قصة الأستاذ المنجي الشملي: ميثاق السفينة
عرفته على ظهر السّفينة «مدينة الجزائر» في يوم من أيّام سبتمبر 1956، وقد أخذ الصّيف الثّقيل يُولِّـي فيدفعنا دفعا إلى خريف لزج عبوس متقلّب. أقلعت بنا السّفينة أثناء الصّبح، ولـم نكن مطمئنّين إلى أحوال الطّقس، وقد حُشرنا حشرا فظيعا «بالدّرجة الرّابعة» على الـمقاعد الـمستطيلة، راحلين إلى فرنسا في طلب العلـم.
وكنت في قعر السّفينة معتنزا بمكان قصىٍّ ضيّق، إذ بشابّ طويل أسمر اللّون، يجتهد في فتح كرسيّه الـمستطيل، ويرتمي عليه، وقد أضناه الزّحام، ويقول: لست أدري هل نحن في سفينة أم في اصطبل؟
وجلس سمير، وشرعنا في الحديث، فإذا هو حسن الخلق، سمح النّفس، وإذا هو على أدب في غير تصنّع، ولطف في غير ميوعة، لو ما تسبغه على وجهـــه نظّارات سوداء من خجل حالـم أو كأنّه الحلـم فتحسبه غائبا تائها.
وما كادت السّفينـة تخلـص من مينـاء «حلق الوادي» حتّى تحرّكت الرّيح في غير رفـق، وطفقت عـاصفـة شديدة مهدّدة، وإذا بأمواج البحر كأنّها الصّور يُنفخ فيه، والسّفينة كأنّها الرّيشة تعبث بها الأعاصير، أو كأنّها الرّاقصة مسّها الجنون، حتّى لا انسجام في حركتها ولا اتّزان...
كانت السّفينة محمومة، في حركتها التّقلّب يمنةً ويسرةً، فيها الكرّ والفرّ وفيها النّصب والرّفع... والـمسافرون في أمرهم حَيارَى، ذاهلون، قد لزموا كراسيهم أو ألزمهم الدّوار كراسيهم. وأسرع الخوف إلى نفوسهم أو أسرعت نفوسهم إلى الخوف. وكان اصطخاب أمواج البحر يزاوج الأنين الـمنبعث من ألواح السّفينة، هذه التي تصارع الرّيحَ فلا تصرعُها، وتقارع جبالَ الأمواج فلا تقرعُها.
ويتشبّث النّاس بأعمدة السّفينـة، ويستغيثون باللّه مُجريها ومُرسيها، ويستنجدون بالأمّهات والآباء، ويستَوُون في الـمنزلة الإنسانيّة، وفي تفاهة الشّخصيّة إزاء الخطر الـمهدّد بالفناء والـمترجم عن عبث الحياة.
وكنت أنا وسمير قد جمدنا في مخدعنا الخشن، وكان الدّوار قد استبدّ برؤوسنا، وعجزت أقراص الدرامامين عن إسعافنا، فكان القيء يعاودنا من حين إلى حين...
وطالـت بنا ساعات بين زمجرة الرّيح، واصطخاب أمواج البحر، وأنين ألواح السّفينة والدّوار والقيء، حتّى إذا دنا الأصيل، هدأت العاصفة، وكأنّها أصيبت بفتور تسرّبت عدواه إلى البحر فسكتت أمواجه وسكن، وعادت السّفينة إلى سيرتهـا الأولى فاستقـامت في سعيها، وثاب إلى الناس بعض رشدهم، بعد امتحان عسير...
وصعدنا على الجسر، طلبا للهواء النّقيّ، فلاحت لنا أنوار سردانيا متلألئة كأنّها جوهرات عقد نظيم، والنّاس يشيرون بالأصابع إلى الجزيرة كأنّ حنينهم إلى اليابسة قد برَّح بهم..
* * *
وكانت ساعات أثناء اللّيل قد اشتدّت فيها الأخوّة بيني وبين سمير، ووجدت فيه الخليل الـموافق، ووجد فـيّ الأنيس. وقلت بشَجْوِي وقال.
قلت: العَجَبُ من ترْك النّاس التّفكيرَ في أمرهم إن هم ساغت حياتهم وطابت أيّامهم، فهم يهزلون مُصبِحين ويعبثون مُمْسِين، يبتسمون منافقين ويَعِدون مُخْلفين، ذئابًا فيما بينهم، غيرُ عَشُورين ولا خَدومين... حتّى إذا أصابتهم مصيبة أقبل بعضهم على بعض يتعاطفون، فيتحابّون ويتآلفون؛ العَجَبُ من إقبال النّاس على حُطام الدّنيا الخسيسة، ومن ركوبهم بحرها الهائج حتّى أصبحوا سِفْرا مغلوبين، تعصف بهم شهوات جامحة فتجرف سفينتهم جرفا، ليت شعري هل لسفينتهم إرساء!
قال سمير وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة صفراء حزينة: النّاس في السّفينة يشعرون بالاجتماع والوحدة، والنّاس على الأرض يلتذّون بالتّنافر والفرقة. السّفينة توقظ فيهم حبّ الإنسان لأخيه الإنسان، وتوقظ فيهم جَذوة الأخوّة والتّآلف؛ هم إِنس على متن البحر جِنٌّ على أديم الأرض، قويّهم فيها يطأ ضعيفَهم، وغنيُّهم يستصغر فقيرهم قِلّةً له واحتقارا لأمره...
لقد مات والدي منذ كنت صبيًّا، ولـم يترك لي ولوالدتي سوى منزل حقير نأوي إليه. وكان لنا جارٌ من أغنياء الحرب، لـم أعرف مثله قسوة قلبٍ، لا يحفِل ببؤس البؤساء، وشقـاء الأشقياء، قد شغَله نعيمُه عن شظَف النّاس، وشغَله يُسْرُهُ ( ) عـن عُسر النّاس، ولعلّـه لـم يكن يشعُر ببؤسهم وشقائهم! واضطُرّت أمّي ـ لحاجتنـا ـ أن تعمل في بيته، تنظّف الـمنزل، وتغسل الثّياب، وتطعم الدّجاج، وتحلب البقر... وكان هو دائم الشّتم، متواصل الغضب، ملحّا في رفع الصّوت بالتّأنيب، ملحًّا في الأمر والنّهـــي.
وكنـتُ، إذا رجعت من الـمدرسـة، أقبلـتُ على إعانة أمّي في عملهـا، عطفـا عليها ورفقا بها، فأكـوي الثّياب، وأحضر القهوة التي تُشرب بعد العشـاء ـ يشربهـا أهـل البيت ـ وكنّا لا نتعشَّى إلاّ إذا تعشَّى سادتُنا، فنأكل الحُتامة، ونشرب الثّمالة، ثمّ ننصرف إلى بيتنا الحقير العاري، وقد مضى أكثرُ اللّيل. وكنت إذا أويتُ إلى الحصير البالي، أفكّر فأطيل التّفكير في أمر والدتي وأمري. وكنت فيما بيني وبين نفسي أثور على ذلك «الغنيّ»، وأثور على «قسمة الأرزاق». تعاودني الفكرة الحزينة ويطول بي اللّيل، وأكبِتُ العبرات حتّى أغُصّ بها، وقد تنفجر من حلقي فأجهش بالبكاء، فأبكي وتبكي أمّي.
ولـمّا انتقلتُ إلى الـمدرسة الثّانويّة، كنت إذا خرجت من الدّرس، أسرع إلى قاعة بعض الحلاّقين، حيث أشتغل بقيّة يومي لأكسب ما يُعيننا على الظّفر بقوتنا، وعبثا جهدت في أن أفوز بمنحة من «إدارة التّعليم العموميّ» يومئذ، لأنّي عدمت الوساطة. وكانت الوساطة كلّ شيء!...
وكنت كلّـما ازدادت حالنا ضيقا، ازددْت عزما على مواصلة الدّرس، حتّى أدفع الفقر من هذا الـمنزل دفعا، وأحرّر أمّي من عبوديّة «الغنيّ» تحريرا، وأعيش عزيزا كريما.
قلت: هل يأْبق الإنسان من مُلك ربّه ؟ أرضنا فيها الفقر والـمرض والجهد. في بلادنا سمير في كلّ مكان، في كلّ مدينة وفي كلّ قرية وفي كلّ حيّ آلاف وآلاف من سمير، بل وفي كلّ تونسيّ سمير أو شيء من سمير، والواجب على بلادنا ـ وقد استقلّت ـ أن تُعين كلّ سمير على تحقيق حياة كريمة وشخصيّة كثيفة حرّة، الواجب على الدّولة أن لا تغتال هذا الشّباب الـمحروم...
وتواثقنا على أنّ الـمشاركة في إنقاذ هذا الشّباب الـمحروم أمر متحتّم على من أفلتوا من الحرمان وأسعفتهم الصّدفة... وكان بيننا ميثاق موعده بعد الهجرة...
* * *
وأقمنا معا في باريس سنة دراسيّة، بَلَوْنا فيها الحياة بحُلوها ومُرِّها، أقبلنا فيها على الدّرس وعلى معرفة النّاس والـمجتمع...
ورجعنا إلى تونس، وشُغل كلّ منّا عن الآخر بما تفرضه عليه بداية الاستقرار من ملابسات...
والتحق سمير ببعض الإدارات يعمل موظّفا ساميا، لا يأخذ أجرا ضعيفا مياومة كما كان والده، ولكنّه يأخذ «مرتّبا» عاليا مشاهرة.
ورغبت في مقابلته وفاء بميثاق السّفينة.
* * *
وصرت إلى باب إدارته، فاعترضني رجل رَبْعة، مفتول الكتفين، في وجهه شُربة من حُمْرَة ، كثّ الشاربين شديد سوادهما، في زيّه الأزرق التّقليديّ زيّ حَفَظة الأبواب( )، هو «الشّاوش» أحد سَدَنَة هذا العَرين. انتصب واقفا أمامي وكأنّه قد عراه بعض الـمسّ ورفع يده محيّيا تحيّة «عسكريّة» تلقائيّة وقال: ماذا تريد ؟ فأعلـمته بأنّي أرغب في مقابلة «السّيّد» سمير. فسألني قائلا: «هل لك «جواز» يضبط موعدا؟» قلت: «لا...» قال: «لا سبيل إلى الدّخول إلاّ به».
وكنت على وشك الانصراف إذ عاودني سائلا، في صوت الـمزهوّ بنفسه يريد تقديم مساعدة يعتبرها ثمينة: «هل لك به قرابة؟» قلت: «لا». «وهل لك به سابق معرفة؟» قلت ـ عمدا ـ «لا». فقال: «هو على كلٍّ لايمكنه قبول أحد في هذا اليوم! ولكن زرنا في يوم من الأيّام الـمقبلة لعلّ الله يسهّل من الأمر ما هو عسير...».
وانطلقت إلى الشّارع، وكأنّي قد أُصبت بصدمة هزّتني هزّا، وجعلت أتساءل عن معنى أسئلة الحاجب... ونظرت إلى السّيّارات الأنيقة الفخمة التي كانت رابضة بالـمحطّة الـممتدّة أمام الإدارة.... ولست أدري لـم راجعتني ذكرى تلك الـمسافات الطّويلة التي كنّا في باريس ـ أنا وسمير ـ نقطعها، أيّام السَّعْد، في حافلات «الـمترو» نُحشر فيها حَشرًا، والتي كنّا، أيّام الإفلاس، نقطعها مشيًا على الأقدام.
لاشكّ أنّ لسمير سيارته الفخمة الطّويلة الـمتبرّجة ! إنّ السّيّارة اليوم امتداد للشّخصيّة وضمان لها.
وفكّرت في أنّ أحادثه بالهاتف، لعلّي أظفر به فنـتّـفق على موعد للقاء... وأجابني في الجهاز صوت فتاة، وكأنّها تؤنّب هذا الـمنادي الذي قطع عليها «هدوءها» وأقلق «راحتها» وعكّر صفو «سعادتها». قالت عصبيّة غضبى: «من تريد أن تخاطب ؟» فقلت لها رغبتي. فأجابت متنطّعة ضَجِرة، قالت: «السّيّد سمير لـم يأت، وليس له أوقات مضبوطة في الـمكتب ولعلّه، إن قدم، سيمضي كامل يومه، في جلسة أكيدة...»
وعجز الهاتف عن أن يصلني بسمير، كما عجز السّادن الأمين عن أن يوصلني إليه، فقلت لعلّ رسالة لا تعجز، وكتبت إليه.
ووصلت إلـيَّ، ذات يوم، رسالة ليست كتلك الرّسائل العاديّة التي نتلقّاها من النّاس العاديّين، ولكنّها رسالة تزدان في أعلى اليمين بعنوان إدارة سمير في خطّ عربي جميل أعلى اليسار بترجمته إلى الفرنسيّة... وإذا بسمير «مبتهج» بطلبي زيارته، وفَـي وضبط لي موعدا.
* * *
وفي اليوم الـموعود والوقت الـمضروب صرت أمام باب الهيكل العظيم، فانتصب أمامي ذلك السّادن الرّبعة. فقدّمت إليه «الجواز»... فجعل يكثر قراءته، وكأنّي به لا يقف على ما فيه، ثمّ قال لي: «اتّجه إلى نهاية الـممرّ، وهناك سيدلّك «الشُـوَّاش» الآخرون».
وانطلقت سريع الخطو، فتلقّاني السّادن الثّاني، فنظر، ولعلّه فهم، وقال: «اصعد إلى الطّابق الثّاني، وهناك يدلّونك».
وصعدت الدّرج مثنًى، وقد أصابني بعض الغضب، لست أدري أَعَلى السّدنة أم على نفسي.
وثاب إلـيَّ رشدي عندما فُتح الباب بحركة عصبيّة عجلَى، وسمعت صوتا يأمر أو كأنّه تفضّل. ونهضتُ، وأسرعتُ. وأمام باب الـمكتب مع السّادن «النّشيط» وصلت. وطُرق الباب في رفق، طرقه صاحبي، وفُتح الباب، فتحه صاحبي، فدخلت.
اشتمل الـمكتب عليّ وعلى سمير. وخُيِّل إلـيَّ أنّي انقطعت عن العالـم الخارجيّ، أو انقطع عنّي. وكان سمير جالسا في مكانه جِلسة الوقار، ومدّ إلـيَّ يده مصافحا في تأدّب مفرط محرج، وفي لين مزعج. وإنَّ من التّأدّبِ ما يُحرج ومن اللّين ما يُزعج !!
وما هي إلاّ أن وجدتني غائصا في كرسيّ وثير، وتحت قدميَّ زربيّة مبثوثة، كثّة الصّوف جميلة الألوان، متمتَّعا بدفء لذيذ.
وكان سمير قليل الحركة، متّزنها، قليل الكلام، خافت الصّوت، كأنّه يريد بذلك مزيدا من غموض ومهابة ووقار. وكان مستقيم الجلسة، لا يتّكئ ولا يحتبي كأنّه تمثال أقيم أو جماد مركوز.
وسألني حاجتي، فقلت:
- «انتهتْ أيّام الهجرة، ومسؤوليّتنا إزاء الشّباب الـمحروم كبيرة، والتّفكير في القيام بنشاط إيجابيّ فرض علينا، نحن الذين أعانتنا الأقدار على الخروج من الحرمان إنّه «الـميثـاق»...»
فتغضّن وجهه، وانقبضت أساريره، وصمت صمتا خيّل إليّ أنّه ثقيل طويل، وفهمت، ووددت ألاّ أسمع منه، ولكنّه قال:
- «إنّي مـازلت بعدُ لـم أتخلّص من تعب الدّرس وضنَى الحرمان، والشّبابُ له ربّ مدبّر حكيم... إنّك مازلت تعيش، كما عهدتك، في حصر الفكر وشدّة الجهد... رَفِّـهْ عن نفسك والتحق بنا من حين إلى حين، تجد «هناك» ـ فتيان صدق ـ يعرفون كيف «يقصّرون الدّهر»، زرنا ـ ولا حرج ـ لنخوض في مختلف الأحاديث ونَغنم ولا نُغبن..»
ووجدتني في الشّارع منطلقا أسعى كأنّني السّهم، لا أدري كيف نزلت الدّرج وكيف خرجت من الإدارة... أسعى وأفكّر وكأنّي حالـم..
أفكّـر في الذين يتعلـمـون ثمّ يرجعـون إلى الوطـن وكأنّهـم في بـلاد هـجـرة، لا يفهمون واقع أمّتنا الـمتخلّفة الضّعيفة، ولا يأْبَهُون للـمعذّبين في الأرض...
إنّه ميثاق السّفينة يُطلب فلا يُدرك.
المنجي الشملي
قراءة المزيد:
مـنجـي الــشمـلي: أسـتاذ الأدب الـمقـارن بالجامـعة التـونـسـيـة
- اكتب تعليق
- تعليق