المـسكوت عنه مـن التراث الفلـسفـي اليـوناني في التعبير القرآني
من خلال كتاب يوسف الصدّيق «هل قرأنا القرآن؟ أم على قلوب أقفالها»
لقد ظلّ النصّ القرآني المؤسّس للدين الإسلامي منذ نزوله وإلى يومنا هذا، متأرجحا بين محاولات الفهم الحرفيّ الضيّق من جهة وبين من تفطّنوا إلى أنّ هذا النصّ إنّما هو صيرورة تاريخيّة محمولة على انفتاح الدلالة وتجدّد معانيها الأصليّة، فنبهّوا إلى أنّ الإسلام ليس واقعة تاريخيّة محكومة بلحظة الوحي الأولى وأنّ القرآن في تحوّل معانيه وتبدّلها بحسب السياق الزمني ليس محض ظلال ولا انحراف على صراط الدلالة المستقيمة ولا هو تزييف للأصول وجب الخلاص منه.
في هذا النسق العقلاني الذي جلب معه نقدا مباشرا وصريحا لمختلف الأنساق السابقة، بداية من مزاعم الشيعة التي صادرت مصحف عثمان بدعوى المحو المتعمّد الذي طرأ على نصوصه الدّالة على إمامة عليّ بن أبي طالب وعلى فضل أهل البيت على العرب وعلى المسلمين كافة في تأسيس مرتكزات دولة الإسلام الأولى، مرورا أيضا بالنسق الأشعري الكلامي وما حفّ به من نزعات صوفيّة عرفانية وفلسفيّة إشراقيّة ثارت عليها فيما بعد ذهنيّة النسق الاعتزالي الكلامي والنسق العقلي الفلسفي وهو المشروع الحداثي الذي بدأت ركائزه مع ابن الرواندي والفارابي وابن رشد ليطفو فيما بعد مع مؤلفات علي عبد الرازق وطه حسين وزكي نجيب محمود ومحمود أمين العالم، ليطلّ لاحقا في مؤلفّات قاسم أمين ونصر حامد أبو زيد وخليل عبد الكريم والطاهر الحدّاد وهشام جعيّط.
إذن في هذا النسق العقلاني جاء كتاب الفيلسوف التنويري والباحث التونسي يوسف الصدّيق «هل قرأنا القرآن؟ أم على قلوب أقفالها» وما تميّزت به فصول الكتاب من أدوات تحليليّة وآليات منهجيّة متعالية عن السرديّة الإنشائيّة وعن التوتّر المعرفي والخطابيّة الوعظيّة. فصول هذا الكتاب تطرح متونها عديد المداخل المربكة لنظام القراءات التراثية، وتخترق كلّ المسلّمات التي أنتجتها القراءات المعاصرة ذات الطابع المدرسي في سياق تناولها للنصّ القرآني بالقراءة والتحليل والتأويل، فهذا الكتاب يعيدنا إلى النقطة الصفر في قراءة القرآن وكأنّ شيئا لم يكن، وكأن لم تكن هناك تراكمات دلاليّة وسيميائيّة سابقة قد قرأت القرآن من قبل وتركت موروثا معرفيّا تفسيريّا لهذا القرآن.
طبيعة الكتاب
نشير في ما يتعلّق بطبيعة الكتاب إلى أمرين، يتمثّل الأوّل في أنّ هذا الكتاب قد صدر باللغة الفرنسيّة سنــة 2004 تـحـت عنــــوان Nous n’avons Jamais lu le coran وانتقل إلى المكتبة العربيّة سنة 2013 بعنوان مغاير «هل قرأنا القرآن؟ أم على قلوب أقفالها». والسؤال البديهي في هذه الإشارة الأولى إلى الكتاب هو لماذا عمد الكاتب يوسف الصدّيق إلى تغيير العنوان حين نقله للكتاب من اللغة الفرنسيّة إلى اللغة العربيّة، من عنوان مبني على صيغة تقريريّة يعلن فيه صاحب الكتاب جازما أنّنا لم نقرأ القرآن أبدا، إلى عنوان قائم على صيغة استفهاميّة بسائلنا فيها الكاتب عن إمكانيّة قراءتنا للقرآن؟ فهل يعزى هذا التغيير في صيغة العنوان وإحالاته الدلاليّة إلى خشية الكاتب من ردود القارئ العربي الذي استقرّ في ضميره الإسلامي الجمعي اقتناع عميق بجدارة القراءات التراثيّة للقرآن وقداسة متونها وجدوى مضامينها؟ وبالتالي الخوف من ردود دينيّة قد تكون مزعجة خاصّة أنّ الكاتب ينتمي إلى شارع ثقافي وسياسي مشغول آنذاك بالسؤال عن الدين بعد وصول التيّار الإسلامي إلى الحكم وتنامي ظاهرة السلفيّة في المشهد التونسي، وهو ما أجبر الكاتب على تجنّب إلحاق الذنب بالمسلمين ومؤسّساتهم الفكريّة والفقهيّة لعجزهم عن صياغة قراءة للقرآن تستجيب للشروط العلميّة والتاريخيّة.
أمّا الأمر الثاني فيتعلّق بالسؤال عن أسباب اختيار الكاتب للّغة الفرنسيّة حتّى تكون لغة الكتاب في نسخته الأولى والحال أنّ يوسف الصدّيق ينحدر من عائلة تونسيّة عربيّة من أقصى الجنوب التونسي (1943) انشغل منذ الصغر بحفظ القرآن والإلمام بالتراث العربي وكتب الفقه الإسلامي ومراجعة الأساسيّة، فهل متن الكتاب في نظر الكاتب كان موجّها أساسا وبالدرجة الأولى إلى القارئ الغربي الذي لا يجد حرجا في قراءة كتاب يهدم كلّ البديهيات التي تتعلّق بمنظومة عقدية مغايرة لعقيدته الدينيّة والفكريّة؟ بل لعلّه يشعر بالانتشاء وبغلبة عقيدته الدينيّة حين تفكّك أمامه كلّ المنظومات الفقهيّة والتفسيريّة المتعلقّة بدين آخر يرى فيه عدوّا لديانته. فهل كان الكاتب يوسف الصدّيق يجرؤ على تأليف كتاب مماثل في المتن والمحتوى يذنّب فيه أهل التوراة والإنجيل دون استثناء لأنّهم لم يقرؤوا الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد أبدا؟ ثمّ لماذا قام يوسف الصدّيق بتعريب الكتاب في فترة زمنيّة عربيّة وتونسيّة (2013) تشهد صراعا حادّا بين التوجهات السلفيّة بنصوصها التراثيّة وموروثها الفقهي والديني والتوجّهات الحداثيّة بإنتاجاتها المعرفيّة الجريئة ومشروعها التنويري؟
في موضوع الكتاب وبنيته
تناول يوسف الصدّيق في كتابه «هل قرأنا لقرآن» في نسخته العربيّة التي يقول عنها الكاتب بأنّه لم يغيّر شيئا في الترجمة إلى العربيّة عدا بعض الهوامش في شارع ثقافي مكتظّ بالأسماء والعناوين بعد سنوات من التضييق، فضلا عن تخيّره لعنوان آخر مغاير لعنوان النسخة الفرنسيّة، لعلّه أقلّ استفزازا للقارئ العربي الذي يعاني من حجاب أفق القراءة الذي كرّسته القراءات «المتجلّدة»على حدّ تعبير يوسف الصدّيق الذي عُرف بمقارباته للدين الإسلامي وخصوصا في مرحلته المحمديّة التأسيسيّة.
في مراجعة المسلّمات وتحرير المقدّس
إنّ البحث في المصادر اليونانيّة في القرآن يمثّل مرتكز هذا الكتاب وطرافته، وإنّنا لا نخال أنفسنا مجانبين للحقيقة إذا ما قلنا بأنّ الفيلسوف يوسف الصدّيق يمتلك صفة الريادة في موضوع البحث عن القول اليوناني في التعبير القرآني؟ وهو ما لم يهتمّ به غيره من الباحثين، ومثّل هذا الموضوع مسكوتا عنه في القراءات القرآنيّة على امتداد تاريخها القديم والحديث.
ويعمل المسكوت عنه كمحور ارتكاز تقوم عليه علاقة القارئ بالنصّ لأنّه يستحثّ القارئ الباحث على استشفاف الدلالة المخفيّة داخل النصّ من جهة أولى ولأنّه عمليّة تنبع من تشكيل النصّ من جهة ثانية للتوسّع في هذا المجال يمكن الرجوع الى مفهوم المكسوت عنه في مصنّفات النقد العربي بداية من الإمام الزركشي في كتابه «البرهان» من خلال اهتمامه بعلم المبهمات وتابعه في ذلك السيوطي في «الإتقان» وفي «معترك الأقران»، ثمّ تعاملت البلاغة العربيّة مع مفهوم المسكوت عنه من خلال بنية الحذف ويعدّ عبد القاهر الجرجاني أبرز من تناول الحذف من بين النقّاد والبلاغيين القدامى، وهو من استعمل كلمة الصمت بدل الحذف أحيانا، يقول في «دلائل الإعجاز» بخصوص الحذف:» هو باب دقيق المسلك لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنّك ترى به ترك الذّكر أفصح من الذّكر والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق وأتمّ ما تكون بيانا إذا لم تبن.» ويخطو ابن الأثير خطى الجرجاني وهو يؤكّد على أهميّة الحذف في قراءة النصّ مركّزا على وظائفه الدلالية. والسؤال الجوهري هنا، لماذا سكتت القراءات القديمة والحديثة عن ذكر المصادر اليونانيّة في التعبير القرآني واقتصرت على ذكر الجذور المشتركة بين الكتاب المقدّس بنصوصه اليهودية والمسيحيّة وكتاب القرآن؟
يتساءل يوسف الصدّيق في طرحه لهذا المشروع الفكري الجديد عن مدى معقوليّة التسليم بتطرّق القرآن إلى الحديث عن مملكة سبأ وعن مصر أخناتون ورمسيس، وكذلك عن بابل، ويُغفل قصّة الإسكندر أو محاورة طيماوس الأفلاطونيّة وأسطورة هرمس، ورقصة الغرانيق الوثنيّة لدى قدامى الحجيج إلى جزيرة ديلوس الإغريقيّة، تلك المسمّاة في التراث اليوناني بسرّة الأرض (Omphalos)، تماما كما يقال عن مكّة في الموروث الإسلامي. وبذلك يصبح من الممكن في نظر الصدّيق أن نمضي في قراءة القرآن على نحو مختلف اعتمادا على الروّح اليونانيّة الإغريقيّة التي استقرّ موروثها في مصر هروبا من القمع الذي تعرّض له في بيزنطة خلال حروبها ضدّ بقايا الوثنيّة، فكان هذا الإرث المعرفي اليوناني على مسافة قريبة من المسلمين القادمين إلى فتح هذه البلاد بعد حوالي عشرة أعوام على وفاة الرسول. يمكن أن نذكر هنا حلقات النقاش التي شهدتها مدينة الإسكندريّة وجمعت آباء الكنيسة القبطيّة مع القائد عمرو بن العاص الذي انتهى بالسماح بحفظ أعمال أرسطو، وبذلك كان للثقافة واللغة اليونانيّة جذور متأصّلة ومترامية في المحيط الثقافي والديني الذي شهد نشوء القول القرآني وانتشاره، ولعلّ أبرز هذه الأصول اليونانيّة التي هاجرت من تربتها الإغريقيّة واستقرّت في التعبير القرآني يمكن أن نذكر النقاط التاليّة:
- مدينة غزّة التي يراد بها الكنز ومنها اشتقت كلمة غزوة العربيّة كانت فضاء جغرافيّا منفتحا على التأثيرات الثقافيّة اليونانيّة ومحتضنا لبيت الإله ذيوس، وكانت أيضا قبلة عرب مكّة يفدون إليها بحثا عن الحبوب والقمح وهي مرقد هاشم سيّد قبيلة قريش وجدّ النبيّ، ولكنّ علاقة أشراف قريش بمدينة غزة مدينة كبير الآلهة اليونانيّة لا يمكن أن تكون هذه العلاقة مقتصرة فقط على التجارة دون التفاعل معها ثقافيّا ودينيّا.
سورة «العنكبوت» الواردة في القرآن تمثّل في نظر يوسف الصدّيق شاهدا على التبرير المغالط الذي صاغته القراءات التراثيّة وسوّغت من خلاله تسميّة السورة باسم هذه الدابة الصغيرة العنكبوت، التي استخدمها القدامى من قبل كما في «سفر أيوب» اليهودي، ويذهب الصدّيق إلى أنّ صورة العنكبوت إنّما هو استعمال مجازي يراد به الإشارة الجليّة إلى اسم الآلهة الحماة التي اتخّذها الوثنيون أولياء يحمونهم من الإله الأوحد ويبعدونهم عنه.
يبحث الصدّيق في معنى كلمة صبى الواردة في قول «البقرة»: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ...» وينتهي إلى أنّ هذا اللفّظ ينتمي إلى الحقل المعجمي نفسه الذي ينتمي إليه فعل سيبو Sébo اليوناني الذي يدلّ على معنى الإجلال والإعجاب والتشريف والخشية من الآلهة تحديدا على نحو ما يذكره اللّسان من إحالة لفظ صبئ على دلالة من أسلم من قبيلة جذيمة وظلّوا يهتفون « صبئنا... صبئنا» للتعبير عن اعتناقهم الإسلام بخلاف المعنى الذي ألفته المصادر الإسلاميّة القديمة التي رأت إليه لفظا يدلّ على الارتداد عن الديانة الأصليّة، لتصبح كلمة صبى كناية عن الدين الجديد ومرتبطة بفكرة الحنيف الجوهريّة في القرآن، وليس الحنيف سوى ذلك المهاجر لملاقاة ربّه ممثّلا في إبراهيم أوّلهم ومحمّد خاتمهم.
يشير الباحث يوسف الصدّيق إلى أنّ لفظ الطاغوت الواردة في القرآن « والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها» والتي تفيد عامّة بما يطلق على الأوثان والأصنام والمجسّدات الشيطانية وما يستخدمه السحرة من أدوات، تعود في الأصل إلى توت هرمس الذي هو أحد السدنة السبعة المكلفيّن بحراسة منازل الكواكب السبعة، وتوت هو إله الفنون والعلوم أوكل إليه أوزيريس بمهمّة تنفيذ إرادة سيّده ورغباته على البشر الفانين.
ويؤكّد ابن النديم أنّ المصدر الذي يرجع إليه التراث الميثيولوجي العالمي هو مصر واليونان وبلاد العرب القدامى، ما يعيد إلى الذاكرة أنّ الطاغوت هو نسبة إلى الإله توت الذي ذكره القرآن ولكنّ الأخبار والتفاسير زوّرت هويته وطمست ملامحه اللفظيّة وأخرجته في هيئة طاغوت.
يرجع الصدّيق العديد من الأسماء الواردة في القرآن إلى أصل يوناني، مكّة مشتقة من كلمة موكي Muké وتعني المكاء، وكلمة صفاء Sapha اليونانيّة ونظيرتها العربية صفا واللفظان يفيدان معنى الوضوح والنقاء والجلاء. كلمة كوثر تعود إلى أصل يوناني موجود في مفردة كاثاروس katharos المرتبطة في المعجم اليوناني بمعان بسيطة وأوليّة تعني الصافي والخالص من دون وصمة أو دنس، وتفيد أيضا دلالة دينيّة لدى أفلاطون بمعنى الطهارة الروحيّة. وطهارة الكاثاروس ذات الطبيعة الدينيّة لا يمكن أن تتحقّق إلاّ من خلال قربان كفّارة، إذ نجد في نصوص أفلاطون ما يفيدنا بأنّ المرء الذي زكّاه الكاثاروس«يسكن بمنطقة مضيئة بأنوار خالصة».
يتحدّث الصدّيق عن فداحة الخلط الذي وقع فيه المفسّرون العرب القدامى في تفسيرهم للتعبير القرآني«طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجّيل» ذلك أنّ فعل الرمي لا يمكن أن يتمّ إلاّ عبر اتجاه أفقي ومتصّل بين المنطلق والغاية، وهو ما تعجز الطيور عن فعله بتلك الطريقة، ففي المحاورة الأفلاطونيّة استعمل أفلاطون لفظة أبو بولي apobole للتعبير عن معنى الرمي بعيدا، وكذلك كلمة أبو بوليوس apoboleus ومعناها من يلقي بالشيء من عل، وإذا نزعنا عن هذه الكلمة حروفها المزيدة في بدايتها يبقى فعل باللو أي إلقاء الشيء من الأعلى، ومنه اشتقّت كلمات بارابول، المثل المضروب parabole، وأوبول، قطعة النقود التي يلقى بها إلى السائل obole . إضافة إلى ذلك يشير الصدّيق إلى أنّ كلمة « سجّيل» هي الأخرى من أصل يوناني إذ إن فعل سيجاتلو sigle التي تعنـي الصقـل والتلميــع تقترب من دلالة كلمة سجّيل التي ذكرها القرآن في ثلاث مناسبات تفيد بحسب السياق الإشارة إلى الأحجار التي أمطرها الله على الكفّار، لترتبط بكلمة يونانيّة الأصل أخرى في قول الذاريات «لنرسل عليهم حجارة من طين مسوّمة عند ربّك للمسرفين» فكلمـة مسوّمة هي من أصل يـوناني «سيمانتريس» Semantris وتعني كتلة الطين المسطّحة والمهيّأة لاحتضـان آثار الختم فوقها. ويهتم الصدّيق أيضا بملاحقة طبيعة الرّجس الذي أصاب الأرض التي أعلنها القرآن لاحقا مقدّسة وهي قصة إيساف ونائلة وهما رجل وامرأة من قبيلة جرهم وكانا قد أحدثا داخل الكعبة فمسخهما اللّه صنمين، ولئن ذهبت مصنّفات التفسير القديمـة إلى أنّ قبيلة جرهم هم سكان مكّة وحرّاس للكعبة، فلقد بيّنت بعض الكتابات الإغريقيّة مثل الكاتب ستيفانوس البيزنـــطي (ق 6م) أنّ كلمة جرهم تعود إلى لفظ عبـري جيروهيم Gerohim وتعني الآخرين والدخلاء والأجـانب المـرادف لكلمة «غيرهم» العربيّة.
الذاكرة المنغلقة وأثرها في قراءة النصّ القرآني
إنّ البحث في المسكوت عنه داخل النصّ القرآني من المصادر اليونانيّة لم يقتصر في كتاب يوسف الصدّيق على مجرّد النظر في الألفاظ والمفردات القرآنيّة المأخوذة من أصول يونانيّة إغريقيّة وإنّما توسّع هذا المبحث ليشمل الأفكار أيضا ، فالتشريع الإسلامي المستمدّ من القرآن يصدر أساسا عن نزعة عقلانيّة وخطاب عقلاني يذكّرنا بالمشروع الإغريقي الذي سما بالعقل إلى حالات من التعظيم والتأليه ركن إليه النصّ القرآني من خلال سورة «الأحزاب» لرسم الحدود النظريّة الفاصلة بين المقدّس والمدنّس الدنيوي من جهة تقنين العلاقة بين الرجال والنساء وفق عقود اجتماعية تقيم احتراما للأسماء والأنساب، مثلما ركن إليه النصّ القرآني من خلال سورة «النّور» لإقامة الحدّ الفاصل بين الحلال والحرام.
- التفت يوسف الصدّيق إلى التراث الإغريقي ليبحث عن وجوه التقابل والتطابق بين أسطورة أوديب وقصّة النبيّ يوسف ليجد محاكاة اللاحق للسابق في جزء كبير من الأحداث والوقائع الخاضعة لمنطقين متشابهين هما منطق اللّغز المخفي في النذر في قصّة أوديب ومنطق الرؤيا في قصّة النبي يوسف بن يعقوب.
- يرى يوسف الصدّيق أنّ الذي عرفته قريش عشيّة البعثة المحمديّة يصوّره نموذج سابق طاعن في القدم في أرض يونان سواء كان ذلك الاقتباس يتعلّق بكلمة أو فكرة أو مفهوم مبثوث في ثنايا القول المنزّل تلقّفته المؤسّسة التفسيريّة فيما بعد لتحرّف معناه وتلفّه بدلالات مبهمة تجانب المعنى الأصلي فيه، مثال ذلك ، الأنفال بين معنى الغنيمة في تفسير ابن منظور وبين المعنى القدسي المراد به الزيادة في العطاء من حيث العمل والمال والبنون كوسائط تقرّب الإنسان من الخالق، على نحو ما تشير إليه لفظة نيفاليو nephalieuo اليونانيّة، تقول «الإسراء»: «ومن الليل فتجهّد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربّك مقاما محمودا.» وتقول «الأنبياء»:» ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلاّ جعلنا صالحين.»
وتصل محاكاة النّص القرآني للتراث الفسلفي اليوناني إلى حدود استعادة الأسلوب الذي يدبّر به إله القرآن شؤون المخلوقات في عالم الأرض ويسيّرها بشكل يستشفّه العقل ممثّلا في محاورة طيماوس أو الجمهورية لصاحبها أفلاطون، وعلى غرار الإله الصانع الأفلاطوني يعترف إله الإسلام بوظيفته كزارع، تقول الواقعة:» أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزّارعون.»
- وفي سياق الحياة الزوجيّة جاءت قراءة المفسّرين للآية القرآنية الواردة في سورة «البقرة،» نساؤكم حرث لكم « لتحيل إلى مجرّد علاقة إلزاميّة بين طرفين، في حين يرى يوسف الصدّيق أنّ هذه الصيغة القرآنية تمثّل دليلا قاطعا على حضور الفكر الهلليني القديم وتمثّلاته الفكريّة والفلسفيّة في النصّ القرآني، ذلك أنّ العالم المختصّ في الإغريقيات جون بيار فرنار ورغم عدم معرفته بالقرآن يشير في كتابه « الأسطورة والفكر عند الإغريق» إلى أنّ الزواج في نظر اليونايين كالحرث harotos، فالمرأة هي خط المحراث harathéra والرجل حارث harothes، وإنّ هذه الصورة الإلزاميّة في التراث اليونانيّ لم تكن مجرّد تصنع أدبي أو صيغة تراجيديّة وإنّما هي الصورة النمطيّة المألوفة والمتداولة في مراسم الزواج اليونانيّة، كتعهّد بالزواج ،إنكوهي enkuhé وهو لفظ مطابق لكلمة نكاح في لغة القرآن ولها المعنى نفسه، حيث يقول وليّ البنت المخوّل له التزويج «أعطيك هذه البنت من أجل حرث يدرّ بنين أزكياء».
- يذهب يوسف الصدّيق في قراءته للقرآن إلى تثبيت القول بأنّ من يسمّيه القرآن بذي القرنين هو نفسه الإسكندر المقدوني ويرى أن ّ السرد القرآني قد عمد إلى التقاط ما تناثر من المأثور الأسطوري اليوناني ليعيد بناءه على قاعدة المجاز معتبرا أنّ قصّة ذي القرنين الواردة في سورة «الكهف» محمولة على تقنيّة تجمع شتات خرافة شعبيّة مثبتة في نصّ لبلوطارخس وكذلك في كتاب سيرة الإسكندر المنسوبة إلى كاليستينس. ولعلّ رفض المفسّرين العرب والمسلمين القبول بهذه الفرضيّة على نحو الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل» وابن الأثير في كتابه «الكامل في التاريخ» يعود إلى طغيان النزعة الإيمانيّة في التفسير وسلطتها على المفسّرين إذ اعتبروا أنّ الملك المقصود في القرآن هو من أهل الإيمان أمّا الاسكندر المقدوني فما عرف عنه ذلك وإنّما هو تلميذ أرسطو وكلاهما كان كافرا فلا يمكن أن يكون هو ذا القرنين.
- وبذلك تتّضح نقائص القراءات لدى مجموع المفسّرين على اختلاف مذاهبهم وأزمنتهم بمن فيهم بعض المعاصرين، بميلهم إلى تفسير القرآن بمقاييس إيمانيّة مفروضة سلفا على كلّ من أراد القراءة.
في الأخير يحسن بنا أن نستحضر حكمة الكاتب «أمبرتو إيكو» في كتابه «الأثر المفتوح» القائلة: «إنّ الكتاب يجب أن يكون بناء مفتوحا ومتحوّلا» فالأثر المفتوح يمنح القارئ أو المؤوّل أو المفسّر مساحة لا متناهيّة من الحرية الواعية بشبكة العلاقات التي لا تنتهي داخل النصّ الواحد، وإنّ طرافة كتاب «هل قرأنا القرآن ؟ أم على قلوب أقفالها»، تكمن في التجاوز الذي حقّقه الكاتب يوسف الصدّيق لحدود العلاقة التي تجمع نصّ القرآن بنصّ الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، فلم يعد المسكوت عنه منحصرا في القرآن على مرويات التوراة أو مرويات الأناجيل القانونيّة والمنحولة وإنّما جازف هذا الكتاب بأن جعل الفلسفة الإغريقية اليونانية رافدا من روافد مرويات القرآن لفظا ومعنى. والكاتب يوسف الصديق ينتصر في هذا الكتاب للفلسفة وللتفكير الفلسفي في تأسيسه لقواعد قراءة جديدة للقرآن تقطع مع كلّ القراءات النقليّة السابقة وتنطلق من مسلّمات جديدة طالما أنّ هذا النصّ قد خرج من الإطار الشفوي المعدّ للترتيل إلى إطار التدوين المحمّس للمسائلة والنقد والمحفّز للقراءة العقلانيّة، وبذلك تكفّ طريقة الحفظ والتكرار عن السيطرة على الحياة الفكريّة، ونحن نستحضر هذه القراءة لعلّنا نقرأ القرآن ونؤمن فعلا أنّه مجهر نقرأ به دينا إيمانيا جديدا وليس بيانا مختوما، لعلّنا أيضا نفهم قراءة المفكرّ يوسف الصدّيق وندخّر خلفيته التي نحجبها عنه وهو أنّه حرّرنا من قراءات مؤسّسة النقل ليسجن إدراكنا بقيود قراءة فلسفيّة تدعونا إلى أن نبدأ من الصفر المعرفي، والصفر هو أن نكتفي بصدقيّة النصّ كما لو أنّه أنزل على محمد ونحن مرافقون له..
الأسعد العياري
باحث جامعي
- اكتب تعليق
- تعليق