خديجة توفيق معلَّى: هل آن الأوان لإيقاف إيذاء الإسلام السياسي؟
بقلم خديجة توفيق معلَّى - لقد شَبَّه العديد من المفكرين من قبلي الإسلام السياسي بالسرطان الذي يغزو جسد الإنسان، ورويدا رويدا،يبدأ بنخر كل جهاز على حدة! فربما يبدأ بالجهاز الهضمي، ثم العظمي، ثم يتجه للجهاز المناعي، فالتنفسي والعصبي... إلى أن يقضي على كل الجسد الذي يبدأ بالتداعي، ثم بالإنهيار.
وعملية الغزو هذه أخذت سنوات عديدة تصل إلى خمسين سنة تقريبا. فالإسلام السياسي ظهر في تونس،مثلا، منذ أواخر الستنيات وبداية السبعينيات. أنا شخصيا عَايَنتُ بداية غزوه للحركة الكشفية التونسية سنة 1976، حيث بدأ بتكوين فوج كشفي من الجوالة، الذين أصبح لهم طقوسهم الخاصة. فمثلا، لما كنا نلتقي في المخيمات الكشفية التي تجمع العديد من الأفواج في برج السدرية، وفي حين كان أهمُّ طقس كشفي عندنا هو تحية العلم في الصباح الباكر، كان هذا الفوج يوقض أفراده لصلاة الفجر جماعة. وهذه مظاهر استعراضية لم نكن متعودين عليها لأن أداء الفرائض الدينية، علاوة على أنها مسألة شخصية، كانت تُمارس في كنف الحياة الشخصية بين الشخص وخالقه، دون أي مظاهر استعراضية مُمنهَجة تُذكر بممارسات وسياسات الأنظمة الفاشية في العالم. وهي بذلك تعيد بناء وترتيب معايير التفوق والنجاح، لتضع على رأسها الانضباط الجماعي في أداء شعيرة دينية. فيحظى المُمَيزون فيها بالتبجيل على من عداهم حتى وإن كانوا متفوقين في أداء أنشطة رياضية وكشفية متنوعة. وهو ما يترتب عليه وقوع الكثيرين في شرك هذه الخطة بالعمل على الظهور بمظهر الأكثر مواظبة وبالتالي الأكثر تدينا لنيل الحظوة الأعلى...
كما أنني عايشت شخصيا هذا التغلغل أيضا، لما دخلت كلية الحقوق بتونس. غير إن الحظ قد حالفني أن مازال في الحرم الجامعي، وقتها، حماةٌ للمعرفة. فقد تتلمذت على يد أساتذة رحلوا عنا الآن، وكانوا لنا بمثابة المناراة التي تهدي السفن التائهة إلى شاطيء السلامة، مثل الأستاذ محمد الشرفي والأستاذ عبد الفتاح عمر والأستاذ الدالي الجازي الذين فتحوا أبصارنا وبصائرنا على القانون المدني والقانون الدستوري ومادة الإقتصاد السياسي... وغيرهم ممن نهلنا منهم وعن طريقهم المعارف التي تُعلي من قيمة العقل وتُرسِّخُ قيم مدنية الدولة وعلوية القانون الوضعي في تنظيم سلط الدولة ونمط حياة المجتمع!
وأتذكر جليًّا في ذات الوقت هِواية رُواد الإسلام السياسي والتي تتمثل في وضع كل من يخالفهم الرأى على قوائمهم السوداء. هؤلاء الذين أطلقوا على أنفسهم تسمية "الإتجاه الإسلامي"، كي يُوهِمُوا البعض أن كل مَن لم يَكُن إتجاههُ إسلاميا، فهو بالضرورة "كافر". فكانوا يراقبون كل ما ينشر على حائط الكلية، أو كل من يصدح بأفكاره من أعلى "صخرة سقراط"، لوضعه على القائمة، إن خالفهم الرأى. ولا زلت استحظر أحدهم يقف أمامي، وأنا أمام مقهى الكلية، ويعلن: "لقد أضفنا اسمك على القائمة السوداء". ربما لصغر سني وقتها، ولم أكن قد تجاوزت العشرين، وعدم قدرتي على فهم خطورة أي تهديد، فأنا أتذكر أن ما قاله لي لم يُخِفنِي، خلافا لما يفرضه العقل والمنطق. ومنذ ذلك الوقت، بدأت حركة التكفير الخفي والسري لكل من ينتمي من قريب أو بعيد لفكر اليسار التونسي، أولأي فكر تقدمي حداثي.
وبعد ذلك، واصل السرطان في الاستفحال، ولما سنحت له الفرصة، أقبل "كالبدر" علينا، على متن طائرة، حطت بمطار تونس قرطاج الدولي في أواخر أيام شهر جانفي 2011، وشاءت الأقدار أن أكون في المطار يومها، حيث قضيت أطول أربعة أيام حياتي، محاولة الرجوع إلى القاهرة حيث توجد إبنتي لوحدها في خضم الثورة المصرية التي اندلعت يوم 25 جانفي، وأنا في تونس. ورأيت البنات اللاتي استقبلنه بالورود وهُنَّمرتديات لباسا أبيض من الرأس إلى الرجلين ويرددن أغنية "أقبل البدر علينا"! كنت أراقب هذا المشهد من أعلى سلم المطار في الدور الأول، كمن تشاهد مسرحية كوميديا سوداء وقلبي يتأرجح بين إحساس الأم التي تريد العودة بأقصى سرعة لإبنتها، في ظل إقفال المجال الجوي المصري، وقلب الوطنية الواعية بخطورة المشهد الدرامي الذي يَمثُل أمامها، بكل الديكورات، والموسيقى المرافقة، والممثلين...والتي تعرف في قرارة نفسها، أنه يجب البقاء والتصدي لما من شأنه أن يحصل في المستقبل.
منذ ذلك اليوم، أصبح التوغل الذي كان يمارس في كنف السرية زمن الزعيم بورقيبة والرئيس بن علي، أصبح يمارس في العلن، حين استحوذ الإسلام السياسي على مقاليد الحكم وأصبح يمتلك معظم مفاتيح الوزارات، والمؤسسات العمومية، ودور الثقافة والشباب، والإعلام... أصبح التوغل أكثر شراسة لأنه مُمَنهَجٌ تحت اسم "التَمكِين" والذي يُخفي في الحقيقة فكرة أخطر وهي "التَمَكُنُ"! التَّمَكنُ من كل مفاصل وأجهزة الدولة. وأنا مقتنعة أن اختيار كلمة "التَمكِين" لم يكن اعتباطيا. فالترجمة لهذه الكلمة باللُّغة الإنجليزية : "Empowerment" هي كلمة إيجابية جدا، وتُستعمل في كل مجالات حقوق الإنسان وحقوق المرأة بالذات، من طرف المنظمات الأممية والمجتمع المدني الدولي والمحلي.
لكن الأدهى والأخطر من ذلك بكثير، أن استعمال هذه الكلمة التي يقصدون بها "التَّمَكُنُ" كان على حساب فكر وقلب العديد من التونسيين والتونسيات، الذين شَوَهُوه من خلال مدارسهم القرآنية التي طالت الصغار والأكاديمية التعليمية للكبار، والتي يُدرَّسُ فيها "دين العسر" وليس "دين اليسر" الذي تربينا عليه. فنجحوا بذلك من تحويل ثقافة الحياة والجمال وحب المعرفة وعشق الفن، الذي وُلدنا وترعرعنا في أحضانها، إلى ثقافة الموت، وعذاب القبر، والتهديد والوعيد والتكفير والتجهيل والتفقير المادي والروحي والذهني لأغلبية الشعب.وماالذي نراه في البرلمان مِن مَن يُمثلون إلاَّ أنفسهم، لخير دليل على غياب أي ملامح للذكاء الوجداني وانغلاق كُلي لمساحة الوعي وكره شديد للوطن وإحتقار لعامة الشعب.
وللأسف، قد سار في رَكب الإسلام السياسي ورِكابهم أشخاص وأحزاب كانوا يحظون بالتكريم والتبجيل في صفوف الشعب، غرّتهم المناصب والمراهنات العَبثية. وقد وصل الأمر بأحدهم بعد نيل مُراده، وقد كان من عتاة المدافعين عن حقوق الإنسان، وفي طليعتها الحرية والمساواة، أن نَعَتَ النساء "بالسَّافِرَات". ولقد تناسى أو تجاهل أنه وغيره مِمَن واجهوا الآلة القمعية للرئيس بن علي، أن مِن ضمن العشرة محاميين الذين تطوعوا للدفاع عنهم أمام حاكم التحقيق، كانت توجد ثلاث محاميات، تَشرفتُ أن أكون إحداهُنَّ، يرفضن ارتداء أي علامة من علامات الإسلام السياسي والتي ليس لها أية علاقة بالدين الإسلامي. وأنا أدعوه للتمعن في النصوص الدينية والمسار التاريخي الذي وُجدت فيه، وربما مراجعة ما قاله.
والجدير بالتذكير في هذا الإطار، أنه في السبعينيات، ظهرت بعض المناشير الوزارية، من طرف وزراء مختلفين، والتي تراجعت، بل طعنت في بعض الحقوق الممنوحة قانونيا، والتي لم تُعِرها النخبة عموما واليسار خصوصا، أي اهتمام. ومن ضمنها، منشور منع التونسية من الزواج من غير المسلم، والتراجع في السماح للعرب من غير التونسيين من التبني، وغيرها...ولقد سبق وأن نشرت، في هذا الخصوص مقالا باللغة الفرنسية، في سبتمبر 2018:
وفي نفس الإطار، لا أنسى حركة التعريب التي قام بها محمد مزالي، والتي فتحت الأبواب أمام تغلغل الفكر الوهابي الرجعي وغزو الكتب الصفراء معارض الكتاب والمكتبات. فكانت بداية تدهور التعليم في تونس والذي تواصل إلى اليوم، بالرغم مِن محاولات الأستاذ محمد الشرفي من إرساء منظومة تربوية وتعليمية مستنيرة،والتي تصدت لها حركة الإسلام السياسي بكل شراسة وعنف وأجهضتها في المهد !.
لم يبق لي بعد هذا العرض الذي امتزجت فيه ذكرياتي الشخصية بوقائع تاريخية من صميم واقعنا، إلا السؤال: هل يُمكن وقف إيذاء الأحزاب التي تحتكر الدين كأصل تجاري لترويج أفكارها وبثِّ سمومها، بدون فضح ودحر الفكر الإرهابي الذي تُسَوِقُ له والمتغلغل في كل مجالات حياتنا اليومية، انطلاقا من المؤسسات التي تقوم عليها سلط الدولة العليا ووصولا إلى الشارع والبيت؟ ثم، هل يمكن أن نقوم بذلك بطريقة ديمقراطية وبدون المجازفة بإدخال البلاد في معركة تُهدد السلم الاجتماعي والأمن الوطني، أم إنه قد فات الأوان؟
ومادمتُ لا أؤمن بالمستحيل، أقول إنّ الضعف غير المسبوق الذي وصلت إليه دولتنا والتفكك والتناحر الذي أصاب الطبقة السياسية والضياع الذي طبع مواقف وممارسات النخب الفكرية والثقافية عموما، لا يجب أن تستمر لأنها كلها آثار ذلك النخر الخبيث البطيء، الذي تحدثت عنه في الفقرات السابقة، ووصفت بعض أسبابه وأعراضه وتداعياته. فلا خيار إلا صعقٍ كهربائي لكل القوى التقدمية والديمقراطية، خاصة وأن الخطر الداهم من وراء الحدود الجنوبية ومن جنوب الصحراء، خطر ماحق مُدمر، إن لم تتحقق صحوة تشمل كل حرائر وأحرار هذا الوطن، كي يُغَلِّبُوا الأهم لأنه لم يعد لديهم حتى المُهِم... هي فقط طواحين هواء، يتلهون بها ظنا منهم أنه نضال لصالح الوطن، فيما العَدُو يزداد توغلا وتَمَكُنًا !!
خديجة توفيق معلَّى
- اكتب تعليق
- تعليق