صالح عزيـّز: الجرّاح الفذّ والمناضل الوطني
عندما يذكر اسم صالح عزيّز يتبادر إلى الذهن معهد صالح عزيز المتخصّص في الأورام السرطانية والذي تأسّس سنة 1969 ليحمل اسم أوّل جراح تونسي، ولكنّ مسيرة الرجل أثرى بكثير من تخصّصه الطبّي، حيث تكشف عن طبيب بارع ومناضل شجاع في الحركة الوطنية ونصير للفقراء والمحتاجين. لئن كانت حياة صالح عزيّز قصيرة حيث توفّي وعمره 42 سنة وهو في عزّ العطاء، فقد طبعتها مسيرة متميّزة سمحت لهذا الجرّاح الشاب بأن يكتب اسمه بحروف من ذهب في تاريخ تونس ويبقى علما من أعلام الطبّ في هذا الوطن.
ولد صالح عزيّز في 24 نوفمبر 1911 في سليمان في كنف عائلة أندلسية صفاقسية، حيث جاء أحد أجداده من صفاقس لسيتقرّ في الوطن القبلي ويمارس الفلاحة والتجارة. نبغ الفتى منذ صغر سنّه وتميّز في المدرسة الابتدائية في سليمان، ممّا أتاح له إكمال دراسته الثانوية بمعهد كارنو بتونس العاصمة. وعند نيله شهادة الباكالوريا سنة 1930، وهو لم يبلغ بعد سنّ العشرين، تقرّر إرساله إلى فرنسا ليزاول دراسة الطبّ. درس في مرحلة أول الطبّ في جامعة مونبيليي في جنوب فرنسا قبل أن ينتقل فيما بعد إلى العاصمة باريس ليكمل دراسته في كليّة الطبّ فيها. سمحت له هذه التجربة بأن يتتلمذ لكبار الأطبّاء الفرنسيين أمثال بيار دوفالPierre Duval ولونورمان Lenormant وديبلا Desplats. اختار الشابّ بعد ذلك أن يتخصّص في الجراحة العامة ويعمل كطبيب داخلي تحت إشراف Duval ابتداء من 1937. كان متفـانيا في العمل، حريصا على تعلّم الجـراحة، يشارك في العمليات الجراحية إلى أن أصبح هو نفسه يقوم بها.
كان صالح عزيّز على وشك إجراء مناظرة التخرّج ولكنّ ظروف الحرب العالمية الثانية التي اندلعت في الأثناء منعته من تحقيق حلمه، فقرّر العودة إلى تونس سنة 1939 وذلك إثر حصوله على شهادة الدكتوراه في الطبّ بأطروحة عنوانها «الحمل في القنوات والتهابات المبيض».
أوّل جرّاح تونسي
عمل صالح عزيّز، لدى عودته إلى تونس كجرّاح مساعد في المستشفى الصادقي، تحت إشراف جان ديمرلو Jean Demirleau رئيس قسم الجراحة في المستشفى. وقد لاحظ هذا الطبيب الفرنسي سريعا نبوغ الشابّ وجدّيته وتمّيزه في الجراحة فقرّبه إليه. وقد قال في إحدى المناسبات إنّه «أُعجب بوجه صالح عزيّز الممتلئ وبعينيه الضاحكتين» حتّى أنّه شبّهه بالممثّل الأنكليزي «Charles Laughton»، كما جاء في مقالة للجّراح الراحل سعيد المستيري حول صالح عزيز، نُشرت سنة 1992 في مجلة La Tunisie Chirurgicale. وبدخوله المستشفى الصادقي، أصبح صالح عزيّز أوّل جرّاح تونسي، وقد كان يحظى باحترام كبير من زملائه الفرنسيين الذين كانوا يقدّرون فيه مهارته وتفانيه في عملـه. كما أنّه انتخب عضوا في عمادة الأطبّاء من 1948 إلى 1951. ولم يكتف الرجل بالعمل في المستشفى الصادقي وإنّما فتح عيادته الخاصّة في شارع الجرّة قرب معقل الزعيم، ليجمع بين عمله في القطاع العامّ وعمله في القطاع الخاصّ. وقد ذاع صيته ليتمّ تعيينه سنة 1950 كجرّاح رئيس قسـم في المستشفى الصادقي من قبل الباي نفسه محمد لمين باي الذي كان فخورا بهذه القامة العلمية التونسية. وقد كان يزوره في المستشفى مـن حين لآخر ليراقبه وهو يقوم بعملياته الجراحية، حسب شهادة ابنه الدكتور رضا عزيّز، كما أنّه كان جرّاحه الخاصّ.
النضال ضمن الحركة الوطنية
علاوة على نبوغه ومهاراته الطبيّة، كان صالح عزيّز يتميّز بالسخاء وطيبة القلب، حيث لم يكن يتوانى عن تقديم العلاج للفقراء والمساكين مجانا، وعيا منه بأنّ مهمّته كطبيب تقتضي منه أن يكون إلى جانب من هم أكثر حاجة إلى خدماته، خاصّة من أبناء بلده الذين كانوا يعانون من ويلات الاستعمار. كان أيضا مناضلا في الحركة الوطنية، إذ كان يُعالج المقاومين و»الفلّاقة» خلسة، بعيدا عن أعين السلطات الاستعمارية التي سرعان ما تفطّنت إلى ما يقوم به فكثّفت حملات التفتيش للمستشفى وللمصحّة. ووصل بها الأمر إلى حدّ استهداف منزله في ضاحية قمرت، وكان ذلك على يد منظّمة «اليد الحمراء». إلاّ أنّ هذه المحاولات لم تكن لتثبط عزيمة صالح عزيز ولتنال من التزامه الوطني، بل زادته إصرارا ومقاومة. وقد تمّ اختياره من قبل الباي في 31 جويلية 1952 ضمن أربعين شخصية وطنية لمناقشة الإجراءات الإصلاحية التي فرضها المقيم العـام الفرنسي جون دوهوتكولك Jean de Hauteclocque 1953 - 1951.
كان صالح عزيّز كذلك قريبا من العديد من رموز الحركة الوطنية وأوّلهم الحبيب بورقيبة الذي كان يأتي لزيارته باستمرار في مصحّته ليستريح عنده، حسب شهادة ابنه رضا عزيّز، كما كان صديقا لأعلام مثل محمود الماطري وعلي الصيد وصادق المقدم وعلي الفوراتي والطيب ميلادي. اختار هذا الجرّاح التونسي أن تكون مشاركته في الحركة الوطنية انطلاقا من اختصاصه كطبيب يعالج الجرحى من المقاومين ويخفيهم عنده. وهو دور في غاية الأهمية بالنسبة إلى حركة اختارت أن ترفع السلاح في وجه المستعمر منذ 1952.
الموت المفاجئ
لم يمهل القدر صالح عزيّز طويلا حتّى يواصل مسيرته الطبيّة والنضاليّة، فقد وافته المنية ذات يوم من أيّام جويلية 1953 في المصحّة وهو يستعدّ للقيام بعملية جراحية. رحل الجرّاح الفذّ بشكل مفاجئ دون سابق إنذار ليترك فراغا كبيرا على مستوى قسم الجراحة الذي كان يديره بالمستشفى الصادقي بعد نجاحه بتفوّق في المناظرة التي نظّمها جون ديمرلو Jean Demirleau في سنة 1950. وكان صالح عزيّز قد أضاف كثيرا لهذا القسم من خلال التقنيات الجديدة التي أدخلها في مجال الجراحة والدراسات التي قام بها، خاصّة فيما يتعلّق بسرطان الثدي. كما أنّه نجح في أن يترك وراءه فريقا من الأطبّاء الشبّان التونسيين الذين استفادوا كثيرا من خبرته وساروا على دربه. وفي هذا الصدد، يقول سعيد المستيري في مقالته: «نجاح صالح عزيّز ولّد حماسا كبيرا لدى الأطبّاء الشبّان ليصبح قدوة لهم. فبالنسبة إلينا، سيبقى ذلك الرجل الذي وضع اللبنات الأولى لمهنة تُشكّل التقاليد فيها أمرا أساسيا في التكوين».
ترك صالح عزيّز أربعة أبناء من عقيلته زينب عبد الوهاب وهي نجلة المؤرّخ حسن حسني عبد الوهاب، وتولّى أخوه، مختار عزيّز، وهو طبيب أيضا رعايتهم. وقد قرّر رضا عزيّز، ابنه الذي كان يبلغ من العمر 5 سنوات عند وفاة والده، أن يمتهن مهنة أبيه ليصبح بدوره جرّاحا.
تمّ تكريم الراحل صالح عزيّز عديد المرّات، حيث أطلق اسمه على معهد الأورام السرطانية الذي تأّسّس في سنة 1969، كمـا تمّت تسميـــة شوارع في سليمان ومنزل بوزلفة وحمام الشط باسمه، بالإضافة إلى مدرسة في سليمان.
حنان زبيس
- اكتب تعليق
- تعليق