ليدرز العربية: سرديّة بأنوار خمسين شمعة
يتيح لي صدور العدد الخمسين لليدرز العربية فرصة التوقّف عند تجربة المساهمة في هذه المجلّة التي تمكّنت من رفع التّحدّيات التي تواجهها الصّحافة المكتوبة ولا سيّما الدوريّات التي تهتمّ بما وراء الحدث وتقف منه وقفة التّأمّل والتّحليل والاستقصاء واستحضار تعدّديّة الآراء والرّوايات.
وأوّل ما يجدر أن يطرح في هذا الباب هو الملمح (leprofil) السّائد أو المميّز للمتعاونين مع المجلّة، وإنّ ما يلاحظ أنّ جلّهم من الكفاءات المتخصّصة لا فحسب في مجال التّحاليل الإعلاميّة وإنّما أيضا في كافّة المجالات العلميّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة والثّقافيّة. وإنّ ما تقترحه المجلّة في كلّ واحد من أعدادها، ورقات مبنيّة على طروحات تتعدّى «راهنيّة» الحدث لتخترق حجب خلفيّاته وتأثيرها على الرّاهن كما على قادم تداعياته.
وراء هذا الأداء النّوعي الذي تشتغل عليه المجلّة، تصوّر نوعي يتمثّل بدوره في مسح الفضاء العامّ من خلال استطلاع يتّخذ بعدا منشغلا ومشتغلا يفصل بين الزّمن الفعلي للأحداث من جهة والزّمن السّياسي من جهة أخرى. وأعني بالزّمن السّياسي تلك المسافة الزّاخرة بالفوضى بالمفهوم «النّيوتني»(نيوتن) أي في معناها الحامل للأسئلة الحائرة إلى حدّ العبثيّة والشّكّ الرّافض للاطمئنان (السّوق الإعلاميّة الفايسبوكيّة الموازية). هي أيضا المسافة الحاضنة للمختبر الفكري وللابتكار. والابتكار هنا في المجلّة كما عاينته، هو إنتاج لمعان لا يهتمّ بها الخبر الحافي فما بَالُكُم بموجة الإثارة أو ما يطلق عليها «البوز» الزّاحف على قيم التثبّت والانتباه إلى الاختلاف وتعدّديّة الرّواية ومصادر المعلومة إلى غير ذلك من العلامات الفارقة في امتهان الإعلام نقلا وتحليلا وتعليقا.
تترصّد ليدرز العربية ما وراء الحدث، تتوغّل في خفاياه، تحفر في خلفيّاته، تتقصّى حيثيّاته، تغوص غوصا في أدقّ تفاصيله تجاوزا للسّرد الخشبي المملّ (l’anecdote) لتؤسّس لسرديّات قيميّة تسندها آليّات جديدة لمقاربة الرّاهن وخطّ مدوّنته.
تناغما مع شرط استنطاق الحدث، كانت مساهمتي في الرّكن الثّقافي على امتداد السّنتين الماضيتين، محفوفة بالمحاذير تعاملا مع الحدث. فكان عليّ أن أميّز دوما بين الفعل الثّقافي كفعل عابر، للاشتغال على مداراته الفكريّة وعلى تداعياته على الشّأن الثّقافي العامّ. وتلك مسألة على غاية من الدّقّة إذ أنّ الإعلام الدّوري(المجلّة) تشتغل بالضّرورة على أجناس إعلاميّة واتّصاليّة تختلف اختلافا جذريّا عن الأجناس في الصّحافة اليوميّة. ولعلّ ذلك ما يجعل الأداء في صلب المجلّة، وبالذّات في الشّأن الثّقافي، متيحا لإمكانات لا توفّرها مقتضيات العجلة والسّبق والجدّة وأحيانا الإثارة التي تسم العمل في الصّحافة اليوميّة.
وهو أيضا ما يجعل من المجلّة أثرا توثيقيّا فيما يتعلّق بتطوّر الفكر والفنون والثّقافة بشكل عامّ.
ليس من الهيّن إذن بالنّسبة إلى مجلّة مثل ليدرز العربية، أن تتوقّى من التقاط الزّبد وأن تترصّد ما ينفع البلاد والعباد ويتربّع في مدوّنة التّاريخ حرفا صافيا دقيقا، واضحا، شفّافا، راقيا، غير مبتذل ومسؤولا، في لغة متأصّلة حانية على جذورها، حاضنة للاكتشاف والدّهشة العارفة والسّؤال المتطلّع إلى الفهم المدرك والواعي والمناضل ضدّ هجانة الحرف والمعنى.
اليوم، وأنا أساهم في «ليدرز العربيّة»، أجدني باحثة عن التّجلّي في طلب الامتياز وإضافة الأوزان لمسعاي علّني أبلغ الوتيرة الوازنة التي تسعى بها مجموعة الكتّاب والمعلّقين والمحلّلين المساهمين في المجلّة ومن بينهم أساتذة تتلمذت عليهم وعلّموني الحرف والمعنى في جمعه دون مفرده، إضافة إلى البعض من زملائي في مقاعد الجامعة وفي وسائل الإعلام. ذلك ما يمكن أن أصفه بالتّحفّز إلى الدّقّة والغوص في طبقات الفكرة والفكر من أجل استدامة المقولة ولياقتها بالمرفق التّوثيقي الذي يبقى من سمات الدّوريّة ووظائفها.
يبقى السّؤال المطروح حول رجع صدى هذا التّمشّي. فمن المهمّ أن ينصت أصحاب القرار لمادّة المجلّة وتحاليلها وطروحاتها التّحليليّة والباحثة. ذلك أنّ المبحث الذي يشغل الدّارس والمحلّل في الشّأن الثّقافي يبدو اليوم مخترقا بخلفيّات إيديولوجيّة وبتقاطعات منفعيّة ذاتيّة ما انفكّت تحجب مواطن الأولويّات وتغلّفها بكليشيهات و»فتوحات» وهميّة تقاس بالإحصائيّات «المتخشّبة» فسرعان ما تقوّضها مقاييس التّقييم النّوعي.
في ليدرز العربيّة مجال محدّد وملتزم بضرورة الاستمرار في مسلك النّقد المحيّر للفكر ولقيم الإضافة والبناء ومواصلة البناء، رغم مراودة الاختلاف والتّضارب.
هكذا ولذلك أحببت ليدرز العربيّة وانسجمت مع طروحاتها ومع الانتعاشة التي تحدثها اللّغة العربيّة من خلال مقالاتها وترقّبت كلّ شهر أن أقرأ إمضائي في أعمدة الرّكن الثّقافي..
فوزية بلحاج المزّي
- اكتب تعليق
- تعليق