رشيد خشانة: حكومة الكفاءات وليــدة الإكـراهات
بقلم رشيد خشانة - بعد مشاورات ماراتونية مع رؤساء الجمهورية والحكومة السابقين وزعماء الأحزاب الممثلة في البرلمان، إلى جانب عدد من الشخصيات الوطنية، حزم رئيس الحكومة المكلف هشام المشيشي أمره وحسم خياراته، في اتجاه حكومة كفاءات وطنية من المستقلين. لم يكن هذا القرار سهلا، لكن ما شجّع على اتخاذه هو أنّ رئيس الجمهورية، الذي منح التكليف، منسجم مع قرار الرئيس المكلف.
ثلاثة مُحدّدات
انبنى القرار على ثلاثة عناصر: أولها معاينة درجة الفرقة والتنابذ بين الأحزاب، التي تجعلك تستعيد المناخ الملوث بالصراعات الصغيرة في مجلس النواب، طيلة الفترة الماضية، مما جعل إمكانات التعايش بين تلك الأحزاب، فضلا عن التضامن الحكومي، أمرا شبه مستحيل. ولاشك أنّ المشاهد المُقززة للصراعات الصبيانية التي لم نعرف مثيلا لها من قبل، لها ثمنٌ سيدفعه المعنيون يوما ما، ولعلّ تشكيل الحكومة هو أحد لحظات الحساب. وكيفما كان الحال، مادامت الثقة منعدمة بهذه الدرجة بين الأحزاب، كان من المنطقي أن يُقرر رئيس الحكومة المكلف استبعادها من تشكيلته.
العنصر الثاني هو أنّ الاستبعاد من الحكومة لا يعني حسبما قال المشيشي الاستغناء عن التشاور مع الأحزاب وتبني المشاريع والأفكار الجيدة (إن وُجدت) التي تطرحها. أما العنصر الثالث والأهم فهو أنّ البلاد مقبلة على ظرف شديد الدقة والصعوبة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، وهو وضع استثنائي من جميع الجوانب، وبالتالي فهو يتطلب حلولا وصيغا استثنائية ومنها حكومة الكفاءات المستقلة. لا يعني هذا الاستنقاص من الكفاءات الجيدة لدى بعض الأحزاب، ولكن هذه العملية متراكبة ومتشابكة فإذا اخترت خبيرا من حزب معين رفع الآخرون عقيرتهم بالصياح والاحتجاج، مطالبين بتسمية اثنين منهم.
نمو سلبي ومفاوضات عسيرة
من المعروف أنّ الديمقراطية تقوم على تعدد الأحزاب وعلى تباريها في انتخابات حرة وشفافة، تنبثق منها الحكومات الشرعية. لكن عندما نكون في بلد بلغت نسبة البطالة فيه 19 في المئة (وهي مرشحة للارتفاع)، ووصلت نسبة التداين الخارجي إلى 86 في المئة من الناتج الداخلي الخام، وتُقدر نسبة النمو السلبي فيه هذه السنة بـناقص 6.5 في المئة، مع اتجاه نحو ناقص 10 في المئة، فلا يمكن في ظلّ هذه المؤشرات المفزعة، أن ننعم برفاهية التنافس على الحقائب الوزارية، ولا بجعل الحكومة سفينة نوح فيها من كل زوجين اثنين. بل يبدو أنّ أحزابا قالت إنّهـــا ستكتفــــي بحقيبة واحدة، لأن المهـــــم بالنسبة إليها أن تحتمي بالحصانة.زعمــــاء.
المحاصصة الحزبية
كانت حركة "النهضة" الأعلى صوتا في معارضة حكومة الكفاءات، والتمسك بالمحاصصة الحزبية، مع أنّ غالبية وزرائها لم يقدموا، خلال تسعة أعوام وثماني حكومات أداء يختلف نوعيا عن وزراء الأحزاب الأخرى. ثم إنّ الأحزاب التي تصرّ على الانضمام إلى الحكومة اليوم، قدمت خلال الحملات الانتخابية السابقة، برامج متشابهة بنسبة 80 في المئة، وبعضها طوباوي تماما لمن يعرف الواقع التونسي. وإذا كانت هناك أفكار وجيهة في تلك البرامج فمن المستبعد أنّ حكومة الكفاءات ستلقي بها في سلة المهملات ولا تدمجها ضمن برنامجها. لكن أين ستجد أفكارا حصيفة في حزب مثل "قلب تونس" أو "ائتلاف الكرامة"؟
أما حركة "النهضة" فلعلّ السبب الرئيسي في رفضها الخروج من الحكومة، هو اعتقادها أنّ ذلك يكشف ظهرها ويجعلها في وضع استهداف شبيه باستهداف "حزب العدالة والحرية" المصري بعد انقلاب جويليـــة 2013. وهذا منطــــق مرفــــوض لأنَ الوضع التــونســـــي في جميع أبعــــاده مختلف تماما عـــن الحالة المصرية.
أمام الأحزاب طريقان
لكن ما هو السيناريو المرجح بعدما يُعلن رئيس الحكومة المكلف تشكيلته الوزارية؟ أمام الأحزاب طريقان لا ثالث لهما، فإما أن تبتلع هذه المناورة الذكية من الثنائي سعيد/المشيشي بمنح الثقة إلى حكومة هي غير مقتنعة بها، تفاديا لأزمة دستورية وسياسية ستزيد من هبوط شعبيتها، أو أن تعمل على إسقاط الحكومة، ومن ثم الذهاب إلى انتخابات مبكرة، وهي تدرك أنّ هذا الطريق سيزيد من تآكل رصيدها الانتخابي، ويُفضي إلى نتائج أسوأ من تلك التي حصدتها في الانتخابات الأخيرة. ولذا فعلاقة القوة الحالية، بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة من جهة، والأحزاب، وخاصة "النهضة"، من جهة ثانية لا تقود إلى سيناريو إسقاط الحكومة الجديدة.
ضغط الاستحقاقات
هشام المشيشي الذي هو نتاج الإدارة التونسية والعارف الجيّد بدواليبها وخبراتها وطاقاتها من خلال إشرافه على دواوين وزارية قبل تعيينه وزيرا للداخلية سيعوّل على إطارات عليا كفأة ممّن لهم إلمام بالسياسة وخبرة بتصريف الشأن العامّ ، وممّن لا ينشغلون بالمهاترات الحزبية، ليطلب منهم الانكباب على ملفّات حارقة من بينها المفاوضات مع اتحاد الشغل حول الطرق الكفيلة بمعالجة الوضع الاجتماعي المتوتر في بعض الجهات وتحسين للأوضاع المعيشية للمواطن وإصلاح المؤسّسات والمنشآت العمومية، علاوة على مواصلة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، والبحــــث عن موارد مـــــالية لإنعاش الاقتصــــاد واستقطاب الاستثمــــارات الخارجية، وهي كلَها قضايا لا تحتمل الإبطاء أو التأجيــــل. لـــــذا فإنّ رئيس الحكـــــومـــة لم ينتظر آخر أجــل دستوري ليعلن عن تشكيلته بسبب ضغط الاستحقاقات المذكورة.
عودٌ على بدء، فهذه الحكومة استثنائية بحكم الظرف الاستثنائي الذي تمرّ به البلاد، وهي مطالبة بالانطلاق في العمل فور تشكيلها، لكن لا شيء يمنع من إدخال تعديلات عليها ومراجعة هيكلتها عند الاقتضاء،. والمهمّ هو أنَ الخسارة التي تتكبدها المجموعة الوطنية نتيجة إرجاء تكوين حكومة مستقرة، تُحتسب باليوم والساعة، ولذا فالإسراع في الإنجاز وفي العمل على تفادي مزيد تدهور الحالة الاقتصادية والمالية والاجتماعية أمر مؤكّد ومستعجل في هذا الوضع الاستثنائي.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق