أخبار - 2020.12.25

جائزة الكومار الذهبي 2020: "نازلة دار الأكابر" لأميرة غنيم رواية ناجحة بكل المقاييس

جائزة الكومار الذهبي 2020: "نازلة دار الأكابر" لأميرة غنيم رواية ناجحة بكل المقاييس

بهذه الرواية سحر عجيب يكبر من صفحة إلى أخرى و من فصل إلى آخر  يأخذ القارئ، و هو مدهوش بين "الأحاديث" و الوجوه و المفاجآت، أخذا ليفترسه و يستبدّ به فلا يستطيع أن يخرج من هذا العالم الروائيّ الآسر الذي بنته أميرة غنيم بمهارة فنية فائقة إلا بالصفحة الأخيرة(457)  من الكتاب عندما تأتي لغلق أبوابه، وقد بلغت المتعة أقصاها، "الراويةُ" أو "الساردة" الأساسيّة هند بنت مصطفى النيفر التى جعلت منها الكاتبة حفيدةً للمصلح التونسيّ الطاهر الحداد  ، أي في الحقيقة حمّالة و لا أكثر لفكره التحريريّ الذي ولعت به قبلها،  خلال ثلاثينات القرن الماضي ، جدّتُها زبيدة بنت علي الرصّاع و تكبّدت من جرّائه الأمريّن.

و لا يهمّ هنا كثيرا إن كان الطاهر الحداد هذا -و هو الشخصية الحاضرة في هذا الكتاب بالغياب، نسمع عنه أكثر مما نسمع منه-  قد عاش أو لم يعش مع زبيدة زوجة محسن النيفر، تلميذته الذكية المجتهدة الحالمة في صمت و ألم بالانعتاق من أغلال المجتمع الذكوريّ ، شيئا من الودّ الخفيّ أو من العشق الممنوع، لأن الروائيّة ليست البتة بمؤرّخة و ما كتبته لا يندرج في ما يسمّى بـ"الرواية التاريخيّة". و قد يكون هذا المصلح الذي ترتبط به، في هذا النص، دون إرادته و دون علمه، "نازلة" أو "مصيبة" إحدى عائلات سكان العاصمة من "البلدية"، مجرّد تعلّة ذكيّة تستعملها الكاتبة لتبنيَ حولها روايتها الخياليّة حول عائلة تونسية من "الأكابر" زمن الاستعمار الفرنسيّ والمقاومة الوطنيّة، و لتهتك ما يمكن أن تخفيه من أسرار حقيقيّة أو متخيّلة أو مستمدّة مما رسب بالذاكرة الفرديّة أو  الجماعيّة من قصص و خرافات و "فضائح".

و إنّ كل نجاح الروائيّة المتألّقة أميرة غنيم يكمن، و لا غرو، في تصميم البنية الروائية لـ "نازلة دار الأكابر" و تركيب فصولها و مقاطعها بطريقة متداخلة عمدا تتشعّب فيها ثنايا القص غير المترابط و غير الخاضع للترتيب الزمنيّ ("الكرونولوجيّ") الذي به مدّ و جزر و كرّ و فرّ و تشويق متواصل يشدّ القارئ شدّا بليغا إلى سيرة الشخصيات الكثيرة و المتنوّعة و المثيرة ،رغم قبح بعضها و سفالته ، و التي تأخذ على عاتقها عملية السرد تاركة الكاتبة خارج الفضاء الروائيّ، دون صوت مسموع، تصوغ تلك الشخصيات و تحرّكها ببراعة "محرّك الدمى" وتسوقها برقة ،الواحدة تلوى الأخري، إلى حبكتها القصصيّة المعقّدة النسيج التي تتقاطع فيها "الأحاديث" أو "الروايات" الفرعيّة والاستطرادت و "الفلاش باك" و الذكريات و التعاليق و الحوارات الصغيرة ليُكمّل بعضُها بعضًا وتسمح للقارئ المنتبه بإعادة تنظيم العناصر المتناثرة هنا وهناك وإدراك الحقائق كاملة و فكّ ألغاز "دار الأكابر" و كشف ما أخفاه ساكنوها، رغم مظاهر الوجاهة و النبل، من أسرار وأحقاد و عقد و عاهات نفسية و انكسارات و  عذابات قد يكون النظام الإقطاعي الذكوريّ السائد عندها مسؤولا عن جانب كبير منها.

و تتميّز هذه الرواية المفاجئة حقا  - وقد سبق لي أن قلت في شأنها على منبر آخر إنّها جوهرة من جواهر الفن الروائيّ التونسيّ الحديث-  بجودة السرد فيها و تسلسله حسب نسق قويّ وثابت لا يضعف و لايتعثّر و "كأنه الماء يجري" وتلتحم عناصره دون تعقيد و لا ثقل بالوصف الدقيق و المتواتر الذي يزيدالسرد حيويّة و عذوبة و يكشف ما بلغته الكاتبة –وهي أستاذة جامعية في علم النحو و اللسانيات- من امتلاك كبير للغة العربية و من تمكّن من البلاغة و فنون الأسلوب و تقنيات الحكي.

و أميرة غنيم تُظهر كذلك في روايتها هذه معرفة كبيرة للغاية بالثقافة التونسية فيزخر نصّها بالأمثال الشعبيّة التي نكاد نجدها في كلّ صفحاته وهو ما منحه نكهة خاصّة تذكّرنا شيئا ما بالمذاق الطيّب لحكايات عبد العزيز العروي وقصص علي الدوعاجي. ولترسيخ تلك النكهة أو تلك الروح التونسيّة في روايتها ما انفكّت الكاتبة تستعمل كلمات شعبيّة جارية تسمي أشياء وألبسة وأطعمة ومرطّبات تونسيّة ولقد تكبّدت عناء شرحها وتفسيرها في حواشى الصفحات تحسّبا ربما لقراءات قد يقوم بها قرّاء عرب غير تونسيّين.

بالإضافة إلى هذا كلّه نجد لدى الكاتبة جرأة مذهلة في إثارة المحظور وكشف المستور الذي تعرف شخصيات روايتها كيف تتحدث عنه، أحيانا بالإيحاء والدلالات الحافة والغمز وأحيانا أخرى بشيء من صريح الكلام والشفافية والإطناب.
أما هند الراوية المركزيّة في "نازلة دار الأكابر" التي تعترضنا مغتاظة ساخطة في مدخل الرواية فما هي في الحقيقة إلا وكيلة الكاتبة المختفية في طيّاتها و الناطقة على لسانها، فهي لم تنه "حديث البدايات" (ص. 429) في خاتمة القصّ الساحر دون أن تترك لأميرة غنيم مشروع رواية قادمة تفتح لنا فيها "أقفال المحفظة الثقيلة" التي تكتنفها الأسرار و يلفّها الغموض. محفظةٌ قديمةٌ وجدتها الحفيدة مغبرّة بدهليز "دار الأكابر" الذين ولّوا ومضوا دون أن يأخذوا معهم نهائيا منظومتهم الإقطاعية العنيدة الراسبة بالنفوس والعقول رغم حركات التنوير والتحرير ورغم ما أسقط من قيم انسانية نبيلة على ما سُمّي بربوعنا منذ حوالي عشر سنوات "ثورة".

هنيئا للقرّاء هذه الرواية الناجحة بكل المقاييس !

أميرة غنيم، "نازلة دار الأكابر"، تونس ،دار مسكلياني، 2020 ،460 صفحة.

رضا بورخيص

 


 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.