أخبار - 2020.08.08

كتاب المسـالك الزائـفة لمحمّد الهادي الزعـيّم يدحـض مقولات واهـية ويطـرح بدائل مجدّدة

كتاب المسـالك الزائـفة لمحمّد الهادي الزعـيّم يدحـض مقولات واهـية ويطـرح بدائل مجدّدة

كثيرة هي الكتب والدراسات والمقالات  التي أوحت بها جائحة كوفيد- 19 لطيف واسع من المفكّرين والخبراء والمهتمّين بالشأن العامّ في مختلف أرجاء العالم ، من أهل السياسة والاقتصاد والعلوم الإنسانية وشتّى الاختصاصات الأخرى. ولئن اختلفت المقاربات وتنوّعت الزوايا في تناول الأزمة الناجمة عن هذه الجائحة والتأمّل في تداعياتها صحيا وسياسيا واقتصاديا ومجتمعيا، فإنّ ما خلصت إليــــه معظم التحاليل هــــو الإقرار بتغـــيّرات سيشـــهدهــــا العالم في مرحلة ما بعــــد الكورونا يصعب التنبّؤ من الآن بكنهها وتجلّياتهــــا ومــآلاتها.

ومن المؤلّفات الصادرة في تونس غداة الخروج من فترة الحجر الصحّي الذي فرضته الجائحة مؤلَف لمحمّد الهادي الزعيّم ، الخبير الدولي وأستاذ الاقتصاد بالجامعات التونسية وعنوانه «المسالك الزائفة، لكي لا تكون الكورونا مجرّد فاصل» وهو من منشورات نيرفانا.  هذا الكتاب الذي يقع في 256 صفحة من الحجم المتوسّط موزّعة على اثني عشر بابا هو أوّل تأليف باللغة العربية للأستاذ محمّد الهادي الزعيّم الذي خاض «مغامرة» الكتابة بلغة لم يعهد استعمالها في السابق، حرصا  منه على أن «يجعل الكتاب أقرب إلى الناس» وتأكيدا لقدرته على الكتابة باللغة الأمّ التي أثارت فيه شعورا «بنوع من الانتشاء قد يستشفّه القارئ البعض خلال القراءة» بدرجة جعلته أحيانا يرتاب «من صعوبة العودة إلى الكتابة باللغة الفرنسية».

ولا يخفي الكاتب، في غير غرور أو تباه، سعادته بالنجاح في هذه التجربة  التي مكّنته «من الوقوف على قدرة اللغة العربية على أن تكون لغة للعلوم ، خلافا لما يتصوّره البعض» بل يذهب إلى حدّ الجزم بأنّها  «قادرة على أن تضفي على العلوم بعضا من الشاعرية التي تختصّ بها لغتنا أكثر من غيرها»، وهذه الشاعرية مطلوبة، في تقديره، إذ أنّ «زواج العلم بالشعر لقاح للإبداع (ص 14).

وإنّنا نعتقد أنّ محمّد الهادي الزعيّم قد وفّق عموما في هذه المغامرة ، فلغته سلسة رقراقة، وهي من قبيل السهل الممتنع، وكان بالإمكان أن يبلغ النصّ أعلى مراتب الجودة والإتقان لولا بعض الأخطاء اللغوية والنحوية والتراكيب المنقولة من الفرنسية، التي كان من المفروض تفاديها من خلال مراجعة لغوية دقيقة، غير أنّ هذه الهنات لا تنقص في شيء من قيمة الكتاب. ولا غرو أن يحسن محمّد الهادي الزعيّم التعامل مع العربية، فهو ينتمي إلى جيل تلقّى تكوينا متينا بثلاث لغات (العربية والفرنسية والأنقليزية).

ثنائية التثقيف والحجاج

خلافا للكتاب الصادر عن المؤلَّف نفسه سنة 2018 باللغة الفرنسية * والموسوم بطابع أكاديمي صرف إذ استعملت فيه أدوات الرياضيات لبسط طروحات مجدّدة في مجال الاقتصاد السياسي لها صلة بإشكالية التنمية والتشغيل والتطوّر التكنولوجي ورأس المال البشري والعلاقات الدولية، فإنّ هذا المؤلَّف الجديد يتّجه إلى جمهور أوسع مع الحفاظ على قدر من «الأكاديمية»، اعتبارا لسعي الزعيّم إلى«التوفيق بين الجانب التثقيفي المناضل والجانب الأكاديمي» (ص 15).
لذلك يزاوج الكتاب بين الطابع التثقيفي (didactique) والطابع الحجاجي (polémique) من خلال توضيح عدد من المفاهيم وتبسيطها ونسف القواعد التي تقوم عليها جملة من النظريات والرؤى الاقتصادية والاجتماعية المتداولة. وبتحليل بعض المفاهيم ونقد أطروحات قامت على «حلول زائفة» يمهدّ الكاتب لنفسه سبيل المغامرة «بتقديم تصوّر ملموس لما يمكن أن يكون عليه مجتمع جديد بعد العاصفة [الجائحة] وهو يدرك تمام الإدراك أنّ «الرؤية غير واضحة» وأنّ «الطريق وعر ومحفوف بالمخاطر».

ينطلق محمّد الهادي الزعيّم في كتابه ممّا تداوله الخبراء والمفكّرون في الشأن الاقتصادي من أسئلة حائرة في محاولة منهم لاستشراف التّحوّلات العميقة التي ستنجرّ عن جائحة الكورونا قصد الإجابة عنها.

هل تعلن الأزمة  نهاية العولمة ؟ ماذا سيتغيّر في العالم؟ هل حصلت انشقاقات جديّة في البناء الأوروبي ؟ هل ستكون يالطا جديدة؟ هل ستكون العودة القويّة للدولة؟ هل هي نهاية التنمية؟ هل هي نهاية العمل؟

تلك أسئلة يطرحها الكاتب في علاقة بتداعيات الجائحة على الصعيد العالمي ، يردفها بسؤالين يتعلّقان بالحالة التونسية وهما: كيف يمكن للمجتمع أن يأخذ بزمام مصيره في مجالي الصحّة والتعليم؟ وكيف نعيد اكتشاف التضامن؟

والتساؤل (le questionnement) أسلوب انتهجه الزعيّم في العديد من مواضع الكتاب للتدليل على ما يحفّ القضايا المطروحة من تعقيدات نظرا لضبابية الرؤية وكذلك لدعوة القارئ إلى التأمّل فيها جيّدا عساه يشارك في تصوّر الحلول المناسبة لها. وبفضل هذا الأسلوب يتحوّل النصّ إلى مساحة لتوليد الأفكار على الطريقة السقراطية  (المايوتيك) فالإجابة عن سؤال غالبا ما تحيل إلى سؤال آخر وهكذا دواليك في ما يشبــه عمليّة قدح للأذهــــــان لا يستأثر فيها واضع السؤال بالحلّ. ولعلّنا لا نبالغ في شيء إذا قلنا إنّ الكاتب يأخذنا بهذه الطريقة الى ضرب من التمرين الفكري المحفّز على النظر والتمحيص، ولن يقدر، في تقديري،  على حمل القارئ على الانخراط في هذه النزهة الفكرية الرائقة إلّا الماسك بناصية البيداغوجيا والمتمكّن من أدوات التحليل العلمي. وسيكون المقصد التثقيفي الذي أشرنا إليه آنفا الخيط الرابط بين مختلف أبواب الكتاب لذلك يقف محمّد الهادي الزعيّم موقف المحلّل لمفاهيم يصعب على غير المختصّ استيعابها لذلك تراه يلجأ إلى التبسيط دون السقوط في التسطيح.   وفي هذا السياق تطرّق إلى مفهومي النموّ والتنمية وفصّل القول في العلاقة بينهما كما سلَّط أضواء كاشفة على مفاهيم البطالة والشغل والعمل واستعرض تاريخ هذا المفهوم الأخير، انطلاقا من المعنى الإتيمولوجي لكلمة «عمل» (tripalium) في اللغة اللاتينية ، راسما التّحوّلات التي مرّ به هذا المفهوم من الكتاب المقدّس إلى الفلسفة ليتّخذ النموذج الذي نعرفه اليوم (ص 104).

كشف زيف الفكر المهيمن

وتوسّع المؤلَّف إلى جانب ذلك في عرض مفهوم الاقتصاد الاجتماعي قبل أن يبدي رأيه في الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في تونس ويبسط نظرة مجدّدة بشأنه. ولعلّ من ميزات الكتاب الأساسية جرأة صاحبه في انتقاد هيمنة « نظرة أحادية يتداولها الاختصاصيون، وفِي مقدّمتهم حاملو ما يسمّى بـ«العولمة النيولبرالية» الذين «عشّشوا اليوم في جامعاتنا ومؤسّساتنا» والذين أضحوا «دعاة من نوع جديد» تصدر عنهم نظريات وأحكام «كأنّها حقيقة مطلقة». وبقدر ما يسعى محمّد الهادي الزعيّم إلى تعرية «زيف هذا الفكر المهيمن» فإنّه يدعو القوى التقدّمية إلى «التخلّص من شياطينها القديمة» لعلّها تستعيد بريقها ومكانتها.

ويتحاشى المؤلَّف إطلاق أحكام باتّة بخصوص تأثيرات جائحة الكورونا المحتملة على الصعيد العالمي، فيرفض «دخول السوق المزدهرة للمتوقّعين لأنّ الرؤية ضبابية والسحب لم تنقشع بعد» (ص 40) غير أنّه يظلّ متمسّكا بمقولته : «توقّع دوما ما هو غير متوقّع». ومن أقواله المخالفة للسائد قوله : «نحن نعتقد أنّ من يتصوّر أنّ الأزمة الجديدة ستدقّ نواقيس نهاية العولمة، يجَانبُ الواقع، وأنّ العولمة أمر لا مفرّ منه ولا رجعة فيه...وعوضا عن نهاية العولمة، الأفضل أن تتحدّث عن تغيير في شكلها الحالي، أي ما أسميناه «التقسيم الدولي الثالث للعمل»، وهو ما زال ...بصدد التشكيل» (ص 42). ويدحض محمّد الهادي الزعيّم العديد من المقولات والنظريات الواهية التي باتت من قبيل المسلّمات، فيبيّن على سبيل المثال أنّ مراجعة النظام السياسي التي ينادي بها كثيرون اليوم في تونس هي عودة إلى «نظام سياسي بتريمونيالي جديد» وأنّ «تحوير النظام السياسي والقانون الانتخابي ليس الحلّ للمشكل السياسي لأنّ هذا الأخير لا يختزل في أزمة هذا النظام بل في ما يسمّيه علماء السياسية بـ»أزمة الدولة»(54). كما يوضّح أنّ الخيار الاشتراكي  في الستينات «كان مشروعا  مسقطا على المجتمع لأنّه كان في جوهره مشروعا تكنوقراطيا مبنيّا على نظرة اقتصادوية ترمي إلى البحث عن النجاعة ... كان بالإمكان أن يشكّل قاعدة لبناء مشروعية جديدة لو لم يكن فاقدا للمحتوى الرمزي ولو أدير بطرق مختلفة وكان بذلك مؤهّلا للفشل «(ص 60).ويعتبر كذلك أنّ فترة التسعينات لم تكن فترة ليبرالية متوحّشة، إذ أنّ «تونس لم تعرف في تاريخها المعاصر فترة أكثر تدخّلا للدولة في شؤون المجتمع من فترة السبعينات، (ص 62)... ويضيف أنّ «من يتنبّأ بعودة الدولة والسياسة يجهل أنّ الدولة والسياسة حاضرتان قبل اندلاع الأزمة، وأنّ أزمتنا الدائمة سياسية بامتياز وإن كانت عوارضها اقتصادية» (ص68).

ويوجّه المؤلَّف بالخصوص سهام النقد إلى ما سمّاه «النموذج التنموي المهيمن» (الباب الرابع، ص 83 - 97) والذي يمكن تلخيصه  في جملة متداولة واحدة: «يجب أن ننتقل من نموذج تنموي قائم على اليد العاملة غير الماهرة وذات كلفة منخفضة، إلى نموذج جديد يعتمد على المعرفة والقيمة المضافة العالية». أو: «إنّ مستقبلنا يَكْمَنُ في اقتصاد المعرفة» أو «اقتصاد الذكاء».

وبعد أن يشرح زيف هذا النموذج يخلص إلى القول : «إنّ الإقرار بأنّ المنتوج اللامادي يمكن أن يوفّر للأفراد والدول مداخيل نقدية أكثر من تلك التي يوفّرها المنتوج المادي، لا يجب أن يجرّنا إلى التعويل المفرط على اللامادي، لأنّٰ  غذاء البشر سيكون دوما ماديا مثل وسائل تنقّلهم وأدويتهم ومساكنهم...ولعلّ الأزمة الكبرى التي يعيشها اليوم العالم، تجسيم مؤلم لذلك» (ص 97).

وينتقد محمّد الهادي الزعيّم كذلك طوباوية  «النموذج المتكامل والمستقلّ» الذي ورد في كتاب عبد الجليل البدوي وعنوانه «أيّ برنامج إنقاذ عاجلا وأيّ بديل تنموي آجلا؟»، متسائلا عن الطريقة التي تمكّن من بناء اقتصاد يتمتّع بأعلى قدر من الاستقلالية أو بأدنى مستوى من التبعيّة للخارج (ص 132).

ومن «الحلول الزائفة» التي يكشفها محمّد الهادي الزعيّم الدعوة إلى الزيادة في عدد الوحدات الاستشفائية الضخمة لحلّ مشاكل الصحّة في تونس، وفِي هذا الخصوص يورد مقتطفات من مقال للأستاذ صلاح الدين السلّامي، وهو طبيب مرموق ووزير صحّة سابق، نشره في ليدرز باللغة الفرنسية في 2 أفريل 2018 جاء فيه بالخصوص : «أنّ الوحدات الاستشفائية الضخمة مشروعات لا تستند لأيّ معايير جادّة من حيث ضروريتها وحجمها وغاياتها... في جميع أنحاء العالم، نشهد إغلاق أقسام في المستشفيات وحتّى مستشفيات بأكملها لتخصيص الموارد للآخرين، وهكذا اختفى في فرنسا عشرة آلاف سرير... الاتّجاه في تونس هو عكس ذلك... إنّ الأرقام عنيدة؛ فمعدّل نسبة إشغال الأسرّة في مناطق مختلفة من البلاد،باستثناء المستشفيات الجامعية، مثير للقلق،إذ يبلغ حوالي 25 ٪ في المستشفيات المحلية ولا يتجاوز 45 ٪ في المستشفيات الجهوية. وتُفسَّر هذه الأرقام،إضافة إلى عوامل أخرى، بنقص أطبّاء الاختصاص في تلك المناطق.فهل من المنطقي بناء المزيد من المستشفيات التي ستبقى فارغة؟ وكيف يتمّ التوفيق بين الموارد البشرية والبنية التحتية القائمة من جهة مع الاحتياجات، من جهة أخرى، في غياب رؤية شاملة؟ وما يزيد الأمر تعقيدا أنّ التغيّرات الديموغرافية والاقتصادية والثقافية ستجعل احتياجات وتطلّعات المواطنين في نموّ وتطوّر مستمرّين وسيكون ذلك موجّها نحو طبّ مختلف ،نعني «طبّ مدينة» [médecine de ville] أو بعبارة أخرى طبّ الإسعاف. انتهى زمان الإقامة بالمستشفى لمدة 10 أو 15 يومًا في أقسام تحوي 60 أو 80 سريرًا. الأقسام الطبيّة الحالية أصغر ولكن لديها وسائل أكثر فعالية للاستكشاف والعلاج.» (ص 164).

الاقتصاد الاجتماعي والتضامن قد يشكّل المسار الواعد

بعد تحليل جملة من المفاهيم وكشف ما بان له من  زيف عدد من الأطروحات يمرّ محمّد الهادي الزعيّم في مرحلة ثالثة من الكتاب إلى طرح بدائل لحلّ المشاكل التي غرقت فيها تونس، فيبيّن أوّلا «أنّ أزمة القطاع العمومي، تشكّل الوجه البارز لأزمة الدولة وأنّه علينا أن نستنبط البديل للدولانية (étatisme)»، معتبرا أنّ «ما يسمّى بالقطاع الاجتماعي والتضامني قد يشكّل المسار الواعد والأكثر نجاعة والأكثر استدامة، خارج الدولانية، لإيقاف الانزلاق المفرط والمُدَبَّر لسلعنة القطاعات الحيوية مثل الصحّة أو التربية»، ومعبّرا عن الأمل في «أن يكون هذا القطاع المحور للانتقال إلى تنظيم جديد للحياة الاجتماعية»(ص 141).

وينتقد المؤلَّف مشروع القانون الذي أعدّته الحكومة بشأن هذا القطاع (صدر الكتاب قبل مصادقة البرلمان عليه)، ملاحظا أنّ  إقصاء التربية والصحّة والنقل الجماعي من مجالات تدخّل القطاع قد يكون اختيارا قاتلا. كما انتقد مشروع المنظّمة الشغيلة للسبب نفسه، معتبرا أنّه ولد مشوّها. ويقول في هذا الصدد: «وهذا الإقصاء في نظرنا أمر محيّر؛ فنحـــن لا نعارضه فحسب، بل نعتبر أنّ المجال الطبيعي للاقتصاد الاجتماعي والتضامني يبقى مجال «الخدمات للإنسان»، وبصفة أكثر تحديدا مجال الخدمات الأقرب لتكون ذات صبغة غير ربحية، أي تلك الخدمات التي يعتبرها المواطن من الحقوق التي يجب على الدولة أن توفّرها وتتكفّل بها؛ والقطاعات الثلاثة المقصية تشكّل النواة الصلبة لذلك القطاع؛ فمن الصعب أن نتصوّر القطاع يهتمّ بصناعة موادّ البناء أو الملابس أو المتاجرة فيها، أو بتوفير خدمات التجميل أو صيانة العربات. ومجال «الخدمات للإنسان الأقرب لتكون ذات صبغة غير ربحية» مهدّدة –كما بينّا بالنسبة إلى قطاعي التربية والصحّة- باقتحام شرس من طرف القطاع الخاصّ التجاري، وعرضة لسلعنة واسعة النطاق سوف تقصي من الانتفاع بها، أوسع الفئات الاجتماعية»( ص 196 - 197).

ويؤكّد الكاتب «أنّ القطاع الاجتماعي والتضامني يمكن أن يوفّر الفرصة التاريخية لإنقاذ القطاع العمومي وانتشاله من السقوط تدريجيّا في براثن المحتكرين «(ص 198)، مقترحا «أن يُعامل القطاع على مستوى التمويل والجباية والتشغيل بنفس الطريقة التي يُعامل بها القطاع الخاص (ص 207 - 208). وكان الزعيّم قد قدّم في البابين الثامن والتاسع  نموذجين في مجالي الصحّة والتعليم في علاقة بهذا القطاع، سيجدان في نظرنا مقاومة شرسة من أصحاب المصالح الفئوية تحول دون تنفيذهما، لذلك قد يكون من المفيد البدء بعدد محدود من المشاريع النموذجية في أماكن معيّنة ذات أولوية قصوى،  بحيث يكون نجاحها عامل استدامة للتجربة، على أن يراعى الجانب التحسيسي والإعلامي قبل إنجاز المشاريع وبعده.

نظرة جديدة إلى الفلاحة

وحظيت الفلاحة باهتمام الكاتب الذي أبرز بالخصوص ما تمثّله «اتفاقيات التبادل الحرّالشامل والمعمّق» مع الاتحاد الأوروبي من مخاطر جمّة على الاقتصاد والمجتمع التونسي، باعتبارها اتفاقية غير متكافئة. وأوضح أنّ ما يعنيه «تأهيل قطاعنا الفلاحي» هو بكلّ بساطة تكييفه بما يطابق حاجيات الاتحاد الأوروبي تحت غطاء ضرورة مطابقة المنتجات الفلاحية لمقاييسه، خاصّة في مجال الصحّة والسلامة، ممّا يمكن اعتباره تكبيلا مبرمجا للقطاع ووضعه تحت السيطرة التامّة لمشيئة السوق الأوروبية، لأنّ إخضاع فلاحتنا لمقاييس الاتحاد الأوروبي سيجعلها تابعة تماما لا من حيث السوق فقط، بل من حيث التقنيات والمدخلات من بذور وحماية النباتات وغيرها».   ويبرز محمّد الهادي الزعيّم الحاجة  إلى «ثورة فكرية رهيبة تُخْرج الفلاحة من منطق السوق» ، وذلك من خلال التخلّي عن منطق الإنتاجية، باعتماد تكنولوجيا زراعية تساهم في الاستقلال الذاتي وبالتخلّي عن منطق الربحية.  ويوضّح أنّ «التخلّي عن منطق الإنتاجية قد يرادف عند البعض فقدان الربحية والموت المحتمل للفلّاحين».وهذا غير صحيح لأنّ الارتفاع المتواصل لأسعار المدخلات قد قلّص بصفة مأساوية من دخل الفلاّح، والذي أصبح لا يتوصّل في بعض الأحيان إلّا بصعوبة إلى تحقيق هامش ربح لا يساوي أجر عامل متواضع في الإدارة. والارتفاع المشطّ  لكلفة المُدخلات يَهُمُّ بصفة أكثر حِدّة المستوردة منها، كنتيجة للتدهور المتواصل لسعر صرف عملتنـا الوطنية (ص 213، 214، 215).

ويطرح الكاتب السؤال الكبير: كيف يمكن التخلّي عن منطق الربحية ؟ التخلّي عنه لا يعني  في نظره «أنّ الفلاّح سيعمل «لوجه الله» أو أن يبقى تحت رحمة دعم عمومي غير مضمون؛ بالعكس»، «فذلك يعني أنّنا يجب أن نجعل الفلاحة نشاطا مربحا يُمكِّن من يمارسه من العيش الكريم في كلّ الظروف ؛ والأمر ليس هيّنا لأنّه يطرح عدّة تساؤلات» يقرّ الزعيّم  بعدم قدرته على الإجابة عنها، بل يترك الأمر للمجتمع ، غير أنّه لم يبيّن السبيل إلى ذلك (ص 215-216).

خاتمة

هذا الكتــاب بما يتميّز بـــــه مـــــن جـــــرأة في الطرح وبمـــــا يتضمّنه من أفكار مجدّدة  يمثّل في رأينا إضافة ذات بال في مجـــــال الاقتصاد السياسي. ولا شكّ أنّ أهميّته تكمن في خروج  التصوّرات الواردة فيه عن دائرة السائد والمألوف وكذلك فيما أثير فيه من إشكاليات وتساؤلات تستفزّ أهل الاختصاص والخبراء بوجه خاصّ علّهم يساهمون «في تجديد الفكر الاقتصادي والاجتماعي» الذي يعتبره محمّد الهادي الزعيّم عاملا مـــــــؤثّرا في «المعـــركة الحقيقية التي ستكون أساسا معـــركة فكرية» (ص 15).

عبد الحفيظ الهرڤام

*ZAIEM H, NOMADES, Nouvelle Macroéconomie pour le développement et l’Economie sociale, Éditions Nirvana, Tunis 2018.

 

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.