المختصة Desalination[5]
وتعتبر تونس متأخرة في مجال تجارة القرب للمياه المحلاة مقارنة بعديد الدول العربية، فتجارة المياه المحلاة عبر محطات تحلية معدة للغرض منتشرة في عديد الاحياء والمدن ومنظمة في عديد الدول خصوصا العربية التي تفتقد لمياه بجودة عالية للشرب البشري مثل الأردن ولبنان والامارات والسعودية ومصر. فالمملكة الأردنية مثلا، نظمت هذا القطاع منذ عقدين تقريبا حيت ان بعث المشروع في المجال يخضع لكراس شروط منشور في الجريدة الرسمية الأردنية[6].
ولكل ما سبق يصبح، أمرا مستغربا وغير مدروس من الناحية العلمية والاجتماعية، إصرار القائمين على منظومات مياه الشرب على منع ووضع تجارة تحلية مياه الحنفية، باستعمال تكنولوجيات عالية اصبحت في متناول ضعاف الحال، في نفس مستوى تجارة مياه العيون (المصنفة ضمن الملك العمومي للمياه) عبر وسائل نقل يصعب مراقبتها، كما وقع توجيه مشروع مجلة المياه في فصله 64 الذي يحجر توزيع وبيع المياه المعدة للشرب من الذوات الخاصة ما لم تتحصل على ترخيص من والوزير المكلف بالمياه بعد أخذ رأي الوزيرالمكلف بالصحة، وهذا مخالف لفلسفة تركيز السلطة المحلية والحد من المركزية المعطلة[7]. وكل مخالف معرض لعقوبة بالسجن (16 يوم الى 3 أشهر) وبخطية مالية (بين 10 و20 ألف دينار) بينما لم ينص المشروع على أي عقوبة في حالة مخالفة مياه الحنفية للمواصفات التونسية للمياه الصالحة للشراب والتي لا ترتقي في أغلبها لمستوى مياه الشرب التي تحترم الكائن البشري خصوصا في جانب الملوحة بما ان هذه المواصفات تسمح بتوزيع مياه بملوحة تصل 2 غ/ل وهي تعتبر مياها مالحة في أغلب دول العالم.
ومن الأسباب المقدمة لمنع بيع المياه المحلاة بطريقة التناضح العكسي (او ما يسمى لدى الهياكل الرسمية بالمياه المعبّأة غير المراقبة)، حسب ما صرح به مدير عام إدارة حفظ صحة الوسط وحماية المحيط لجريدة الصحافة[8]، أن المضار متعلقة أساسا بالتركيبة الفيزيو كميائية للماء الذي يفتقر لبعض المعادن والأملاح المعدنية التي يحتاجها الجسم وبالتالي يمكن أن يتسبب شرب هذه المياه في إحداث خلل على مستوى حاجيات الجسم لهذه المكونات إلى جانب وجود إمكانية تلوث جرثومي. فمثل هذا التبرير كلمة حق يراد بها باطل، حيث ان كل محطات التحلية في العالم تنتج مياها شبه خالية من الاملاح المعدنية، وهي مصحوبة بوحدة معالجة بعدية متكونة أساسا، بالنسبة لمياه الشرب، من:
• نظام خلط للمياه المحلاة (شبه خالية من الاملاح) مع مياه طبيعية ذات ملوحة مرتفعة نسبيا او مياه الخام (مياه الحنفية مثلا) بعد المعالجة الأولية بنسب محددة تسمح بالحصول على الملوحة المرغوبة والحموضة المطلوبة، كما هو معمول به في محطات التحلية التابعة للشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه وفي المحطات الخاصة ببعض انواع المياه المعلبة.
• نظام تعقيم يتكون من مصابيح الأشعة ما فوق البنفسجية يعقم المياه المنتجة بفاعلية كاملة قبل خزنها وهو أفضل من استعمال مادة الكلور.
فتنظيم منظومة تحلية مياه الحنفية لإنتاج وبيع مياه معدة للشرب وتطويرها ضمن منوال محلي للتنمية وضمن منظومة تحلية المياه في تونس[9] له امتيازات متعددة وهي كالتالي:
• تقديم خدمات القرب للمواطن في أهم عنصر الحياة بجودة عالية مقارنة بمياه الحنفية وكلفة رخيصة مقارنة بالمياه المعلبة،
• توفير مياه صالحة للشرب وبأثمان مقدور عليها في المناطق الريفية خصوصا المعزولة منها،
• خلق فرص لبعث مشاريع تنمية محلية لأصحاب الشهائد العليا وتوفير مواطن شغل خصوصا على مستوى الاحياء الشعبية والأرياف والقرى،
• الحد من معضلة تعرض المياه المعلبة البلاستيكية لأشعة الشمس أثناء نقلها أو خزنها العشوائي وما ينجر عنها من تحلل الجسيمات البلاستيكية الدقيقة في المياه المعلبة. علما ان دراستين في الولايات المتحدة وفي ألمانيا اكدت وجود ميكرو بلاستيك في المياه المعلبة وذلك رغم برودة الطقس وصرامة الرقابة في مجال صحة المواطنوقوة تطبيق القانون في بلد مثل ألمانيا [10].
• تقليص هيمنة لوبيات المياه المعلبة وتوسعها واستحواذها على الموائد المائية ذات الجودة العالية مع حفظ حق أجيال المستقبل، علما ان عديد المياه المعلبة مخالفة للمواصفات التونسية في غياب رقابة فعالة.
• تقليص الضغط على الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه لتحسين جودة المياه المكلفة جدا، وهي تمر بموازنة سلبية منذ سنوات 2000، خصوصا ان 98% من المياه الموزعة تذهب في استعمالات غير غذائية وذلك بمفهوم الاستعمال النبيل للمياه.
علما ان تحلية المياه الحنفية عبر تكنولوجيات الأغشية تقضي أيضا على احتمال التلوث للمياه الصالحة للشراب الذي أقره تقرير دائرة المحاسبات لسنة 2014 (وادي مجردة الذي يمثل أحد أهم المصادر لتزويد عدد من السدود الموفرة للماء الصالح للشراب، أصبح عرضة للتلوث من جراء سكب مياه المعالجة غير مطابقة للمواصفات) وعلى النسب العالية من بقايا الكلور في الماء، والتقليل بنسبة مرتفعة (90 %) من العناصر التي يفترض ان تكون بكميات ضئيلة (اقل من 1في المليون) مثل:الفلوريد المتواجد بجهة قفصه والذي أثر سلبا على صحة المواطنين ويظهر ذلك جليا على الأسنان. وبصفة عامة فان تحلية الماء في اَخر الشبكة المائية فيه اقتصاد للماء وللكلفة بما أنه يقتصر على كمية مياه الشرب الذي تمثل أقل من 2 % من كمية الماء الصالح للشراب.
وحتى يكرس الحق الدستوري في ماء بجودة مياه الشرب وبأثمان مقدور عليها من طرف الفئات الضعيفة والمتوسطة، يفترض تعديل الفصل 64 المتعلق بحجر توزيع وبيع مياه العيون المعدة للشرب من الذوات الخاصة. وفي ما يلي اقتراح تعديل:
"مع مراعاة احكام الفصول ....، الواردة في هذه المجلة يحجر توزيع وبيع مياه العيون المعدة للشرب من الذوات الخاصة ما لم تتحصل على ترخيص من الوزير المكلف بالمياه بعد أخذ رأي الوزير المكلف بالصحة. ويخضع انتاج وتجارة المياه المحلاة المعدة للشرب من الذوات الخاصة الى كراس شروط يصادق عليها الوزير المكلف بالمياه بعد أخذ رأي الوزير المكلف بالصحة".
أ. د. م. حمزة الفيل
باحث في مجال تحلية المياه ورئيس مخبر بمركز بحوث وتكنولوجيات المياه
المراجع
1- حمزة الفيل، تطور منظومة تحلية المياه بتونس، نشر بالتيار نيوز (24/05/2018) وبمركز الدراسات الإستراتيجية
2- Elaboration de la vision et de la stratégie du secteur de l’eau à l’horizon 2050 pour la Tunisie«Eau2050»
Etape 3 :Réalisation des Etudes Prospectives Multithématiques et Etablissement de Modèles Prévisionnels Offre-Demande ;Volume2: Modèles Prévisionnels Offre-Demande (Bilans).
3- استهلاك التونسي المياه المعدنية تضاعف 25 مرة في أقل من 30 سنة. الشارع المغاربي، 3 أفريل 2019
4- ناجح بوقرة، قراءة في المنشور القاضي بمنع بيع مياه العيون ومياه الحنفية المصفات,الصباح، 27 مارس 2017
5- Elfil H., Technical evaluation of small-scale RO desalination for domestic water, Desalination, 203 (2007) 319-326; DOI:10.1016/j.desal.2006.03.530.
6- الجريدة الرسمية الأردنية 2015, الشروط الواجب توفرها في ممارسة حرفة المحطات الخاصة بمياه الشرب المحلاة لسنة2015
7- ناجح بوقرة، مشروع مجلة المياه ... ما بين السطور. نواة، في 7 أكتوبر 2019
8- صبرة الطرابلسي، مياه مجهولة المصدر خارج سيطرة الرقابة، جريدة الصحافة
9- Le dessalement de l'eau: Enjeu pour un développement durable, article de veille publié dans le N°1 du TBC Veille ; Mars 2019 Technopole de Borj-Cédria
10- Des microplastiques retrouvés dans la majorité des bouteilles plastiques d’eau minérale contaminées, Actualités scientifiques ;3 Avril 2018
- اكتب تعليق
- تعليق