عامر بوعزة: تجربة الكتابة في ليدرز العربية
هذا العدد الذي بين أيديكم هو العدد الخمسون من مجلّة ليدرز العربية. وقد رأينا أن لا ندع هذا الحدث يمرّ- ولعلّه كذلك، لما تواجهه الصحافة الورقية من تحدّيات جسام في ظلّ سطوة وسائل الاتصال الألكترونية في عالمنا اليوم- دون الوقوف وقفة تأمّل في مسيرة انطلقت بداية من جانفي 2016، بعد أن تحوّلت المجلّة من ملحق ثقافي لليدرز باللغة الفرنسية إلى نشرية شهرية جامعة قائمة بذاتها.
من البداية، راهنت ليدرز العربية على جودة المضامين مع تميّز في الإخراج الفنّي، في مشهد إعلامي وطني مكتظّ بالعناوين، فحرصت على فتح أعمدتها لأفضل الأقلام في تونس في مختلف الاختصاصات واعتماد خطّ تحريري قوامه الاستقلالية تجاه أيّ جهة كانت، وتعدّد المواقف والآراء والتحليل الرصين والمعمّق للأحداث، وطنيا وإقليميا ودوليا، فضلا عن طرح البدائل وتوخّي النظرة الاستشرافية في معالجة مختلف القضايا، وذلك بمنأى عن الإثارة والمنطق التجاري الذي يغلّب الربح على واجب إفادة القارئ وتوسيع أفقه الفكري.
ولئن سمحت إدارة المجلّة لنفسها بتخصيص حيّز من هذا العدد لتمكين ثلّة من الكتّاب والمحللّين من بسط تجربتهم في التعامل مع النشرية ولفسح المجال لعدد من القرّاء للتعبير عن آرائهم بشأنها، فإنّ القصد من ذلك ليس التغنّي بسرديّة استمرارية النشرية وصمودها في وجه الصعاب وبلوغها البعض من الأهداف التي رُسمت لها، بقدر ما هو تدبّر أقوم المسالك لمواصلة المسيرة بعزم وثبات مع السعي إلى تدارك النقائص والهنات ومزيد تجويد المضامين، بما يحقّق انتشارا أوسع للمجلّة ويزيد في تعزيز موقعها في الساحة الإعلامية. والله وليّ التوفيق.
الكتابة مثلما ينبغي أن تكون
بصدور العدد الخمسين من مجلّة «ليدرز العربية» تكون المغامرة التي انطلقت منذ أربع سنوات قد قطعت خطوة مهمّة على درب النجاح. فليس من السهل في زمننا هذا على أيّ مجلة ورقية أن تصمد وتثابر وأن تستمرّ في البقاء وتتطلّع إلى المستقبل. وهذا ما حدث ويحدث مع كلّ عدد جديد من هذه المجلّة.
صدرت « ليدرز العربية» في وقت ترسّخت فيه فكرة نهاية زمن الصحافة التي نعرفها، الصحافة التي تمتزج فيها الأفكار والكلمات والمشاعر برائحة الحبر وصوت الطابعات وعرق المطبعي. الصحافة التي توصف بالقديمة أحيانا، والتي يوهمنا البعض بأنّها أصبحت جزءا من الماضي لعدم قدرتها على التجدّد ومواكبة روح العصر. ووجهةُ النظر هذه تبرّر «الديستوبيا» الجديدة من حولنا: مدينة فاسدة ضخمة تسيطر عليها الشاشات وتتحوّل إلى مصدر للمعرفة السهلة المريحة سواء أكانت مرتبطة بالتلفزيون أو بالإنترنت، فيما هي وفق نبوءة الكاتب الأمريكي «راي برادبوري» في روايته «فهرنهايت 451» أداة للهيمنة على العقول وسلبها حريّتها وقدرتها على التمييز. في هذه الرواية يصبح الورق رمزا للإرث الإنساني الخالد وتصبح القراءة منه فعلا مرادفا للبناء والتأسيس. ولهذا ارتبطت فكرة موت الصحافة الورقية بالذعر لدى « برنار بيليه» في كتابه « نهاية الصحف ومستقبل الإعلام» حيث يعتبر اختفاء الصحف والمجلاّت بشكلهما المعروف في عصرنا كارثة على وشك الحدوث وليس الأمر مجرّد تحوّل طارئ على الإعلام ينبغي التسليم به والاستسلام لحتميته.
لقد أدّى اختفاء عدد كبير من المجلاّت والصحف الورقية عبر العالم، ومنها عناوين صنعت مجد الصحافة في القرن العشرين، إلى الشعور بأنّ الإعلام تغيّر نهائيا، فالوسائط الالكترونية تزامنية تقوم على التشارك والتفاعل مع القارئ الذي أصبح بما يتوفّر لديه من إمكانات مصدرا من مصادر الخبر وجزءا من منظومة التحرير. لكنّ «ليدرز العربية» انحازت إلى الرأي المضادّ، وأثبتت على مدى خمسين عددا قدرة المجلة الورقية بوصفها وسيطا تقليديا على البقاء والاحتفاظ بكلّ مميّزات الصحافة التي نعرفها. ويمكن اعتبار ذلك ضربا من ضروب المقاومة الحقيقية في ظلّ واقع إعلامي جديد تنازلت فيه الصحافة بشكلها التقليدي عن موقع الصّدارة، وحلّت محلّها صحافة المواطن عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فأصبحت المصدر الأوّل للخبر بكلّ ما يعنيه ذلك من انفلات وفوضى وتلاعب بالعقول أحيانا. وأوّل شروط البقاء تأسيسُ علاقة جديدة بين منظومة الإعلام التقليدي ومنظومة الاتصال الالكتروني الحديثة تقوم على التكامل وتنوّع الأهداف، وتتجاوز محور الصراع والإقصاء، في محاولة عملية للإجابة عن سؤال نظري تردّده الدراسات الأكاديمية عن تحوّلات الإعلام في عصر التكنولوجيا: كيف يمكن للوسيط الورقي أن يحمي نفسه ليكون منافسا للإعلام الالكتروني لا متعايشا معه فقط؟
مع كل عدد نصدره من «ليدرز العربية» يتجدّد هذا السؤال بصيغة أو بأخرى، ويعود بقوّة. لأنّنا ندرك أن الكتابة للورق مختلفة وأنّ القارئ هو الذي يصنع الاختلاف. فعلاقة القراء بالمجلّة تتحوّل بمرور الزمن إلى علاقة إنسانية يشعر فيها كل قارئ بأنّ الكاتب إنّما يكتب له وحده، ويمنحه الورق إحساسا بامتلاك النص، وهي علاقة عاطفية أساسا، لأنّ القارئ الذي يسعى إلى اقتناء المجلة ومطالعتها والاحتفاظ بها يفعل ذلك بمحض إرادته واختياره الذاتي، إنّه شخص يمارس حريته في وقت غيّرت فيه الوسائط الالكترونية مفاهيم جوهرية في حياة الإنسان كالخصوصية والذاتية والحرية.
أمّا أنا فقد عشت تجربة «ليدرز العربية» منذ عددها الأول، مغامرةً في الكتابة وصراعا مستمرّا لا من أجل البقاء بل من أجل الاختلاف والتميّز، وسط مناخ من الأفكار المتضاربة والأحداث المتسارعة والخوف المتزايد من المستقبل. وهي تجربة صعبة المراس، لكنّها ممتعة وشيّقة تجعل الكتابة أشبه بالنزيف، لأنّ الكلمة التي نطلقها لن تعود إلى غمدها أبدا..
عامر بوعزة
- اكتب تعليق
- تعليق