محمد النوري - في الاقتصاد السياسي للدولة التونسية: المأزق والمخرج

محمد النوري - في الاقتصاد السياسي للدولة التونسية: المأزق والمخرج

بقلم د. محمد النوري - في مقال سابق طرحت سؤالا حول ما اذا كانت تونس لا تزال قادرة على إدارة الصعوبات التي تواجهها وتركزت الإجابة بعد الوقوف علي جملة الاخطار الحقيقية التي تهدد الاقتصاد التونسي وهي المديونيةو الانكماش وتعاظم الفجوة المالية وتقهقر الاستثمار وتدهور مناخ الاعمال وكلها اخطار تدفع بالبلاد دفعا نحو الإفلاس، تركزت الإجابة على مسالك أساسية ثلاثة للخروج من المأزق وهيمعالجة الازمة السياسية أولا واجتثاثالفساد ثانيا والاعتماد على الذات لتامين موارد بديلة لإنقاذ البلاد ثالثا.

نحاول في هذا الجزء الثاني المكمل للمقال الاول الغوص في الأسباب التي قادت الى هذا الوضع الخطير والتي ترتبط بقضايا جوهرية تتصل بنمط الاقتصاد السياسي للدولة التونسية منذ الاستقلال الى اليوموتحديدا التوجهات الاقتصادية التي توختها الحكومات التسعة التي حكمت البلاد في مرحلة ما بعد الثورة حيث اتسمت بظاهرتين خطيرتين تغذي احداهما الأخرى هما استشراء الفساد وتعاظم الديون اللتان تقفان وراء المأزق الاقتصادي الراهن الذي ينذر بوشك الإعلان على الإفلاس على خطى التجربة اللبنانية المريرة.

مأزق الاقتصاد السياسي للدولة التونسية

يحيل مفهوم الاقتصاد السياسي الى الأسلوب والطريقة التي تتوخاها الدولة في إدارة اقتصاد البلاد، وهي طريقة تختزل في طياتها علاقة جدلية بين السياسة والاقتصاد وتتطلب مهارة فائقة في التحكم في هذه العلاقة بين الفضاءين السياسي والاقتصادي بحكم ترابطهما الوثيق وحاجة كل منهما للأخر من اجل صناعة السياسة الحكيمة من جهة، وبناء الاقتصاد القوي من جهة أخرى.
 والاقتصاد السياسي كما عرفه مؤسسو علم الاقتصادهو علم بناء الثروة وتوزيعها في المجتمع، وترتبط به مجموعة واسعة من المصالح المحلية والإقليمية والدولية، يتم فيها استخدام ادوات المناورة السياسية والاقتصادية، لتعظيم المنفعة وتحسين التموقع الدولي للاقتصاد.اما السياسة الاقتصادية فهي مجموعة القرارات التي تتخذها الدولة في ميدان اقتصادي معين، عبر عدد من الوسائل والأدوات لبلوغ اهداف اقتصادية واجتماعية محددة،مثل: النمو الاقتصادي، التشغيل، الاستقرار المالي التوازن الاقتصادي، ثبات الأسعار وغيرها.

وكما ان صناعة القرار السياسي الحكيم بحاجة الى مهارة سياسية فائقة واتقان فن المناورة والتفاوض وكسب المواقع خصوصا عند تشابك دوائر النفوذ والاستقطاب العالمي، فان بناء الاقتصاد أيضا يحتاج الى اقتصاديين متخصصين وبارعين يكونوا بالفعل قادرين على الارتقاء بالواقع الاقتصادي وصولاً إلى حالة الاقتدار وتحقيق التوازن. غير ان تدخل الساسة غير الملمين بالشأن الاقتصادي في عمل الاقتصاد وخصوصا في اللحظات الصعبة وفي زمن الازمات أثبت في العديد من الحالات فشلا ذريعاوأفضى لنتائج كارثية مفسدة للسياسة ومضرة بالاقتصادفي آن واحد.

يكشف تاريخ الاقتصاد السياسي التونسي منذ الاستقلال الى اليوم عن تخبط ملحوظ في التوجهات الاقتصادية والخيارات التنموية التي سادتطيلة العقود الستة الماضية. ففي حين كان الهم الشاغل لدولةالاستقلال في السنوات التأسيسية الاولى (1956-1960) يتمثل في تحرير الاقتصاد من مخلفات الاستعمار وبناء مقومات الاقتصاد الوطني حيثاختزلت آنذاك في قطاعي الفلاحة والاستخراج المنجمي مع اهمال شبه تام للصناعة،شهد العقد الثاني من الاستقلال ما يمكن وصفه بالتجربة الاجتماعية (1961-1969) نحت فيها البلاد منحى اشتراكيا مسقطا سيطرت فيه الدولة على مختلف القطاعات تحت شعار "تونسة" الاقتصاد وتحسين مستوى العيش للتونسيين وتقليص الاعتماد على الخارج والسعي لخلق سوق اقتصادية وطنية داخلية.

ومع نبل تلك الاهداف في تلك الحقبة الزمنية الا ان الأرضية الاجتماعية والاقتصادية لم تكن مهيأة لمثل هكذا تجربة التي كانت عنوانا بارزا في الكثير من البلدان النامية في العالم في ستينات وسبعينات القرن الماضي مما عجل بنهايتها بشكل سريع وبحصيلة هزيلة وامتعاض شعبي واسع.وهو ما كشف عنه مبكرا تقرير البنك الدولي الذي أبرزحجم العجز المالي للمؤسسات الوطنيةوأوصى بضرورة التوجه الى اقتصاد السوق وتحجيم دور الدولة والاعتماد على القطاع الخاص في إدارة الاقتصاد وهي التوجيهات التي تشكل معالم المرحلة اللاحقة، مرحلة الرأسمالية المقيدة (1970-1982).

نفس المنهجية ونفس الأخطاء اتسمت بها المرحلة الجديدة وهيالتعسف وعدمتهيئة الأرضية المطلوبة في التحول من مرحلة الى اخرى اي الانتقال من "التعاضدية" ذات الطابع الاشتراكي الى اقتصاد السوق الرأسمالي ومن التأميم الى الخوصصة، كل ذلك أدخل البلاد في اول أزمة اقتصاديةخانقة (1982-1986) أدت الى تدخل صندوق النقد الدولي وفرض ما يعرف ببرنامج الإصلاح الهيكلي ومن ثم  التحرير القسري للاقتصاد (1987-1995) وابرام الشراكة بصورة غير متكافئة مع الاتحاد الاوروبي، ثم تأهيل الاقتصاد (1995-2008)الذي لم يكن سوى عملية اسعاف متأخرة لفشل الإصلاح مما أدى الى الوقوع في الازمة من جديد وتقويض النظام السياسي برمته في ثورة 14 جانفي 2011 التاريخية التي كانت شعاراتها الأساسية ضد البطالة والفساد والاستبداد ومطالبة بالحرية والكرامة والتشغيل.

الى حين ثورة 14 جانفي 2011، لم يكن الاقتصاد السياسي للدولة التونسية، في جوهره سوى خليطا من الخياراتالهجينة والمتذبذبة التي عبرت عنها جملة المعضلات الهيكليةالتي رافقت مسيرة الاقتصاد الوطني من نمو هش وغير مستقر الى ضعف الإنتاجية،الى قيمة مضافة محدودة الى بنیة اقتصادية غیرملائمة للتخصص والاندماج في السوق العالميةالي نمط ريعي للاقتصاديتمعش منرأسماليةالزمالة والفساد. بالإضافة الى ضعف الاندماج القطاعي وغياب منظومات الإنتاج وعدم الملاءمة بین التكوين وسوق الشغل والتفاوت بین الجھات وغياب العدالة الاجتماعية بين الفئات والافراط في الديون والاعتماد المتزايد على الخارج.

من الانكشاف الى الانكماش

يمكن ان يكون العنوان البارز للمرحلة السابقة، مرحلة ما قبل الثورة (1956-2010) مرحلة الانكشاف الاقتصادي نتيجة تذبذب الخيارات وفقدان البوصلة والمراوحة بين الاعتماد على الذات وبناء الاقتدار وبينالاقتصاد الاتكالي المعتمد كليا على الخارج، بين الحمائية والانفتاح، بين تعظيم دور الدولة (التأميم) وتحجيمه (الخوصصة)، فان المرحلة الجديدة لما بعد الثورة (2011- 2020) يمكن ان يكون عنوانها التراجع والانكماش (أي النمو السالب)وهو ما يعنيالانتقال من حالة الازمة الى حالة الإفلاس مما يقود الى تفاقم الاحتقان الاجتماعي وبالتالي الفشل في احداث الانتقال الاقتصادي المنشودالناتج عن التعثر في المسار السياسي وإنجاز الانتقال الديمقراطي.

لقد انتقلت تونس بعد الثورة من الانكشاف الى الانكماش ومن مواجهة المصاعب وإدارة الازمة الى إدارة خطرالإفلاس، وهو وضع غير مسبوق في تاريخ البلاد يذكر بما عاشته البلاد قبيل انتصاب الحماية في ظرفية اشتدت فيها الأزمة المالية التونسية واستحال على الدولة تسديد ديونها الخارجية وتشكيل لجنة "الكومسيون المالي"سيئة الذكر.

فلأول مرة في تاريخ البلاد يتراجع النمو الاقتصادي بشكل سريع وملفت في ظل التداعيات الخطيرة والمباغتة لجائحة الكورونا التي اندلعت في بداية العام الجاري وتدخل البلاد في مرحلة الانكماش التي بلغت معدلات مفزعة وفق ما كشفه التقرير الأخير الصادر عن المعهد الوطني للإحصاء حيث سجل نسبة نمو سالب ب 21،6-٪ للثلاثي الثاني من هذا العام ناسفا تقديرات كل من وزارة المالية والبنك المركزي، التي اكتفت بتسجيل نسبة تدور حول12-٪ ، ونسبة بطالة تقدر ب 18٪ (بما يعادل 161 الف عاطل جديد عن العمل)، ونسبة عجز في الميزان التجاري تقدر ب 12٪ومستوى دين عمومي يقترب من التسعين مليار دينار (90 ألف مليار)، اي ما يُقارب ال90% من الناتج المحلي الإجمالي،مع تدهور مستمر للترقيم السيادي للدولة التونسية وما يعنيه من صعوبة لة الحصول على ديون جديدة الى جانب تعطل الإنتاج وتقهقر الاستثمار وتدهور المناخ الاجتماعييوما بعد يوم.

لقد كانت الأرقام التي قدمها المعهد الوطني للإحصاء الأسبوع الماضي صادمة للجميع وكارثية بأتم معنى الكلمة لم يصل اليها على ما يبدو أي اقتصاد في العالم لحد الان، وهي تهدد الامن القومي للبلاد ما لم يتم التدارك ومحاولات الانقاذ.

يذكران من ضمن 90 دولة مرت تاريخيا بنفس التجربة أي التخلص من الديكتاتورية والمرور الى مرحلة الانتقال الديمقراطي على الصعيدين السياسي والاقتصادي لم ينجح سوى النصف تقريبا بينما النصف الآخر فشل أو تعثر في الطريق ومعظم أسباب ذلك الفشل او التعثر هي أسباب سياسية واقتصادية تحديدا.

واستنادا إلى المؤشرات الأخيرة للبنك المركزي فان الدين العمومي التونسي تحول إلى دين غير قابل للتحمل حيث ارتفع من 40٪ من الناتج الإجمالي عام 2010 الى حوالي 90٪ عام 2020 متجاوزا بأضعاف مضاعفة قيمة مدخرات البلاد من النقد الأجنبي وموارد القطاع الخارجي برمته. كما أن الوضع الخطير للمديونية يقترب من حالة اليونان حينما دخلت طور الإفلاس من حيث متوسط مدة سداد الدين (58 عام لتونس مقابل 62 عام لليونان).كما أن ارتفاع حاجات تونس للتمويل الخارجي بما قدره 13 مليار دينار دون احتساب العجز المالي للمؤسسات العمومية (6 مليار دينار) بما يناهز نصف ميزانية الدولة تقريبا يعني أن الحكومة أصبحت عاجزة على التحكم في وتيرة الانهيار فضلا عن إمكانية الحصول على قروض خارجية لتلافي الإفلاس في ظل توقف صندوق النقد الدولي عن الاستمرار في مرافقة الوضع في انتظار استتباب الاستقرار السياسي وتشكيل الحكومة الجديدة.

لم يعد الإفلاس اذن مجرد دعاية او شبح يلوح في الأفق بل تحول الى حالة ملموسة وواقع مرير وجب الوقوف عنده ووضع التصور والأدوات الضرورية لمجابهته. وللتذكيرايضا ، فان الحالات القليلة التي وصلت الى هذا الحد وآخرها الحالة اللبنانية بدأت بنفس الأعراض والمؤشرات من ارتفاع قياسي في نسبة التداين، الى استشراء مفزع للفساد وتغوله على الدولة مع صراعات سياسية بين الأحزاب والاطياف السياسية، مع تدهور الاستثمار وهروب رؤوس الأموال إلى الخارج.تلك هي مقدمات الإفلاس التي يفقد فيها الاقتصاد مناعته المالية والبلاد سيادتها الوطنية، وهو ما يعزز نزعات الاستنجاد بالخارج ويغذيمشاعر القابلية للاستعمار والتدخل الاجنبي.

ما العمل لتفادي الكارثة؟

في مثل هذه الاوضاع  الاستثنائية لا مناص من حلول جريئة غير عادية: بعد الخروج من الازمة السياسية المعيقةلكل شيء لا مناص من اعلان حالة طوارئ اقتصادية شعارها التضامن الوطني والاعتماد على الذات بتحشيد كافة الامكانيات الكامنة في المجتمع والعمل قدر الامكان على استرداد الثروات المنهوبة وإيقاف نزيف تهريب الاموال واجتثاث الفساد والتلاعب بالمال العام ومراجعة السياسات المالية والنقدية وترشيد الاولويات والاستعاضة عن الاقتراض الأجنبي بالاقتراض الداخلي واللجوء الى تأجيل الديون (وليس إعادة جدولتها) وإيقاف نزيف الاقتصاد الموازي وتفعيل موارد بديلة لتخفيف الأعباء على الدولة وتمويل الاقتصاد:

أولا: معالجة الازمة السياسية في إطار احترام الدستور ومؤسسات الدولة

مثلما ان هناك علاقة جدلية من زاوية مفاهيمية للاقتصاد السياسي بين الاقتصاد والسياسة، هناك أيضا علاقة جدلية بين الإفلاس الاقتصادي والافلاس السياسي بحيث يرتبط الفشل في المجال الاول بالفشل او التعثر في المجال الثاني. وفي الحالة التونسية يبدو ان هناك التقاء بين ارادات البعض من الأطراف السياسية التي تدفع دفعا نحو افشال النظام السياسي الذي افرزه دستور2014 القائم على توازن السلطات في اتجاه العودة الى نظام رئاسي بل رئاسوي فظ مما يضاعف من الصعوبات التي تعترض البلاد ويساعدعلى التسريع بإعلان الإفلاس المالي الذي يمثل الكارثة الكبرى على البلاد.

لا يمكن الخروج من هذا الوضع المظلمدون الخروج من دوامة الازمة السياسية وفض الصراعات والتجاذبات بين مختلف الأطراف وفي مقدمتها الصراع بين الرئاستين: رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان عبر احترام الدستور والالتزام بالنظام السياسي القائم واصلاحه تدريجيا وبالقانون وبالتالي منع تغول احداهما على الأخرى، هذا اولا. وثانيا انهاء التجاذبات السياسية والمناكفات الحزبية داخل قبة البرلمان عبر تطبيق صارم للقانون واستخدام القوة العامة عند الحاجة. وثالثا دعم حكومة سياسية بكفاءات وطنية مهمتها الاولى والأخيرة استكمال مسار الانتقال الديمقراطي بتشكيل المحكمة الدستورية وتعديل النظام الانتخابي وتسيير دواليب الدولة في انتظار إنجاز انتخابات سابقة لأوانها في غضون عام على اقصى تقدير تتيح الفرصة للطرف او الأطراف الفائزة تنفيذ برنامج الإصلاحات المطلوبة لإنقاذ البلاد.

ثانيا: اعلان حرب حقيقية على الفساد والتلاعب بالمال العام

ان الفساد بمختلف تمظهراته واشكاله تجعل منه العدو الأول للاقتصاد والسرطان الذي يفتك بالبلاد ويدفع بها نحو الإفلاس. لا بد من الإقرار بان ما تم لحد الان بهذا الخصوص لا يتعدى مجرد اعلان نوايا توحي بمقاومة الفساد ولكنها تستنكف عن مقاومته، بينما المطلوب هو اعلان حرب حقيقية على هذه الآفة التي تنخر جسم الاقتصاد، عبر تشديد العقوبات ووضع منظومة ردع شامل وتفعيل دور الأجهزة الرقابية في الإدارات العامة واسنادها صلاحيات واسعة لمحاسبة الفاسدين والمتواطئين معهموتفعيل دور المجلس التشريعي في أداء دوره الرقابي وتطبيق مبدأ "من أين لك هذا؟" لكي ينتفي شعور الناس بأن القانون لا يطبق إلا على البسطاء منهم، بينما كبار الفاسدين هم فوق القانون.

  لقداكدت العديد من الدراسات والتقارير المتعلقة ب"اقتصاديات الفساد" الكلفة الاقتصادية الباهظة لهذه الآفة التي تقدر بما لا يقل عن 3 او 4 نقاط نمو،وآخرها التقرير الصادر عن مركز التفكيرالأمريكي الدّولي "كارنيغي"، حول تونس، والذي أشار فيه الى أن استشراء “الفساد والمحسوبيات” على نطاق واسع في البلاد بات “يهدد التجربة الديمقراطية التونسية برمّتها”. كما حمّل المركز الأطراف السياسية الحاكمة المسؤولية الاولى عن تردّي الأوضاع العامة في البلاد وعن تواصل عمليات “نهب الدولة”، بعد “فشلها” في تحقيق “تغيير يُعتدّ به” خصوصا في الإصلاح الجبائي أو الفلاحي، واعتبر " ان الفساد المستشري لوّث كل مراتب الاقتصاد وأجهزة الأمن والنظام السياسي في البلاد”.

ثالثا: المديونية الداخلية بديلا مؤقتا عن المديونية الخارجية

من خلال تفحص الأرقام المذهلة للمديونيةبات واضحا حقيقة المأزق الذي وصلت اليه البلاد (ما يناهز 90 مليار دينار) خلال السنوات القليلة الماضية وترسخت القناعة بان التمادي في هذا المسلك وبشروط مجحفة وكلفة عالية سوف لن يحل المشكلة بل لن يزيد الا الطين بلة ويدفع الى تعفن أكثر للأوضاع والاقتراب من حافة الإفلاس بسبب عدم القدرة على تسديد تلك الديون.

  وإذا كان التمادي في الاقتراض على مدار الأعوام الماضية هو خطأ كبير ولا شك في ذلك، فان الخطيئة الكبرى التي مارستها الحكومات دون استثناءهو الإدمان في الاقتراض دون التفكير في حلول موازية وبديلة على الأمد المتوسط والطويل لإيقاف النزيف ومنع الكارثة. ولو حصل ذلك لما وصلنا الى هذا الوضع المزري. ومع ذلك لا يزال هناك إمكان لانتهاز فرصة هذه الجائحة الكونية (الكورونا) للتوقف عن هذا المسار الخاطئ وتعديل السياسات والاقدام على إجراءات غير تقليدية على غرار العديد من البلدان الأخرى التي سارعت الى مثل هذه الاجراءات ومنها الاستعاضة عن المديونية الخارجية المكلفة ماليا واقتصاديا وسياسيا بالمديونية الداخلية عبر المؤسسات المالية المحلية. ومن المفارقة ان هذه المؤسسات هي الوحيدة في زمن الازمة التي تشهد انتعاشا في نمو مداخيلها وارباحها في حين تعاني الدولة من انكماش مفزع. والاغرب كذلك قيامها بإقراض الحكومة بأسعار فائدة مجحفة. لقد أصبح التخلي ولو بشكل تدريجي عن قرار "استقلالية البنك المركزي" او تعليقه امرا ضروريا وملحا من اجل تقديم سيولة مالية مباشرة للدولة دون نسبة فائدة حرصا على تحصين المناعة المالية للبلاد بدلا من المرور بالبنوك المحلية لتوفير التمويل المطلوب.

رابعا: اعلان حالة الطوارئ الاقتصادية وإطلاق نداء عاجل للتضامن الوطني

يستدعي هذا الوضع الخطير الى اعلان حالة طوارئ اقتصادية شاملة تحت شعار التضامن الوطني من قبل الجميع: رأس مال وطني، مجتمع مدني، منظمات وطنية، واتخاذ جملة من الاجراءات العاجلة لإيقاف النزيف وترشيد الانفاق وتكثيف الإنتاج والتصدي بصرامة لكل الجهات المعيقة لهذا المسار الانقاذي.

وبدلا من شيطنة رأس المال والترويج للصراع الطبقي في المجتمع، بين الفقراء والأغنياء،والنفخ في هذا الصراع، وهو ما من شأنه أن يساهم في مزيد ارباك الاوضاع، والعكوف عن الاستثمار وتغذية الانكماش ، بات من الضروري جدا التمييز  بين راس المال الوطني وراس المال الفاسد، بين رجال الاعمال النزهاء ورجال الاعمال الفاسدين، الذي يستفيد في حالتي الرخاء والشدة، يستفيد زمن الرخاء من الامتيازات التي تمنحهاالدولة من مال المجموعة الوطنية ومن القروض الوفيرة والميسرة بدون قيود ولا ضمانات، ويستفيد زمن الازمة  من برامج التأهيل وإعادة التأهيل والدعم المجاني في اطار جهود الدولة لحماية المؤسسات من الإفلاس.

لا بد من التحرك في الاتجاهين: في الاتجاه الاول لمحاصرة رجال الاعمال الفاسدين والمتورطين في نهب المال العام ودفعهم بكل الوسائل الى أداء الديون "المشطوبة" والتي تقدر ب 13،5 مليار دينار وهو الرقم المتداول في الاوساط السياسية والمالية واكده تصريح رئيس الدولة بذلك ووعد بالعمل على استرداده دون نتيجة تذكر لحد اليوم. وتحرك في الاتجاه الثاني للاستنجاد برجال الاعمال الوطنيين للقيام بجهد تضامني من طراز خاص لتجنب الكارثة التي سوف لن ينجو منها أحد. مطلوب من هؤلاء أكثر من أي وقت مضى الانخراط بفعالية في هذا الجهد التضامني لإنقاذ البلاد من كارثة الإفلاس وتقليص الاستنجاد بالمؤسسات المالية الدولية.

لم يعد مقبولا ولا معقولا ان يبلغ معدل النمو السالب للاقتصاد مستوى غير مسبوق تاريخيا (21،6-٪) في حين تسجل أرباح البنوك والمؤسسات المالية ارتفاعا استثنائيا يناهز 13+٪ بسبب الخيارات الطائشة التي يمارسها البنك المركزي تحت شعار الاستقلالية.

ان تونس ليست بلدا فقيرا كما يقال بل لها من الامكانيات والثروات ما يجعلها تتجاوز بيسر في الآماد الزمنية المعقولة مثل هذه الصعوبات لو توفرت الارادة وكانت لديها قيادة حصيفة ورشيدة تقدم القدوة الصحيحة والاسوة الحسنة في محاربة الفساد وفي نمط العيش والانفاق وتعطي المثال الحي والملموس لذلك.

خامسا: إيقاف نزيف تهريب الاموال للخارج عبر إجراءات تشريعية صارمة

من المؤشرات الخطيرة التي وردت في التقرير الأخير للبنك المركزي تفاقم ظاهرة تهريب الاموال الى الخارج منذ اندلاع ازمة جائحة الكورونا حيث سجلت هذه الظاهرة انهيارا مأسويا من خلال تقهقر الاستثمار الأجنبي المباشر الذي تراجع من 386 مليار عام 2018 ليبلغ الصفر (نعم الصفر) نهاية عام 2019 وبداية العام الجاري من جراء تدهور مناخ الاعمال وتعطل الانتاج وتفضيل المستثمرين الأجانب التوجه الى بلدان اخرى أكثر أمنا ومردودية.

اما المؤشر الخطير الثاني الذي أشار اليه التقرير المذكور فيتعلق بالاتجاه المعكوس الذي سجلته تحويلات التونسيين المقيمين بالخارج التي تمثل موردا مهما من موارد الدولة بالعملة الصعبة، حيث توقفت تلك التحويلات وحلت محلها تحويلات في السوق الموازي للنازحين الجدد من الكفاءات الوطنية التي اختارت طريق الهجرة الي الخارج والتي تقدر ب 10 آلاف سنويا منذ عام 2011 من الأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات الذين يقومون بتهريب مدخراتهم بطريقة غير شرعية دون اية رقابة من سلطات البنك المركزي.

فاذا أضفنا هذه الظاهرة الجديدة لتهريب الاموال الى الظواهر التقليدية الأخرى التي تداولتها مراكز أبحاث وتقارير دولية عديدة على غرار تقرير منظمة النزاهة المالية العالمية الصادر في ديسمبر2015 التي قدرت حجم الاموال التونسية المهربة الى الخارج قبل الثورة وبعدها بحوالي 60 مليار دولار 40 مليارمنهم قبل الثورة و20 مليار بعدها، ندرك جميعا حجم الكارثة التي تحاك خيوطها منذ سنوات وتحت انظار مؤسسات الدولة وفي مقدمتهم البنك المركزي. لقد تحولت تونس بحكم هذه الظاهرة الى بؤرة من بؤر تهريب الاموال وأضحت تحتل وفق هذا التقرير المرتبة 57/149 عالميا بمعدل 1،6 مليار دولار (أي ما يناهز 5 مليار دينار) سنويا.

هل تقف الدولة مكتوفة الايدي امام هذا الوضع ام مطلوب سن قوانين صارمة لإيقاف النزيف ومحاسبة الأطراف التي تقف وراء ذلك؟

سادسا: مراجعة السياسة المالية والنقدية وتعليق قرار استقلالية البنك المركزي

تكاد تجمع مواقف وآراء عديدة للخبراء والمهتمين بالشأن المالي أنه آن الأوان لمراجعة القانون الأساسي للبنك المركزي الذي تم تعديله عام 2016في اتجاه استقلالية هذه المؤسسة السيادية ومنعا بالتالي من تمويل الاقتصاد وتوفير السيولة المالية المطلوبة في الوقت المطلوب بطريقة مجانية بدلا من اللجوء الى البنوك التجارية للاقتراض بنسب فائدة مشطة ساهمت في تفاقم المديونية العمومية ووفرت أرباحا ضخمة لتلك البنوك على حساب الدولة. كما أجبر هذا القرار الخاطئ المؤسسات العمومية التي تشهد عجزا متفاقما بدورها على الاقتراض من البنوك الأجنبية وخاصة الاوروبية منها وبالعملة الصعبة(اليورو) وتحملها لمخاطر تقلبات سعر الصرف وانزلاق الدينار وبضمان من الدولة مما ساهم في استفحال ازمة تلك المؤسسات واستدراجها للإفلاس حتى يتم التفويت فيها.

الى جانب ذلك بات من الضروري مراجعة جذرية للسياسة النقدية التي يمارسها البنك المركزي ولا يزال يتشبث بها رغم فشلها الذريع في تصحيح الاوضاع وتعديل التوازنات المالية للدولة. فقد بحت أصوات العقلاء مطالبة البنك المركزي بتخفيض سعر الفائدة وتنزيله بشكل كبير على غرار ما انتهجته بنوك مركزية عديدة في شتى انحاء العالم حيث بلغ حدود الصفر في بعض البلدان وما دون الصفر في بلدان اخرى بهدف تقليص كلفة الإنتاج وتشجيع الاستثمار وتحريك النمو وتجنب الانكماش. لم يعد التذرع بالحفاظ على سعر فائدة مديرية مرتفع من اجل مقاومة التضخم مقنعا في ظل التدهور المستمر للوضعين الاقتصادي والمالي ودخول البلاد مرحلة خطيرة من الانكماش والنمو السلبي حيث لا يشكل خطر التضخم فيها سوى عاملا محدودا لا يقاس بالمخاطر الكلية الأخرى الناجمة عن هذه الخيارات التقليدية الخاطئة.

ان السياسة النقدية المتبعة من قبل البنك المركزي هي احدى "الإصلاحات" التي يشترطها صندوق النقد الدولي وهي سياسة لم تنجح في محاصرة التضخم لان التضخم ظاهرة ليست بالضرورة نقدية صرفة وانما تعود الى عوامل معظمها غير نقدي مثل انزلاق الدينار وتقلبات أسعار الطاقة وعدم التحكم في مسالك التوزيع والاقتصاد الموازي بالإضافة الى تقهقر الإنتاج وتراجع الانتاجية.

سابعا: اللجوء لطلب تأجيل الديون وليس اعادة جدولتها

على اثرجائحة الكورونا بادرت العديد من البلدان ذات الاوضاع المالية الهشة الى مطالبة الدائنين بتأجيل تسديد الدفعات الجارية من ديونها نظرا لاستحالة هذه البلدان في الاستمرار في الوفاء بتلك الديون في الآجال المحددة. وقد وافق صندوق النقد الدولي على المجموعة الأولى من الدول الافريقية التي ستحصل على منح لتغطية التزامات خدمة ديونها المستحقة لصندوق النقد لفترة مبدئية ستة أشهر.

وفي هذا الإطاردعا المجلس العلمي الاستشاري للمحكمة الدولية الدائمة للتحكيم ومقرها بتونس المانحين لقروض إلى الدولة التونسية تأجيل التفاوض بشأن سداد الديون، كما طالب الشركات الأجنبية التي تنشط في السوق المحلية بتأجيل تحويل أرباحها لدول المنشأ لمساعدة تونس على تخطي أزمتها وشبح الإفلاس بعد ازمة كورونا. مطلوب اذن من الحكومة التونسية إدراج طلبها ضمن قائمة الدول المستفيدة من هذا الاجراء. ومن المفهوم التلكؤ في هذا الطلب في الوقت الذي تتجه فيه أوضاع البلاد شيئا فشيئا نحو اعلان الإفلاس.

ثامنا: تفعيل المطالبة باسترداد الاموال المجمدة بالخارج

ليس هناك لحد الان تقدير دقيق ورسمي لحجم الاموال المنهوبة من اركان النظام السابق وان كانت بعض الأرقام المتداولة تصل الى حوالي 20 مليار دولار، توجد في شكل حسابات بنكية وعقارات واصولموزعة بين العديد من البلدان منها سويسرا وفرنسا وكندا وألمانيا وليكسمبورغ واسبانيا وإيطاليا والكونغو وليبيا والامارات العربية، وهو مبلغ كاف لوحده لانتشال الاقتصاد الوطني من الإفلاس.

ومن الواضح ان الدولة لم تقم ولا تقوم بما هو مطلوب لاسترداد هذه الأموال المجمّدة منذ عام 2011 كما عبر عن ذلك مسؤولون أجانب معنيون بمتابعة هذا الملف، ولا يعد ذلك في صدارة الاهتمامات الرسمية للدولة لأنهلو كانت توجد رغبة حقيقية في استعادة هذه الأموال لحصلت نتيجة ولتم ربما غلق الملف برمته او على الأقل جزء منه في ظرف وجيز. لقد صرح رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ان "تونس والسلطات التونسية مسؤولة مسؤولية مباشرة عن عدم استرجاع تلك الأموال" مشيرا الى ارتكاب السلطات "اخطاء اجرائية وقانونية لاسترجاع تلك الاموال بسبب الغياب الكامل في التنسيق مع الدول المعنية رغم ان دولا عبرت عن إرادتها في دعم تونس في هذا المجال على غرار سويسرا التي قامت بشكل "طوعي" بتجميد الأصول المالية المكتسبة بغير وجه حق زمن النظام السابق. كما تشير المعطيات ايضا أن "جزءا هاما من تلك الأموال تبخّر في حين أن جزءا آخر استرجع من قبل رجال اعمال فاسدين وهو ما يدعو الى ضرورة أن تتدارك الدولة التونسية الأمر لكي يتم استرجاع ما تبقى من تلك الأموال.

تاسعا: التصدي لاتساع دائرة القطاع الموازي غیرالمنظم

تتسع دائرة القطاع الموازي كل يوم وأصبحت تهدد حتىالقطاع المنظم نفسه،الى حد يصبح الاقتصاد المنظم هو "الموازي" في بعض القطاعات والمناطق. وتضم هذه الدائرة العديد من الأنشطة والمداخيل غير المصرّح عنها والتي لا تخضع للرقابة وللأداءات والضرائب وترتكز أساسا على التهريب والتهرب الضريبي وفي نفس الوقت یستفید من اغلب الخدمات المقدمة لغیره من القطاعات وبكل أشكالها. وبينما يوغل الاقتصاد المنظم في الانكماش، تشير الأرقام ان الاقتصاد الموازيسجل نموا متسارعا تجاوز 10٪ سنويا، ويستحوذ على40 الى 50٪ من الناتج الإجمالي ويستقطب 41،5% من الناشطين 75٪ منهم من الشباب.

يتطلب التصدي لهذه المعضلة اعتماد مقاربة شاملة للإدماج وسن عفو شامل ذو صبغة جبائية واجتماعية ونقدية وجمركية بالتوازي مع التعجيل بتغيير الأوراق النقدية والقضاء على تداول العملة بعدة إجراءات منها منح صفة غير المقيم لأموال المقيم والمرونة في إيداع الأموال بالعملة والصعبة.

لم تتعامل الدولة لحد الان بجدية مع هذه الظاهرة رغم ان كل الحكومات ترفع شعار محاربة الاقتصاد الموازي ولكن على أرض الواقع لا شيء تحقق. والسبب أن هناك أطرافا ودوائر من داخل الدولة لا تزال تؤمن بالاقتصاد الموازي وتعتبره موردا من موارد الثراء فضلا عن أباطرة التهريب الذين لا يتورعون في بعض الأحيان عن استعمال السلاح.

عاشرا: تفعيل برامج الموارد البديلة لتخفيف الأعباء على الدولة وتمويل الاقتصاد

ضروري أخيرا مراجعة النموذج التمويلي التقليدي القائم على الاقتراض والجباية. فالاعتماد على الاقتراض أوقع البلاد في فخ المديونية وأودى الى الإفلاس، والاعتماد على الجباية افضى الى تقلص الإيرادات الجبائيةبسببانكماش الوعاء الضريبي والنزوع الى التهرب وتفضيل اللجوء الى القطاع الموازي. ان النموذج الجبائي السائد ترهل وتحول الى معضلة تنضاف لبقية المعضلات وهو عائد الى ارتفاع معدلات الضريبة من جهة وغياب العدالة الضريبية من جهة اخرى.
 اللجوء الى حلول بديلة أصبح ضرورة عاجلة،الهدف منها تخفيض المعدلات وتوسيع الوعاء وتكريس العدالة.  ومن الأفكار الجديرة بالاهتمام في هذا الإطار، فكرة الضريبة على الثروة التي تحقق تلك الاغراض وتساعدعلى ادماج الاقتصاد الموازي فضلا عن توفير مداخيل إضافية للدولة قد تصل وفق بعض التقديرات الى ما بين 1 و3 مليار دينار سنويا.ومن الأفكار ايضا يمكن ادراج صندوق الزكاة ضمن الموارد البديلة التي تقدر إيراداتها هي ايضا الى ما لا يقل عن 3،5 مليار دينار سنويا.كما انه من المنتظر كذلك ان يدخل قانون الاقتصاد الاجتماعي التضامني حيز التطبيق فيسهم بدوره في معاضدة القطاعين العام والخاص وتخفيف الأعباء المالية على الدولة الى جانب كلا من قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص PPP وقانون التمويل التشاركيCrowdfunding الذي صودق عليه مؤخرا وهما من البرامج الواعدة التي تشكل موارد تمويلية بديلة.

الخلاصة: هل تكون هذه الازمة من قبيل رب ضارة نافعة؟

ربما تكون هذه الازمة فرصة للتدارك وإنقاذ الموقف وتحمل المسؤولية واتخاذ خطوات واجراءات غير تقليدية من شأنها إيقاف النزيف وصد الكارثة. ومن شأنها أيضا نقل الاقتصاد الوطني من اقتصاد ريعي اتكالي الى اقتصاد انتاجي تضامني عماده التعايش بين القطاعات الثلاث: الخاص والعام والاجتماعي التضامني، وغايته التكامل بين رؤوس الاموال الثلاثة: رأس المال المالي ورأس المال البشري ورأس المال الاجتماعي، ومحوره انتقال وظيفة الدولة من اطار الدولة المحايدة الى اطار الدولة المبادرة L’état entrepreneur على غرار التجارب التنموية الرائدة في دول عديدة من العالم.

أولى هذه الخطوات تتمثل في مراجعة أولويات الإنفاق، والعمل بمشروعات مؤقتة للميزانيات، تتناسب وطبيعة المرحلة، يكون تركيزها الأساس منصباً على مواجهة الازمة بتسخير كل القدرات والإمكانات وتضامن وطني شامل ومساعدة الفئات الاجتماعية الأشد فقراً، وسد كافة القنوات التي يتسرب إليها الفساد المالي، الذي يستنزف جزءا كبيرا من الثروة الوطنية ويستهلك معظم ميزانيات المشروعات بالعديد من القطاعات.

إن النجاح الذى حققته دول شرق آسیویة عديدة مثل كورياالجنوبيةوتايوان وسنغافورة  وماليزيا واندونيسيا ، لم یكن بفضل اعتمادها المطلق على آلیات السوق والاذعان لشروط واملاءات صندوق النقد الدولي،  بل كان مفتاح النجاح ھو تفعيل دور الدولة والانتقال بها من الدولة التعديلية والمحايدة الى الدولة المبادرة وهو المنهج الذي توخته حكومات تلك الدول في مختلفسياساتهاالصناعيةوالتجاريةوالاجتماعية الداعمة للتنمية ، وتدخلهاعبر إقامة المشروعات التي تعمل على تحقيقتغيرات ھیكلیة ذات شأن فياقتصاداتها ، فضلا ً عن سعيها بسبل شتى لترویض قوى السوق والتحكم فيمساراتها وتسخیرھا لخدمة التنمية . لم تتحقق التنميةفي تلك الدول اذن بفضل آلیات السوق فقط، بل تحققت بفضل توجبه الدولة للأسواق ومراقبة تحركاتها وضبطها في الاتجاه الصحيح، وھي الخيارات التي ساهمت في انتقال معظم ھذه التجارب الناجحة نحو منوال تنمويجديد یقوم على نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي.

د. محمد النوري

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.