أخبار - 2020.07.06

نورالدّين كريديس: موسم البحث عن مستقبل

نورالدّين كريديس: موسم البحث عن مستقبل

بقلم نورالدّين كريديس - أستاذ علم النّفس بجامعة تونس - لما كانت هذه الأيام مترادفة مع تطلع ألاف من الشبان الى البحث عن وجهة جامعية ثم عن عمل برزت الحاجة الى ارشادهم. و برزت مهنة الإرشاد النّفسي.

منذ اكثر من قرن، قامت المجتمعات الغربية ( أوروبا و الولايات المتحدة الامريكية) باستنباط آلية ّالتوجيه و الارشاد لمرافقة الأشخاص لمساعدتهم على تصور و بناء حياتهم المهنية و الدّراسية و حياتهم بشكل عام. و قد استعملت لذلك منهجيات دقيقة تقوم على الاختبارات و أدوات القيس و المقابلات و استعملت كذلك الاطار الدّقيق للعلوم النّفسية و التربوية. وساهم ذلك في بعث مهنة جديدة تتعلّق بالإرشاد النّفسي و التوجيه، تتميز بأهداف و غايات لا زالت تتحول وتتغير بمرور الوقت. فبينما كانت هده المهمة في البداية مرتبطة بتحول المجتمع و دخوله الى عالم التصنيع و حاجته الى يد عاملة تتناسب مع طلباته، تغيرت هذه المهمة الان نوعا ما اذ أصبحت حاجة المجتمع مختلفة عن بدايات القرن الماضي... وأصبحت مهمة المرشد متأرجحة بين حاجات المجتمع و طلبات الفرد في تحقيق حاجاته و إيجاد معنى لها عن طريق العمل او غيره من الأنشطة.

عالم متغير

انطلاقا من قراءة تاريخية لتطور هذه المهنة، يتبين لنا ان المرشد يواجه اليوم تحديات جديدة. كيف يرافق الأشخاص في بناء حياتهم في عالم متغير وتتخلله الازمات؟ على أي أساس تقوم عملية الارشاد و الحال ان الثوابت التي كان يقوم عليها المجتمع و التربية و عالم المهن قد تزعزعت بفعل عوامل اقتصادية و اجتماعية و سياسية؟ نحن نعيش في عالم متغير و عديد المهن التي نعرفها اليوم ستضمحل و أخرى سترى النور. ولكن هذا العالم يسير بسرعة و يضغط على الافراد و المنظومات لتحقيق النمو و الجودة و الريادة. فأي مستقبل نرغب فيه معا؟

اما المجتمعات العربية ( المغرب العربي و المشرق عموما) فهي لم تعرف اليات التوجيه و الارشاد الا اثناء هذه العقود الأخيرة و طوعتها بمسائل مرتبطة بالتوجيه المدرسي واضعة بين قوسين كل المستويات المعقدة لعملية التوجيه والإرشاد و لمهمة المرشد في هذه المجتمعات... فتبقى طاقة الاستيعاب و الملفات البيداغوجية هي المرجع في عملية التوجيه و يصبح المرشد مجرد اداري، أحيانا لا يلتقي ابدا بالمعنيين بالأمر طلبة كانوا او تلاميذ، او باحثين عن عمل.

و يصح القول بان هذه المهنة لها تاريخ  طويل بالرجوع الى وجودها في المجتمعات المتطورة و المصنعة منذ مطلع القرن العشرين، ولكن ماضيها قصير في المجتمعات العربية، التي التحقت بالركب منذ سنوات استقلالها في احسن الحالات. ووضعت في خدمة المنظومة التربوية ككل لمساعدة السياسات التربوية لإيجاد حلول لتلبية حاجيات التكوين و التشغيل ... ولكن هذه المجتمعات باعتبارها تنتمي الى المنظومة الدولية، تواجه نفس المشاكل الحارقة في اعداد الحاضر و استشراف المستقبل، بالإضافة الى مشاكل ذاتية خاصة باللحاق بالركب و تعويض ما فات من التطور و التقدم العلمي في البلدان المتقدمة. فنحن بالإضافة الى ذلك ، لما نستورد علومها، نستورد مشاكلها. فنحن اذا في النهاية في نفس القارب... فلمّا يغرق سيغرق بالجميع، ولمّا سينجو سينجو بالجميع.

نحو أي مستقبل؟

لذلك وجب التفكير في مسالة المسؤولية في عملية التوجيه و الارشاد... لان مهمة المرشد لن تقتصر على تنفيذ الخطط البيداغوجية و السياسات التربوية او العمل على إعطاء الأولوية الى رغبات المعني بالأمر، الطالب او التلميذ او الباحث عن الشغل. و كان لا بد اذن من التفكير في الأهداف الجديدة لهذه المهنة و التحديات التي سيواجهها و ادماج بعد المسؤولية من حيث انه بعد يضمن السؤال الاتي. اذا كان الهدف من عمل المرشد هو المرافقة  فنحو أي مستقبل هو سيرافقه؟ و كيف للفرد ان يتحمل مسؤولية حياته و ان يختار و ينجح في حياته، بعد ان كانت المجموعة او العائلة تعتني به من الولادة حتى الموت؟ انه مسؤول في زمن ظواهر العولمة الاقتصادية و الشمولية، و يصبح دور المرشد مزدوجا.  المرافقة نحو التشغيلية و المساعدة على تنمية حس المسؤولية لدى الافراد و مساعدتهم على البحث عن النشاط و ليس دائما من العمل، الذي يعطي معنى للحياة. فهل هذا بالأمر الهين؟

الأسئلة الستة

يرافق المرشد   النّفسي  الأشخاص : تّلاميذ وطالبي شغل في بناء حياتهم في عالم متغير وتتخلله الازمات  عبر الأسئلة الستة  التالية :

ما هو التعلم أو التكوين الذي يعطيني أكثر فرص النجاح؟ و ماهي المهنة التي تناسبني؟ وتتوافق معي؟

في أي سياق وتجمعات عمل يمكن لي أن أندمج؟  وما إذا كان بإمكاني أن أنخرط في هذه المجموعة  أم لا؟

أي وجهة أعطيها لمساري المهني؟

كيف أستغل مهاراتي على احسن وجه؟

كيف أوظف مهاراتي على أحسن وجه؟

كيف سأواجه مختلف الانتقالات التي ستطبع حياتي المهنية والشخصية؟

إنّ  المؤسسة المدرسية الّتي تخصّصت في تبليغ المعارف و القيم و المواقف الضّروريّة إلى الأجيال الشّابّة لتضمن البقاء للمجتمع، قد بدأت تدريجيّا تستقبل كلّ الشبّان و تحتفظ بهم لمدّة لا تزال تطول. و نحن نعرف أنّ المدرسة هي نمط تنشئة اجتماعيّة و تربويّة مختلفة تماما عمّا سبقها، إنّها إعداد غير مباشر للحياة العاديّة داخل المجتمع: و هي لذلك توفّر التّكوين بواسطة مهنيين مختصّين: معلّمون و أساتذة.

و لقد كانت طرق التّعلّم فيما مضى مرتكزة على الاتّصال المباشر بين المتكوّن و مجتمع الكبار. فمثلا في فرنسا، كان هناك المرافقون compagnonnage، حيث كان المتعلّم الصّغير يعمل مع مرافقه.

و كان ذلك النّوع من التّكوين في نفس الوقت تدرّبا على المعارف و التّقنيات و حيل الصّنعة و تنشئة اجتماعيّة شاملة: يكتسب الشّاب في نهاية المطاف أساليب العمل وكيف يقوم بالعمل و كيف يتعامل مع غيره و كيف ينظر إلى الأشياء كما ينظر إليها أصحاب تلك المهنة. و كان الشّابّ يفضّل هذا الاحتكاك المهني المتواصل و يكوّن لنفسه هويّة مهنيّة و اجتماعيّة في نفس الوقت و منظومة قيم و تمثّلات خاصّة بالمجمع المهني الذي يندمج فيه بتلك الطّريقة تدريجيّا.

مجتمع أفراد

لكنّ المدرسة لا ترمي اليوم إلى بناء تلك الهويّات الجماعيّة. إنّها تكوّن أفرادا هم أعضاء في "مجتمع أفراد". و بالنّسبة للتّكوين العام، فإنّ المدرسة تقتصر على تمكين التّلاميذ من تلمّس أفق لمواقع اجتماعيّة و مهنيّة قد ينقادون إليها و ذلك باعتبار نجاحهم المدرسي. أمّا بالنّسبة للتّكوين المهني أو التّقني، فإنّ هذا الأفق يكون ضيّقا أكثر.

لكن ليس هناك عموما علاقة حميمة بين التّكوين الذي يتحصّل عليه التّلميذ و الأنشطة المهنيّة الممارسة فيما بعد. بحيث إنّ المسألة مع المدرسة هي كيفيّة الانتقال من وضعيّة طفل إلى وضعيّة راشد منخرط في الحياة العمليّة. هذا التّطوّر الذي شهدته المدرسة ( و خصوصا أثناء النّصف الثّاني للقرن العشرين) اتّسم بتمدرس متنامي للشبّان الذين ينتمون إلى طبقات اجتماعيّة متواضعة- و للبنات- و ذلك لمدّة زمنيّة تطول أكثر فأكثر. و لاستقبال هؤلاء التّلاميذ المختلفين اجتماعيّا، بدأت المدرسة تتنوّع. و قد نتج عن هذا التّنوّع مشاكل متعلّقة بتنظيم الجهاز المدرسي من ناحية و بتوزيع التّلاميذ من ناحية أخرى.
و لقد كانت الأجوبة المتقدّمة أمام هذه المسائل مختلفة من بلد إلى آخر. و بالخصوص بالنّظر إلى هدفين:

تكوين حسب الإمكانيّات للعدد الأكبر.
تكوين في أعلى مستوى لنخبة صغيرة.

و مهما يكن من أمر، فإنّ رهان التّوجيه المدرسي في الأجهزة المدرسيّة للبلدان المصنّعة يبقى نفسه ألا و هو الإدماج المهني و الاجتماعي في نقطة معيّنة من فضاء المهن و المواقع الاجتماعيّة.

بحيث أنّ مسألة التّوجيه تكون عند الشّباب و عائلاتهم في مجتمعات الأفراد السّائلة: ما هو التّكوين (مؤسسة، شعبة، اختصاص، اختيار...) الذي سأنخرط فيه بالنّظر إلى هيكلة و طريقة توزيع التّلاميذ المعتمدة في المدرسة و بالنّظر إلى نتائجي المدرسيّة وأخيرا بالنّظر إلى انتظاراتي الشّخصيّة (و العائليّة) المتعلّقة باندماجي الاجتماعي والمهني في المستقبل؟

بين حاجات المجتمع و طلبات الفرد

إنّ أغلب عمليّات المرافقة في التّوجيه و الارشاد الّتي وقع تصوّرها خلال القرن العشرين كان لها ومازال هدف محدّد، ألا و هو مساعدة الأشخاص لإيجاد جواب لواحد من تلك الأسئلة المطروحة. و بالفعل، فإنّ المحدّد الّذي يكون عموما غير مصرّح به هو مساعدة الأفراد للاندماج في عالم المهن و الوظائف المهنيّة (و كذلك في التّكوين).

و أمّا في هذه العشريّات الأخيرة، فإنّ عمليّات المرافقة المقترحة على طالبيها، فهي تهدف عموما إلى مساعدتهم على تقديم إجابة لواحد من الأسئلة الأربعة الأخيرة: أيّ وجهة أتّخذها لمساري المهني؟ كيف أستغل على أحسن صورة مهاراتي؟ كيف أواجه الانتقالات المختلفة التي تتخلّل مجرى حياتي؟ في أيّ تكوين سأنخرط؟ غير أنّ الصّياغات الأولى و الأقدم - ما هي المهنة أو الحرفة الّتي تتناسب معي؟ و في أيّ سياق و مجموعة عمل يمكن لي أن أندمج؟ لم تنقرض تماما لأنّ بعض الحرف و المهن لا تظلّ موجودة في المنظومة المهنيّة للشّغل.

نورالدّين كريديس
أستاذ علم النّفس بجامعة تونس


 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.