أخبار - 2020.04.02

حنّبعل ما بعد معركة زاما (202 - 183 ق م): مرحلة المنـافي والخيانات

حنّبعل ما بعد معركة زاما (202 - 183 ق م): مرحلة المنـافي والخيانات

كانـت هزيمة جيش قرطاج بقيادة حنّبعل في معركة زاما التي دارت رحاها في خريف سنـة 202 ق.م على الأرض الإفريقية بسهول سليـانـة الحاليّة، نكـسـة كبـرى في مسيرة هذا القائد العسكري العبقري، خاصّة وأنّها أتت بعد الانتصارات المبهرة التي حقّقها منذ بداية الحـرب البونيّة الثّـانية (218 ق م)على جـيـوش روما في جلّ المعارك التي خـاضها على الأراضي الإيطالية.

بعد أن حسم أمر تلك المعركة لفائدة الجيش الرّوماني، لم يتردّد حنّبعل ـ وكان وقتها في سنّ الخامسة والأربعين ـ في القدوم إلى قرطاج التي غادرها منذ سنّ التّاسعة إلى إسبانيا، للمثول أمام مجلس شيوخ المدينة للمساءلة، بوصفه قائد الجيش القرطاجي في هذه المواجهة العسكريّة التّاريخية. وقد كان الموقف بالنّسبة إليه على غاية من الصعوبة، ذلك أنّ هزيمة زاما لم تكن مجرّد خسارة معركة فحسب، بل كانت تعني خسارة الحرب البونيّة الثّانية بأكملها من قبل قرطاج.

لم يتنصّل حنّبعل من الإقرار بمسؤوليّته في الهزيمة التي حصلت، بل وذهب إلى أبعد من ذلك، عندما دعا مجلس الشّيوخ إلى المبادرة بإبرام معاهدة صلح مع العدوّ الرّوماني. ذلك أنّه كان يقدّر بواقعيّة كبيرة، أنّ هذا الخيّار يمثٌّل إكراها أقلّ خطر وأخفّ كلفة على قرطاج من مواصلة حرب لم تعد متكافئة، قد تنتهي باستعمارها أو بدمارها.

أبرمت المعاهدة فعليّا سنة 201 ق م وكانت شروطها قاسيّة جدّا، فقدت قرطاج بمقتضاها جزءا هامّا من سيّادة قرارها في إعلان الحرب وإبرام السّلم، كمـــا التزمت بتدمير القسم الأعظم من أسطولها الحربي والاستغناء عن فيلتها، علاوة على دفع غرامة ماليّة سنويّة  ثقيلة لفائدة خزينة روما طيلة خمسين سنة.

لم تسلّط المصادر التّاريخيّة القديمة ضوءا كافيا لتعقّب خطوات حنّبعل خلال السّنوات الخمس التي تلت إبـــرام المعاهدة، غير أنّ القليل المتيسّر منها، يذهب إلى أنّه تولّى من جديد قيادة ما تبقّى من الجيش القرطاجي مع الإقامة بمنطقة السّاحل التّونسي، حيث تمتلك عائلة برقا الثٌريّة الٌتي ينحدر منها أملاكا شاسعة. ومن غير المستبعد أيضا، أنّ حنّبعل كان يطمئنّ لتلك الرّبوع أكثر من قرطاج، لمعرفته الجيّدة بها ولكثرة ما لديه فيها من أنصار.

سنـــة الحكـم

لم يعد حنّبعل إلى قرطاج إلاّ سنة 196 ق.م، عقب انتخابه من قبل مجلس الشّعب حاكما (سبطا) للمدينة. وما إن تولّى مقاليد السّلطة العليا، حتّى شرع في القيام بإصلاحات عميقة وجريئة بهدف وضع حدّ للفساد المالي الذي كان مستشريّا في ذلك الوقت لدى الكثير من كبار أثرياء قرطاج وأعيانها، وبقصد الحدّ في الآن نفسه، من النّفوذ السّياسي الذي كانوا يحتكرونه.

وسريعا ما أتت إصلاحاته أكلها، فارتفعت مداخيل خزينة الدّولة، واستعادت قرطاج عافيتها الاقتصادية وتمكنــت مـــن الإيفاء بالتزاماتها المالية الثقيلة تجاه روما دون إثقال كاهل مواطنيها بالضرائب، الأمر الٌذي جعل المؤرخين يستخلصون أنّ السنة الٌتي حكم خلالها حنٌبعل، مثٌلت منطلقا لمرحلة من النٌهوض الاقتصادي والسكاني والمعماري عاشتها قرطاج طيلة نصف القرن الٌذي سبق  تدميرها في موفّى الحرب البونية الثٌالثة.

الهجرة إلى الشرق والمنفى الأول

غير أن جرأة الإصلاحات التي أدخلها حنبعل على كافة أوجه الحياة في قرطاج خلال سنة حكمه، أثارت ضده حفيظة الأعيان الٌذين  هددتهم في مصالحهم وفي نفوذهم، إلى درجة جعلتهم يكيدون ضده لدى الرومان، ساعين لإقناعهم بأنّ حنبعل كان يتآمر ضدهم ويتخابر مع عدوهم أنطيوخوس الثٌالث ملك الإغريق السلوقيين، الٌذي كان يسيطر في ذلك الوقت على الجزء الأكبر من بلاد الشام وآسيا الصغرى، ويطمح في التوسع نحو الأراضي الإغريقية الٌتي لا تزال خارجة عنه في أوروبا. 

ما إن علم حنبعل بما يحاك ضده حتى قرر مغادرة قرطاج على الفور متخفيا ومتجها مرة أخرى إلى منطقة الساحل، ومنها عبر إلى جزر قرقنة حيث سارع قبل أن يلحق به أعداؤه بالإبحار في اتٌجاه مدينة صور الٌتي لم تمثٌل سوى محطٌة في طريقه إلى مدينة إيفاز بتركيا الحالية، حيث التقى حنبعل بالملك أنتيوخوس الثٌالث، ووضع نفسه على ذمّته.

لم يكن اختيار حنبعل لهذه الوجهة اعتباطيا، بل كانت له مبررات عدة: أولها تشبعه الشٌخصي الكبير بالثٌقافة الإغريقية منذ نشأته وتأثٌره المعروف بها، وثانيها أنه كان في حينها على دراية بسوء العلاقات بين الدولة السلــوقية وروما، بسبــب إرادة التوسع لكل منهمـا في كل من اليونان وآسيا الصغرى.

كان من المفترض أن يمثل وجود القائد القرطاجي الكبير إلى جانب أنطيوخوس الثٌالث مصدر قوة بالغ الأهمية بالنسبة إلى هذا الأخير، بالنظر إلى خبرة حنٌبعل الفريدة في الحروب ومعرفته الجيدة بمواطن قوة وضعف الجيوش الرومانية. لكن أنطيوخوس خير لأسباب تثير تساؤل المؤرخين إلى اليوم، تهميش دور حنبعل. فعينه مجرد مستشار عسكري دون أن يسند له أي دور قيادي في المعارك الٌتي ستدور رحاها بداية من سنة 193 ق م بين ألسلوقيُين والرومان. ولم يكن أنطيوخوس الذي عرف بتذبذبه وتردده، مصغيٌا إلى نصائح حنبعل أو مهتما بالخطط الجريئة الٌتي عرضها عليه لتحسين أداء جيشه وإعداده لمواجهة جيوش الرومان العصية، فكانت هزيمته في معركة مانييزي سنة 189 كارثة حقيقية لم تضع حدا لطموحاته التوسعية فحسب، بل وفرضت عليه إبرام معاهدة صلح قاسية، كان من ضمن شروطها الخفية، تسليم حليفه حنٌبعل إلى الرومان.

الهجرة إلى أرمينيا- المنفى الثاني

لا تفيدنا المصادر كثيرا حول كيفية خروج حنبعل من هذا المأزق، غير أن البعض منها  يذهب إلى أنه تحول إلى جزيرة كريت، حيث أقام مدة وجيزة قبل أن ينآى بنفسه إلى مملكة ارمينيا لبعدها نسبيا عن اهتمامات الرومان وأنظارهم. وهناك استقبله ملكها أرتكسياس الأول، وقربه إليه، ناهيك أنه أوكل إليه اختيـار موقع العـاصمة الجديـدة لدولته «أرتشـــات» على سفـــوح جبـــل أرارات وبتخطيط معمارها. 

الهجرة إلى بيتينيا -المنفى الأخير

دامت إقامة، أو قل عزلة حنٌبعل بأرمينيا أقل من سنتين (188 - 187 ق م) ثم انتقل منها إلى مملكة بيتينيا الصغيرة الكائنة شمال الأناضول، حيث استقدمه ملكها بروزياس الأول للاستعانة بخبرته في حروبه ضد الممالك المجاورة. وقد عهد له بروزياس بقيادة أسطوله خلال معركة بحرية وقعت في بحر مرمرا، انتصر فيها حنبعل رغم عدم تمرسه في مجال المعارك البحرية.

ومن الملفت للنظرأيضا، أنّ بروزياس أوكل لحنبعل مثلما فعل ذلك ملك أرمينيا قبله، تأسيس وتصميم عـاصمته الجديدة بورسا بالقرب من مضيق البوسفور.

النهــــايـــة

لم تكن الحظوة الٌتي صار حنبعل يتمتع بها لدى ملك بيتينيا  مصدر اطمئنان بالنسبة إلى الرومان، فبادروا بإرسال أحد كبار قادتهم مبعوثا إلى بروزياس ليطلب منه تسليمهم إياه. لم يجرأ الملك االبيتيني على الاعتراض على هذا الطٌلب، بل بدأ بتنفيذه غدرا، مرسلا عساكره لمحاصرة حنبعل في القصر الٌذي التجأ إليه. ولما أدرك القائد القرطاجي أن كل منافذ القصر سدت أمامه وأن لا مهرب له من الوقوع في يدي ألد أعدائه الرومان، فضل الانتحار بجرعة سم كان يخفيها في فص خاتمه لهذه النهاية. كان عمره آنذاك خمسة وستين سنة. دفن حنبعل حيث توفي في مكان يوجد جنوب مضيق البوسفور. ويقال إن الإمبراطور الرُوماني سبتمـوس سيفيروس(154 - 211 م) ذو الأصـل اللوبي أذن في عهده بإحاطة الضريح بالرخام. يتكون الضريح في وضعه الحالي من نصب بسيط منقوش على مرتفع يحيط به شجر السرو. كل ما فيه يوحي بالغربة الٌتي عاشها هذا القائد القرطاجي العظيم طوال الثٌلث الأخير من حياته.

فمتى يا ترى يقام لحنبعل في مدينته الأم، تلك الٌتي كرس حياته وعبقريته وشجاعته للذٌّود عنها، معلم يرتقي إلى قامته ومقامه؟.

بوبكر بن فرج

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.