مختار اللواتي: المواطن و"الإنتقال الديمقراطي" بين التحول الفيروسي والتحول الديكتاتوري

مختار اللواتي: المواطن و"الإنتقال الديمقراطي" بين التحول الفيروسي والتحول الديكتاتوري

من تركيبة العنوان وطوله، دخلنا في صلب الموضوع.. صبرُكُم وصبرُكُن عليَّ..

فسأحاول تفكيكَ المُرَكَّبِ وتبسيطََ المعقَّدِ مااستطعتُ إلى ذلك سبيلا..

أنا لاأميلُ إلى نظرية المؤامرة التي أصبَحَتْ ملاذَ الكثيرين في كلِ صغيرةٍ وكلِ كبيرة، حقاً وباطلاً. اللهُمَّ إذا تبينتْ لي علاماتٌ ومسكتُ خيوطاً تُغلِّب ذلك الظن.

لا علينا، إذ ليس المجالُ لهكذا جنوحٍ في هذا المَساحْ، وإنما المرادُ في هذه الورقة هو شرحُ بعضِ الطلاسم وكشفُ ما تُخفيه. وإن أفشلُ في ذلك، فيكفيني محاولةُ طرحِ الأسئلة بشأنها، علَّ يأتي يومٌ تجد فيه الشرحَ الشافي ..

بِمَ تريدون أن أبدأ؟

أنا أرى أن نبدأ بأول العنوان. أي بالمواطن. قد تقولون، وما الغموض في كلمة مواطن حتى تبدأَ منها تقليعةَ التفكيكِ والشرحِ هذه التي طلعتَ بها علينا؟
الغموضُ بدا لي في المضمون وليس في المنطوق. ودائما صبرُكُم محمود! فلِكلمة مواطن، في تقديري، (من دون تفريق ذكوري وأنثوي)، دلالةٌ جوهريةٌ، تعني الجزءَ الرئيسي الفاعلَ من كلمة وَطَن.

و لذلك فلا تُطلَق عبارة "مواطن" على الفرد إلا في دولةٍ تعترف له بهذه الفاعلية، من حيث مشاركتُه في إرساء نظامها ومؤسساتها وسَنِّ تشاريعِها، وقبولِهاَ مراقبته لتصرفها في كل مجالات الحياة، بما يضمن العدل والكرامة والحرية والأمانَ لكل المواطنين والمواطنات، في ظل قانونٍ عادلٍ نافذٍ على الجميع. وإلا، أي في غياب هذه الشروط، لايكون لكلمة "مواطن" المعنى الصحيح. فقد يصحُّ أن يُسمَّى، رَعيَّةً مثلا، يعود ل"راعِيهِ"، مَلكا كان أو إمبراطوراً، أو أميراُ، (أميرمؤمنين، إن شئتم)، أو ما شابه ذلك، أمرُ تدبيرِ شؤون حياته بجميع أشكالها، بما يراه صحيحا، حتى إن استدعى الأمرُ قتلَ الثلث أو الثلثين من هؤلاء الرعايا "لتلجيم" البقية، فله ذلك.

قد تقولون لقد زال كل ذلك في الدولة الحديثة القائمة على المؤسسات وعلى القانون، وليس على حكم الفرد الواحد الأحد، الناطق باسم الرب أو بقوة العسكر. ثم إن الدولة الحديثة تلك، لا يمكن أن تقوم إلا بمواطنين وليس برعايا !!

نظريا، اعتراضُكم مفهوم. ولكن القبول به يستدعي شيئا من التدقيق. فإن كانت الدولة تُؤَمِّنُ لمواطناتها ومواطنيها التنفيذَ الكامل لتلك الإشتراطات التي ذكرنا البعضَ منها، فيا حبذا، وإن هي وفَّرتْها شكلاً وتلاعبت بها مضموناً، فعندها يحل الشك في نواياها محلَّ الثقةِ واليقين. أي إنها بذلك، تريد أن يكون لديها مواطنون في الظاهر فقط، ولكنهم مدجَّنون وفي مقام الرعايا بالفعلِ وفي الواقع. لاحول لهم ولا قوة في الإعتراض على سياساتها أو في الرفض لقراراتها. وإذا كان للملك أو للأمير أو الإمبراطور حقُ قَطْفِ الرؤوس إذا هي أينعت ببعضِ الأفكار التي تراها نيِّرةً لتقويم الإعوجاج وإصلاح الأخطاء، فإن الحكامَ في الدولة الحديثةِ ذاتِ المؤسسات المتقاسِمةِ في الظاهر للسلطة، قد أصبحوا يلجأون إلى حيلةٍ جديدةٍ مبتكَرة يعتمدون فيها على ثالوثٍ سحري لا يخيب من يعتمد عليه، بأضلُعِه الثلاثةِ العجيبة.

إنه الديمقراطيةُ المغشوشةُ في القاعدة، وحريةُ الكلام في الضِلعِ الأيسر، والتفقيرُ في الضلعِ الأيمن. وبالطبع، ومادام الأمر يستدعي المهارةَ في استعمال هذه الخلطةِ وفي حِذقِ اختيارِ البَهاراتِ التي تضفي عليها مذاقا عسليا، فلا بأس، بل لا بد، من اعتماد الخُطَب الخشبيةِ صعبةِ الفهم، وإطلاقِ الشعارات الغامضة التي يُخَلِّفُ سماعُها الصُّداعَ،  فما بالُكَ بمحاولة فهمِ حقيقتها والمرادِ منها، ومنها تلك العبارةُ الشهيرة، أو الأشهر، التي هي "الإنتقالُ الديمقراطي" ! فكم من سنة الآن وهم مُبحِرون بنا في سفينتِها أو في قطارِها، أو حتى في "كَرِّيطَتِها"(العربة التي يجرها حمار). ولم يُقَدَّر لنا بعدُ الوصولُ إلى نهايتها !!

في أثناء الرحلة، كثُر الزعيق وعلَت الإحتجاجات، سواء ضد استشراء الفساد حتى طال مؤسسات الدولة ذاتها، بل وتَمَرْكَز في مالكةِ السلطةِ التشريعيةِ منها، وتلك الرافعةِ من بينها رايةَ استقلال القضاء. ولا أحد اكترث من الحكام الذين أضحوا كُثُرا ببَرَكة الديمقراطية، على مقاس الشعب المُقَرقَطِ المُقَرْمَطْ . فقط، هم لم يتوقفوا عن المنِّ وتذكير الجاحدين، من أمثالي، بأنهم ينعمون بالحرية، حريةِ الكلام وحتى السبِّ والإحتجاج، ولِمَ لا حرية السرقة والنهب والخطف والإغتصاب والقتل، لكثيرين ما كانوا لينعموا بها لولا فضائلُ الثورة المجيدة التي أتت بثوارها من أقاصي الأرض ليُرشدوا أبناءَ وبنات هذا الشعب الطيب إلى السراط المستقيم المُوصِلِ رأسا إلى الجنة!

وإياكم أن تسألوا لِمَ كلُ هذا التسويف في إطالة طريق "هذا الإنتقال الديمقراطي" العجيب؟ والحال إنه قصيرٌ آمنٌ وسهل، لو صدق العزم وصَفت النية. فلو تم استكمال انتخاب الهيئات الدستورية، وعلى رأسها المحكمة الدستورية، وقد مضى من الزمن خمس سنوات الآن على تشريعها في الدستور الجديد. ولو تم محاسبة الخارجين عن الدولة وعن قوانينها، والضربُ على أيدي الفاسدين المفسدين، ولو تم إعطاء الأولوية في الرعاية للمناطق الأكثر فقرا ولسكانها، عوض التبديد السافر لأموال الشعب. ولو تم اعتماد الكفاءة قبل الولاء والجاه، سواء كانا من صلةٍ حزبية أو من مكانةٍ مالية، في إسناد المسؤوليات والإمتيازات. ولو تم توخي الإعداد العلمي الدقيق لمخططاتِ وبرامجِ عمل الدولة بمختلف أجهزتها بدل إطلاق العنان للخطب المعسولة الحالمة والكاذبة، في الحملات الانتخابية، ولو تم تفعيل هيئات المحاسبة والمراقبة، لكانت تحققت الديمقراطية الحقة، بلا حاجة للطلسم المسمى باطلا، "إنتقالٌ ديمقراطي" ! ولكنه كان خيارا مقصودا للتلهية عن الجوهر بهذا الخداع البصري والذهني معا، كما يفعله سحرة "خفة الأيدي" الذين كنا نتسلى بحيلهم الذكية على المسارح وشاشات التلفزيون، أيام زمان على غرار "دورتيس" الشهير رحمه الله.

وها إنكم ترون هذا الخليطَ الهجين المتنافر من الحكام المستحكمين في رقابنا، وهم يتبادلون الأدوار، حتى اصابونا بالدوار، بين ثوريين وثوريين ونصف، وحداثيين ومحافظين وإصلاحيين وانتهازيين وفاسدين. ومصلحين ومجرمين !. فقوموا أنتم بالفرز إن استطعتم ! وكم حاول ذلك غيرُكم من أصحاب النوايا الطيبة من قبلكم، ولكنهم فشلوا.

والنتيجة؟؟

النتيجة أننا لم نبلغ بعد مرتبةَ المواطنَة الحقة، وأن الدولة، بهؤلاء الحكام المهيمنين عليها، لا تريدنا أن نبلغ تلك المرتبة، بتشويهها للديمقراطية وتطويعها لمبتغاها. ومبتغاها أبعدُ ما يكون عن مبتغى الوطن والمواطنين. وبالإبقاء على الفقر وعلى التباعد الاجتماعي في معناه العميق، وبوضع كل الحواجز أمام المواطنين الحقيقيين كي يظلوا خارج دائرة التأثير والتغيير والإصلاح. وبإلهائنا جميعا بكثيرٍ من الإعلام ذي الإسهال اللفظي يقوده أدعياءُ خبرةٍ في كل مادبَّ وهبْ. ولم ينج من قبضتهم، أباطرةَ مالٍ أو سياسةٍ كانوا، إلا النزرُ اليسيرُ من إعلاميين حقيقيين، ذوي كفاءات وطنية مشهودٍ لها بالنزاهة والخبرة. ولكنَّ تحاليلهم وتحذيراتهم ظلت لحد الآن تصب في وادٍ غيرِ ذي زرع. فبئسَ الحرية، حريةِ الكلام وحريةِ اللطم وحريةِ الحريةِ مهما كان لونها، ومهما كان شكلها، قبحا أو جمالا، ما دامت تُفسِح في المجال للمضي في المخطط الجهنمي لإدامِة استعبادِ هذا الشعب بقفازاتٍ حريريةٍ هذه المرة، بعدما افتضح أمرُ الإغتيالات، العلنيةِ منها والمتسترة !. فحتى رئيس الحكومة الذي توسمنا فيه الخير، لم يكتف بتعزيز صف مستشاريه باثنين من عُتاةِ الرجعية والحقد على الدولة الوطنية، بل فوَّض جانبا مُهِمًّا من صلاحياته، فياحدث منشوراته الإسنثنائية، لوزير الدولة في الحكومة، بعدما سبق وقال بأنه المسؤول الوحيد على الجهاز التنفيذي وعلى رسم ومتابعة خطة محاربة فيروس كورونا وما بعده، والنجاح فيهما. بل لقد أبعد الناطقة الرسمية باسم الحكومة وقدّم أربعة وزراء ليتحدثوا بدلا عنها وعنه عن برنامج الرفع التدريجي للحظر الصحي..

الخاتمة؟؟

لم يبقَ لي في الختام إلا حقُ السؤال، أليس كلُ هذا ديكتاتوريةٌ متحولةً في شكلٍ جديد؟؟

فمادام فيروس كورونا، مثلما أكده المحللون في المخابر، بصدد المرورِ بتحولاتٍ في مفعوله وفي شكله منذ انفلاته من قمقمه في الصين إلى أن حَلَّ ببلادنا، أفليس ممكنا أن تكون قد سبقته الديكتاتورية بالتحول من شكلها الفظ القائم على تكميم الأفواه وإحكام العصى في من عصى، إلى هذا الشكل الناعم الجديد الذي نتجرعه منذ سنوات، تحت يافطات، "التحول الديمقراطي" و"نعمة الحرية"؟؟ ومسك الختام "الوحدة الوطنية"؟ فيما رمت وترمي أفعالُ غالبيتهم، عكساً، إلى التفرقة الوطنية !!.

أفلا تشكرون؟؟

فقط، طلبي إليكم في الختام، أن تصمتوا قليلا وتفكروا كثيرا في حال البلد وفي أحوال أطفالكم ومستقبلهم إذا ما استمر الحال على ما هو عليه، إن لم يزدد سوءً، قبل أن تأخذوا أي قرار..

مختار اللواتي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.