أخبار - 2020.04.26

محمد النوري: العقود الآجلة من منظور الاقتصاد الإسلامي

محمد النوري: العقود الآجلة من منظور الاقتصاد الإسلامي

اثارت أزمة الهبوط المفاجئ لأسعار العقود الآجلة للنفط الخام الامريكي جدلا واسعا في الاوساط الاقتصادية والمالية وطرحت العديد من التساؤلات الجوهرية حول تداعيات هذا الحدث وانعكاساته على آليات السوق الرأسمالي في صيغته النيوليبرالية الجديدة التي تحتل فيها أدوات الهندسة المالية المستحدثة دورا بارزا في تحديد اتجاهات الأسواق وبناء الثروة وهو ما يحتاج الى تنويع المقاربات والاطروحات التي تفسر مثل هذه الازمات التي لا مثيل لها في تاريخ النظام الرأسمالي المعاصر، الذي تعطل فيه المنطق الاقتصادي التقليدي وتحولت الأسعار الى أسعار سالبة بدءا بأسعار النفط كما حدث الاثنين الماضي وانتهاء بأسعار الفائدة الصفرية والسالبة أيضا الدي انتهجته الكثير من البنوك المركزية في العالم.

فيما يلي قراءة للحدث من خارج الصندوق كما يقال وهي محاولة لمقاربة للموضوع من منظور الاقتصاد الإسلامي الذي تستقطب مبادئه وقواعده المالية الإسلامية اهتمام العديد من الاقتصاديين والخبراء في دول غربية عدة. ما هي خصائص هذه المقاربة الاقتصادية الإسلامية للعقود الآجلة؟ وما علاقة العقود الآجلة بأزمة النفط الراهنة؟ وما هي انعكاسات هذه الازمة على الاقتصاد التونسي؟

مفهوم العقود الآجلة من منظور إسلامي: 

العقد الآجل عقد يلتزم بمقتضاه طرفان أحدهما بائع والآخر مشتري لبيع أو شراء أداة مالية أو عملة أجنبية أو سلعة محددة (بترول مثلا) في تاريخ محدد مستقبلا بسعر متفق عليه. العقود الآجلة تتم في الظاهر على أصول وسلع لكن المقصود منها في نهاية المطاف ليس تبادل تلك السلع وانما هو المراهنة على تقلبات السعر خلال المدة التي حددت في العقد، ولذلك تتم التسوية بنسبة 99% من الحالات ويكون وجود السلعة صوريا. لا يتحقق الربح او الخسارة الا في التاريخ المحدد للتسليم. بالتالي هي عقود قائمة على المجازفات والمضاربات وليس على تداول السلع وتبادل المنافع لان المقصود منها هو تحقيق أرباح قبل الوصول الى أجل التسليم.

من اجل ذلك لجأت المحاكم الامريكية في بعض الأوقات الى  آلية «اختبار النوايا» لتحديد مقصود الطرفين. بينما الشريعة الإسلامية اكثر حكمة  وأسدَ نظرا عندما اشترطت منع تأجيل البدلين سدا لباب المجازفات الضارة حتى يكون المقصود الحقيقي من المعاملة هو الانتفاع الحقيقي بالسلع محل التعاقد اما العقود الآجلة فهي مبادلة دين بدين المقصود به تبادل المخاطر وليس تبادل السلع، وهو دليل على اعجاز التشريع الإسلامي في بناء الثروة على الأصول وليس على الديون.

أسباب ازمة النفط الأخيرة

أسواق النفط كسائر السلع الأخرى إما أن تكون أسواق حاضرة(تبادل فوري بناء على قاعدة العرض والطلب) أو أسواق آجلة ( دون تسليم فوري للبدلين لا السعر ولا السلعة)، وإنما يتم دفع هامش بسيط، والتسليم للثمن والسلعة يكون في تاريخ مستقبلي. أهم عامل من العوامل المؤثرة في تحديد السعر بالإضافة الى العوامل التقليدية (العرض والطلب، أهمية السلعة، ظروف السوق) الأطراف المتدخلة في السوق وفي مقدمتهم المضاربون الذين يراهنون على تقلبات الأسعار ويستفيدون من الفارق.

المضاربون على العقود الآجلة  باعتبارهم لم يدفعوا الثمن كاملا، يلجؤون (بناء على متابعتهم لتحركات السوق والمعلومات التي تتموفر لديهم)  إلي التخلص منها مع تحمل خسارة أقل مما لو استلموا تلك الكميات في موعدها المحدد والتحول إلي مضاربات أخرى في آجال مستقبلية تعوض لهم خسارتهم. ويقود السلوك الطائش لهؤلاء المضاربين في الأسواق المالية على العقود الآجلة الى حالة من الضبابية وعدم الاستقرار في الأسواق والى انخفاض حاد في السعر الآجل للسلعة المعينة(النفط مثلا على غرار ما حصل يوم الاثنين). 

السبب الآخر لما حصل يوم الاثنين من هبوط حاد في سعر الخام الأمريكي بالإضافة الى عامل المضاربة المتهورة هو عدم وجود قدرة تخزين كافية عند شركات النفط في شهر ماي لعقود الشراء الخاصة بنفس الشهر. لذلك اضطرت تلك الشركات للتضحية بكميات من النفط باقل حتى من سعر التكلفة (ناقص 37 دولار للبرميل) تماما مثلما يتصرف الفلاح عندما يتيقن بان الاحتفاظ بإنتاجه سوف يكلفه اكثر من التخلص منه ولو برميه في الطريق. 

وكل هذا الوضع بطبيعة الحال يعود الى السبب الأصلي وهو مخلفات ازمة الكورونا التي اختل فيها الطلب بشكل كبير بسبب تعطل الحركة الاقتصادية وشلل معظم القطاعات التي تستهلك النفط والطاقة بشكل عام، حيث تكدس الإنتاج واصبح العرض يفوق الطلب بشكل فادح والدول المنتجة للبترول لا تريد وربما لا تستطيع تخفيض انتاجها لان كلفة إيقاف الضخ باهظة بالإضافة الي الاعتبارات السياسية التي تهيمن على العملية والتجاذبات بين كل من روسيا والسعودية والدور الأمريكي في كل ذلك.

جوهر الأزمة

حقيقة الازمة ليست في سوق النفط بل هي في سوق المال وهو ما صرح به صراحة الرئيس الأمريكي بسبب الصعود المستمر للدولار أمام باقي العملات مما يرتب خسائر للشركات والدول المستوردة للنفط لأمريكي. لذلك بدأ عدد من المستهلكين الشراء بعقود من أسواق مجاورة لأمريكا وبعملات محلية. بالإضافة الى تحول ازمة اسعر العقود الآجلة للخام الأمريكي الى ازمة في أسعار النفط بشكل عام وخصوصا البرنت الخليجي ومنتجات سلة الاوبك. كل ذلك يحصل في ظل أسعار فائدة صفرية وحتى سلبية بحيث أضحت البنوك الغربية مضطرة الى أخذ فوائد من العملاء مقابل الحفاظ على مدخراتهم تماما كما يحصل في سوق النفط السلبي.

من أجل تفادي المجازفات والمضاربات على العقود الآجلة دعا الاقتصادي الفرنسي الشهير موريس آلي الى ضرورة رفع الهامش المطلوب في تلك العقود بدرجة كبيرة لمنع كل السلوكيات الضارة بالاقتصاد. في حين حرمت الشريعة الإسلامية التعامل بالعقود الآجلة وكل المشتقات المالية من خيارات ومستقبليات ومقايضات واشترطت المناجزة اي اكثر من ذلك وهو تسليم الثمن كاملا لتقليص المجازفات وتوجيه المبادلة الى النتيجة الإيجابية من خلال إتمام التبادل الحقيقي للسلع، ووضعت ضوابط للعلاقة بين النقود والسلع وشروط للمبادلة الاقتصادية العادلة كما نص عليها حديث الأصناف الربوية الستة.

هل أزمة النفط هذه أزمة عابرة أم تخفي وراءها أكمة من الأزمات في أسواق أخرى ؟ لا أحد عنده الإجابة القاطعة، فلربما يتم تطويق الازمة النفطية بالضغط على المنتجين لتخفيض انتاجهم وتجاوز ازمة التخزين بمجرد الخروج من حالة الحجر الصحي السائد على نطاق عالمي وبالتالي عودة الامور الى نصابها، لكن المتيقن وهو ما تؤكده توقعات العديدين من الخبراء والمتابعين وحتى المؤسسات المالية الدولية هو ان العالم دخل من خلال ازمة فيروس الكورونا الى أتون أزمة اقتصادية حقيقية تفوق تداعياتها كل الازمات السابقة وان الركود الاقتصادي الذي يتجه اليه العالم ليس ضيفا عارضا وانما هو مرحلة جديدة سوف لن تكون مشابهة لسابقاتها اطلاقا.

ما يحدث من أزمة تاريخية في سوق النفط دليل على الاعجاز الاقتصادي للتشريع الاسلامي:

جاء في قرار مجمع الفقه الاسلامي الدولي المنبثق عن منظمة التعاون الإسلامي رقم: 238 (9/24) بشأن عمليات التحوط في المؤسسات المالية الإسلامية بتاريخ 06 نوفمبر, 2019 أن:

  • العقود الآجلة التي تجري في هذه السوق( سوق النفط مثلا) ليست في معظمها بيعاً حقيقاً، ولا شراء حقيقاً؛ لأنه لا يُجْرَى فيها التَّقَابُض بين طرفي العَقد فيما يُشْتَرَط له التَّقَابُض في العِوَضَين أو في أحدهما شرعاً. أن البائع فيها غالباً يبيع ما لا يملك من عملات وأسهم أو سندات قروض أو بضائع، على أمل شرائه من السوق وتسليمه في الموعد، دون أن يقبض الثمن عند العقد كما هو الشرط في السَّلَم
  • أن المشتري فيها غالباً يبيع ما اشتراه لآخر قبل قبضه، والآخر يبيعه أيضاً لآخر قبل قبضه. وهكذا يتكرر البيع والشراء على الشيء ذاته قبل قبضه إلى أن تنتهي الصفقة إلى المشتري الأخير، الذي قد يريد أن يتسلم المبيع من البائع الأول، الذي يكون قد باع ما لا يملك، أو أن يحاسبه على فرق السعر في موعد التنفيذ، وهو يوم التصفية، في حين يقتصر دور المشترين والبائعين ـ غير الأول والأخير ـ على قبض فرق السعر في حالة الربح، أو دفعه في حالة الخسارة، في الموعد المذكور، كما يجري بين المقامرين تماماً.

لذلك فان البديل الاسلامي عن العقود الآجلة هو عقد السلم وهو بيع آجل بعاجل والفرق بينه وبين العقد الآجل ان هذا الاخير يتضمن تأجيل البدلين اَي الثمن والسلعة بينما في السلم ينبغي تعجيل الثمن وتأجيل السلعة الموصوفة في الذمة. 

من حكمة الشريعة الاسلامية منع تأجيل البدلين الا في حالات الضرورة القصوى والسماح بتأجيل الثمن ( في البيع الآجل) وتعجيل السلعة او تعجيل الثمن وتأجيل السلعة (في عقد السلم) ويمنع تأجيل الثمن والسلعة كما هو سار في العقود الاجلة التي أدت الى هذه الازمة والتي تعد من قبيل بيع الكالئ بالكالئ اَي بيع الديْن بالديْن المنهي عنه.

الانعكاسات على الاقتصاد التونسي:

أما انعكاسات هذه الازمة على الاقتصاديات النامية مثل الاقتصاد التونسي فهي ولا شك انعكاسات حقيقية أولا بمجرد استمرار الركود الاقتصادي في سائر دول العالم ومنهم شركاء اقتصاديين لتونس (أغلبهم بالمناسبة من اكبر بؤر الكورونا) سوف يؤثر بلا شك سلبا على نسبة النمو التي تشير التوقعات الى انها ستكون سلبية أي نمو ناقص من 4،3-٪(حسب صندوق النقد الدولي) الى ربما اكثر من ذلك وهو ما يعني ببساطة كلفة اجتماعية باهضة على مستوى الأجور والبطالة والمقدرة الشرائية وكلفة اقتصادية من جراء تقلص الاستهلاك وتراجع الاستثمار وشلل في التصدير والسياحة والنقل ومعظم القطاعات الانتاجية. لكن بالمقابل يمكن ان تستفيد البلاد من تراجع أسعار النفط (وليس سعر الخام الأمريكي الذي لا علاقة لنا به) وتتخلص تدريجيا من عبء دعم المحروقات، لكنها ليس من مصلحتها المجازفة في عقود آجلة ولا الاستمرار في استخدام آلية التحوط في ظل التقلبات المتواصلة  والضبابية الحاصلة في أسواق النفط العالمية.

د. محمد النوري

اقتصادي وباحث في الاقتصاد والتمويل الإسلامي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.