أخبار - 2020.08.05

محمد إبراهيم الحصايري: وأيّ خير يُرْجَى من ديموقراطية مُنْتَصِرَة في دولة مُنْهَزِمَة؟

محمد إبراهيم الحصايري: وأيّ خير يُرْجَى من ديموقراطية مُنْتَصِرَة في دولة مُنْهَزِمَة؟

بقلم: محمد إبراهيم الحصايري - إنّ ما حدث ويحدث في تونس هذه الأيام شيء مُذْهِل حقّا...

ففي أعقاب اليوم المشهود الذي عاشه يوم الخميس 30 جويلية 2020 "مجلس نواب الشّعب" كما يُسَمى رسميّا، و"مجلس نواب الشَّغَب" كما أسمّيه شخصيا، هبّ أتباع رئيس المجلس وأنصاره في خاتمة جلسة التصويت على سحب الثقة منه مهلّلين مكبّرين غبطة بـ"نصر الله وفتحه"، بينما خرج الرئيس نفسُه ليحمد الله، وليعلن "انتصار تونس والثورة والشرعية"، وليؤكّد "أن لتونس مستقبلا ما دامت متمسكة بالحرية"...

وحتى لا يقلّل أحدٌ من شأن ما اعتبره "ديمقراطية مُنْتَصِرَة" بسبب ما يعرفه المجلس من مهاترات ومشاحنات تكاد لا تتوقّف، لاحظ، مُوحِيًا بأنّ ذلك أمر طبيعي، أنّ "مجلس نواب الشعب هو صورة مصغّرة لمجتمعنا المتعدّد"، ثم أردف، مُفَاضِلاً بين ما هو عليه مجلس اليوم وما كانت عليه مجالس الأمس، فقال: "إذا كان يحدث خصام في مجلسنا، فإنّ مجالس أخرى كانت ثكنة"... وهو على هذا الأساس يتوجّه إلى التونسيين قائلا: "أنتم صنعتم ثورة، وحافظتم عليها عشر سنوات، فلنحرصْ عليها، ونعضَّ عليها بالنواجذ".

وكأنّه بهذا القول الذي يتضمّن مراوحة معَبِّرَة عما يعتمل في لا وَعْيِهِ بين ضميريْ أنتم ونحن، يريد أن يقنع الشعب التونسي بأنّ عليه لا فحسب أن يتعايش مع مجلسه "الصّاخب" مثلما تعايش، من قبل، مع مجالسه "الصّامتة"، بل أنْ يُطَلِّقَ حلمَه بأنْ يكون له مجلس نيابي حقّ، مسؤول عن أقواله وأفعاله، لأنّ ذلك حلم ينضاف إلى الثلاثة الذين ليس لهم وجود، الغول والعنقاء والخلّ الودود...

وبعبارة أخرى فإنَّ عليه أن يفرح بـ"الديمقراطية المُنْتَصِرَة" وأن ينتظر، بعد انتهاء العطلة البرلمانية، أن يعود إليه المجلس "الصّاخب" في الجزء الثاني من مسلسله العبثيّ الذي يُرَجَّحُ أن يكون أكثر عربدة وأشدّ عنفا من الجزء الأول ما دام نفس "الأبطال" سيتمادون في تقمّص نفس الأدوار الآمرة بالمنكر السياسي والناهية عن المعروف الوطني...

وفي الأثناء، وفي نفس الوقت الذي  كان فيه رئيس المجلس وأتباعه وأنصاره يزقزقون ويتغنّون بانتصار الديمقراطية، باغتنا وزير الطاقة والمعادن والانتقال الطاقي الذي آثر الجلوس على الربوة ولم يكلف نفسه عبء الانتقال إلى حيث انتقل مستشار مهذار لا يثق أحد بكلامه، بتدوينة طويلة عريضة وفي ذات الوقت عجيبة غريبة اختار لها من الأسماء اسم "بلاغ هام جدا" وقد جاء فيها أنّ "بلادنا تعاني من أزمة اقتصادية خانقة ضاعفت من حدّتها الأزمة العالميّة المرتبطة بجائحة الكورونا من جهة، إلى جانب تصاعد نسق الإضرابات والاعتصامات التي ضربت مرافق حيويّة للدّولة وعطّلت إنتاج قطاعات أكثر من حسّاسة.
للأسف، تبقى موارد الدّولة من العملة الصّعبة شحيحة، وبتعطّل السّياحة، وتوقّف آلة الإنتاج في الفسفاط والمجمع الكيميائي، جاء إيقاف الإنتاج من النفط والغاز ليضع عبئاً إضافيّاً على موازين الدّولة، والتي دخلت مرحلة على غاية من الحساسيّة.

يعلم القاصي والدّاني أنّ الميزان الطّاقي في بلادنا منخرم إلى حدّ كبير، وهو على ذلك يتقاطع مع اختلال الموازين التجاريّة الوطنية، الشيء الذي ما فتئ يتسبّب في تعاظم حجم الفاتورات غير المسدّدة لصالح مزوّدينا من الغاز، في الدّاخل أو بالخارج، والذين بدءوا وللأسف يلوّحون بقطع الإمداد عن بلادنا، أو بملاحقتنا في المحاكم الدّوليّة لمطالبتنا بسداد ما علينا من التزامات.

وبالرّغم من هذا الوضع الخطير أصلاً، يأتي توقيف إنتاج النفط والغاز بحقول الجنوب التّونسي، على هامش اعتصام الكامور المتواصل منذ أسابيع، ليؤزّم المسألة ويضعنا أمام خطر محدق بنفاذ إمدادات الغاز عن محطّات الإنتاج الكهربائي التي تعتمد بشكل شبه كلّي على الغاز الطبيعي لتزويد البلاد بالكهرباء، وفي الوقت الذي تقترب فيه نسب الاستهلاك في فترة الصّيف من مستوياتها القصوى.

لقد عملت وزارة الطّاقة والمناجم والانتقال الطّاقي منذ استلامها لمهامّها قبل أشهر على التّعاطي بجدّيّة وايجابيّة وشفافيّة مع مختلف الوضعيّات الاجتماعيّة والاقتصادية الصّعبة التي تسلّمتها، كما التزمت بضمان تزويد السّوق المحلّيّة بحاجاتها الطّاقيّة حتّى في أصعب الظّروف، ولكنّ الخطر الذي يهدّدنا هنا يستوجب وقفة حازمة وتكاتفاً من جميع الأطراف لتجنّب السّيناريو الأسوأ.

لذا، ونظراً للوضع الخاصّ الذي تعيشه البلاد، ولمساعدتها على تخطّي هذا الظّرف الصّعب، وعلى المحافظة على توفير المرافق الحيويّة للبلاد، نهيب بالحسّ الوطني لدى الأهالي في مختلف الجهات، لتعليق الاحتجاجات الحاليّة في أقرب وقت ممكن، وإعادة نسق الإنتاج إلى مستويات معقولة، ريثما تتسلّم الحكومة الجديدة عهدتها، على أن يكون ذلك في ظروف معقولة، تمكّنها من النّظر في كمّ الملفّات العالقة والحارقة".

إنّ هذه التدوينة "فادحة الخطورة" تستدعي الوقوف عندها والتمعّن فيها شكلا ومضمونا، ولذلك حرصتُ على إيرادها كاملة لا سيما وأنّها تؤكد أنّنا بتنا نعيش في دولة "منهزمة"... وأنّ وزراءنا باتوا، أمام "الديمقراطية المُنْتَصِرَة"، عاجزين عن اتّخاذ القرارات اللاّزمة لتسيير شؤون البلاد، وعن تنفيذها إذا أسعفتهم درجة دنيا من العزم والحزم واتّخذوها...

وهنا تكمن المفارقة المؤلمة المحزنة: إنّنا نعيش في زمن "الديمقراطية المُنْتَصِرة" كَذِبًا، في "الدولة المنهزمة" حقّا... وكم نحن في غنى عن هذه وتلك... ولو كان للشعب أن يختار لاختار أن يعيش في دولة منتصرة أولا وقبل كل شيء لأنه ليس بحاجة الى "ديموقراطية تتوهم الانتصار وهي، في الواقع، تنشر الفوضى والتسيّب الانفلات واللاّانتماء واللاالتزام...

إنّه، بعبارة أخرى، ليس بحاجة إلى "ديمقراطية مُنْتَصِرَة" تؤسّس لعشرية جديدة من الكرب العظيم الذي عرفته البلاد على امتداد العشرية الماضية، وإلاّ فكيف يمكننا أن نفهم حرص "مجلس نواب الشّعب" على تتويج دورته البرلمانية الأولى بهذا القانون الذي ما أنزل الله به من سلطان والذي يفرض على "الدولة المنهزمة" أن تشغّل رغم أنفها كل "من طالت بطالتهم لأكثر من عشر سنوات وفقا لأحكام انتداب استثنائية في القطاع العمومي"...
إنّ هذا القانون الذي ما كان ليكون لولا هذه "الديمقراطية المُنْتَصِرَة" ليس سوى هديّة مسمومة من مجلس نوّاب الشعب للحكومة التي يجري العمل على تشكيلها في ظروف بالغة التعقيد والتشعّب، وحتى للحكومات التي ستليها، وهو إمعان غريب في التمسّك بـ"مقاربات التشغيل المغلوطة" التي تفتقت عنها "عقول" لا تعرف من الحوكمة سوى اسمها البرّاق، وقد أثبتت التجربة أنّها لا تحلّ المشكلة وإنّما تعقّدها، ولعل في تدوينة وزير الطاقة والمعادن والانتقال الطاقي عبرة لأولي الألباب...

وعلى كل، فإنّ هذا القانون غير قابل للتطبيق لأسباب عديدة، وإذا كتب له أن يطبّق ولو جزئيا فإنّه سيفضي حتما إلى إرهاق كاهل الدولة، وإلى إصابة الإدارة بنكبة ثانية قاسية قساوة النكبة الأولى التي عرفتها إثر الرابع عشر من جانفي 2011 ... ولا حول ولا قوة إلا بالله...

محمد إبراهيم الحصايري

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.