خديجة توفيق معلَّى: عندما يتصور أشباه الرجال والنساء أنهم يُمَثِلُون الشعب التونسي!!
كلَما أَرتَكِبُ خطأ متابعة ما يجري من مداولات تحت قبة البرلمان التونسي، خلال هذه السنوات العشرالأخيرة وإلى يومنا هذا، أزداد قناعة وإقتناعا أن الديمقراطية ليست ولا يمكن أن تكون صندوق إقتراع، يُفرز أشباه رجال ونساء. صندوق يَسمَحُ بتواجد أشخاص لا صلة لهم بالوطن، ولا بهدف خدمة الشعب والسعي نحو تنمية البلاد والعباد، وخاصة لا علاقة لهم بتكريس إحترام مفهوم الدولة. هؤلاء لا يمكن أن يُمَثِل تواجدهم في البرلمان تجسيدا للمسار الديمقراطي.
فما هي الديمقراطية إذاً؟ وهل نحن نعيش فعلا مسارا ديمقراطيا في تونس في ظل غياب حركة تنويرية تُساهم في توسيع مساحة وعي شعبنا لإختيار من هو أهل لتمثيله، بكل حرية فكرية؟ وفي ظل مناخ وبيئة لا تسمح لأي شخص أن يتلاعب أو أن يمارس أي نوع من الضغوطات سواء كانت إقتصادية، أوأيديولوجية، أوعقائدية أو حزبية!
وخلافا للمقولة الشهيرة أنه: "لا يُلدغ المرىء من جحر مرتين"، فلقد لُدِغَ المواطن التونسي ألف مرّة ومن قبل أغلب من تهافتوا على كرسي أي سلطة كانت وأي منصب يملأ عليهم فراغ حياتهم الروحية، والنفسية والعاطفية والمعنوية والمادية! وخلافا لعنوان كتاب الكاتب الشهير"فكتر فرانكل": "البحث عن المعنى"، فإن هؤلاء لا يبحثون عن أي معنى لحياتهم لأنهم ببساطة يفتقدون لمغزى وكينونة أي معنى! "المعنى" بكل ما تَختَزِنُ هذه الكلمة من معاني وقيم ومساحة وعي، هم بعِيدون عنها بُعدَ المَجَرَّات بعضها عن بعض!
الديمقراطية (والمتكونة من جزئين في اللغة اليونانية :( δῆμος / dêmos) & (krátos»κράτος) ، يا سادتي الكرام وُجدت كي يَحكُمَ (krátos) الشعب (dêmos) نفسه بنفسه، أي بمعنى كي يتمكن الشعب من الحكم والسلطة كي يَخدُمَ نَفسه بنفسِه. وهنا يأتي المعنى الحقيقي لمقولة أن "خادم القوم سيّدهم"! فالشعب يختار مجموعة تَخدِم مصالحه وتسهرعلى توفير المدرسة اللائقة، والمستشفى اللائق، والمسكن والملبس اللائق، والمسرح والملعب اللائق والفن الراقي والثقافة المبدعة كي ترتقي به إلى المستوى الإنساني والكوني على سُلَّمِ "ديناميات نمو" المجتمعات. القرينة اليونانية كانت مبنية على شرعية الحكم مبنية على خدمة الصالح العام، ولم يكن في أبشع كوابيس من أنشأها وأسَّس لأهدافها، أن تُحكَم الدول بأشباه الرجال والنساء الذين ليس هدفهم خدمة الصالح العام! أناس لا يُمَثِلُونَ إلا أنفسهم ومصالحهم ومصالح من دَفَعَ، نقدا أو عينا أو من تواطىء مع جهات أجنبية، كي يتَحصل على هذا الكرسي ليجلس عليه ويتمتغ بغنيمته. القرينة يا سادتي، كانت أن يَخدِم مُمَثِلوا الشعب مواطنيهم بنزاهة وأصالة وبكل ما أوتوا من قوة وتفاني في العمل وروحٍ للمسؤولية العالية! لكنكهم خانوا الأمانة، وخيانة الأمانة في حق الشعوب، جريمة لا تُغتَفَر!
الذين دخلوا مجال هذا التنافس على السلطة يفتقدون في أغلبيتهم لهذه المبادىء، ولم يولدوا ويترعرعوا في بيئة تعلِّمهم هذه الخصال الحميدة والقيم الإنسانية العالية وبالتالي، "فاقد الشىء" يا سادتي الكرام، لا يمكن له "أن يعطيه"، مهما حاول أن يوهم الجميع بعكس ذلك، لأن الشعب يمكن أن يكون في خصاصة مادية، لكنه ليس غبي! شعبنا أذكى مما تتصورون، والتاريخ أثبت ذلك على مدار آلاف السنين ولا أحتاج شخصيا أن أبرهن عن هاته الحقيقة اليوم.
أغلبية من تنافس على كرسي السلطة التشريعية في العقود السابقة، قام بذلك من أجل هدف واحد، هو خدمة مصالح ضيقية مادية ومعنوية مبنية على أنانية مفرطة، وحب للذات والظهورالذي نمَّاهُ الإعلام الدرامي المبني على فكرة أن الغَلبة تكون لمن يصرخ أكثر ويستفز ويستهتر أكثر، حتى ولو يستغلَّ مداخلاته للسب والشتم والثلب وهتك الأعراض وتشويه الحقائق وإزدراء الوقائع التاريخية والعلمية... مثلهم في ذلك مثل الطبول التي تُقرع في المحافل، والتي تُحدث ضجة وهي خاوية، أو الرحى الفارغة التي تُحدث جعجعة لكن بدون طَحِين!!!
طحين طالما إنتظره المواطنون والمواطنات، وظهر هذا الإنتظار في أعينهم المذهولة وهي تجول أسواقا، وبأيديهم أقفاف فارغة أبت الأسعار الخيالية أن تملأها، فيعودون لمنازلهم بأفكار إبداعية لطهي أحسن غذاء لأطفالهم بأقل المكونات الممكنة... ضحالة خطاباتكم التافهة يا سادتي الكرام، أصحاب الكراسي، لم، ولا، ولن تقدر أن تملأ قفافهم وأن تُغنيهم من جوع وتُعلِّم أطفالهم وتُشفي مرضاهم، وتدفىء بردهم في الليالي السود! خُطَبُكُم الرنَّانة تفتقر لأبسط قيم اللياقة والنزاهة والإعتراف بالحقيقة، والتحلي بالموضوعية! لكن أخطر من ذلك، فهي تفتقر للأخلاق الحميدة لأنه للمرة الألف: "فاقد الشىء لا يعطيه"، فكفى عبثا بمصالح شعبنا، لقد طفح الكيل!
قلتها منذ سنين وكتبتها شعرا ونثرا، وها أنا أعيدها للمرّة الألف: كل مَن وُجد على أي كرسي سلطة كانت منذ هذه السنين الأخيرة، لا يُمثلني لأنه لم يأتي بهدف خدمة مصالح شعبنا بل مصالحه الخاصة ومصالح قبيلته الحزبية الضيقة. هؤلاء سرقوا مبدأ الديمقراطية، وأهداف الديمقراطية ووسائل الديمقراطية، مثلما سرقها كل أنواع وأشكال الدكتاتوريين في العالم من قبلهم. آن الأوان أن يُغلَقَ الستار على هذه الكوميديا السوداء على رُكحٍ تَجَمَعَت فيه أغلبية الدُمى المتحركة التي تُخيفنا بضحالة تفكيرها وبإزدراءها للتاريخ وتكفيرها لمن يغايرها الرأى. هذه الدمى المتحركة الغوغائية لا تؤمن إلاّ بالحزب الواحد والفكر الواحد والدين الواحد والقوم الواحد والقائد الواحد الأوحد الأحد!
كفى عبثا وإستهزاء بذكاء شعبنا، فلقد دقَّ ناقوس حتمية إنهاء هذه المسرحية الهزلية، لكن بالطرق السلمية، وذلك بإنسحاب المشاهدين والمشاهدات الذين سئموا شطحاتكم السريالية، ووعوا بنوايا وخطط من وراء الستار، والذي يحرك خيوط الدمى المتحركة! لقد نفذ صبر المواطنين والمواطنات الذين أصبحوا ينتظرون عود الثقاب كي يحرقوا الأخضر واليابس من شدة اليأس والإحباط الذي أوصلتموهم إياه، وسوف تتحملون مسؤوليتكم في ذلك.
في الأخير، أقول للذين يهدِّدون بإشعال أعواد الثقاب في مستقبل قريب جدا، إن مشروعكم يمكن أن يُكلِّف شعبنا ويلات الإنزلاق في سيناريو مجهول لا تُحمد عُقباه، وسوف تتحملون المسؤولية التاريخية، أنتم كذلك. لا ترموا بشعبنا في صراعات أُجِّجت على مدار الفترات الأخيرة، والتي لو إَندَلَعت نيرانها، فلن تكون لكم القدرة على إخمادها.
تونس لا تحتمل هدَّامين أكثرمن الذين حكموها في العقدين المنصرمين أو أكثر. تونس تحتاج لمهندسين وبنائين يمتلكون الحكمة والرؤية بعيدة المدى لمشروع إصلاحي تنويري حداثي يأخذ بيدها لمستقبل مشرق ويوفرُ لشعبها السلم الإجتماعي والأمن الغذائي والإزدهار الإقتصادي ويضمن الحقوق والحريات التي ناضل ولا يزال يناضل من أجلها شعبنا! الشعب الذي "أراد الحياة"، لكن كل وطني ووطنية حرّ وحرّة فيه، مستعد أن يموت من أجل أي شبر وأي حبة رمل من أرضها الخضراء الولاَّدة!
غالي ترابك يا تونس!
خديجة توفيق معلَّى
- اكتب تعليق
- تعليق