حــتّـى تــكون الفـلاحـة قـطاعـا استــراتيجيـا بحقّ
هل أصبحت تونس بلدا غير قادر على التحكّم في وفرة منتوجها الفلاحي في عدد من القطاعات ولا على مواجهة شحّ ظرفي في بعض الموادّ كانت تحقّق فيها اكتفاءها الذاتي فلا تجد من سبيل لتعديل السوق سوى التوريد باعتباره أسهل الحلول كما جرى مؤخّٰرا بخصوص مادّة البطاطا؟ ذلك هو السؤال الذي يتبادر إلى الذهن عندما تتناهى إلى مسامعنا اليوم أصوات منتجي الزيتون الغاضبة جرّاء انهيار الأسعار التي لا تغطّي كلفة الإنتاج وذلك أمام تراجع الدور التعديلي للديوان الوطني للزيت الذي لم يُخصّٓص له لاقتناء جزء من المحصول إلا مبلغ 50 مليون دينار، وهو مبلغ غير كاف بالمرّة إذا ما اعتبرنا حجم صابة قياسيّة قدّرت بـ 350 ألف طنّ من الزيت. موجة الغضب والاستياء طالت أيضا المنتجين في قطاعات عدّة كتربية الدواجن وتربية الماشية والخضر والغلال بسبب ارتفاع أسعار المدخلات الفلاحية وتدنّي المداخيل وعجز الحكومة عن التصدّي الحازم للمضاربين والوسطاء المتحكّمين في السوق على حساب الفلاحين والمستهلكين على حدّ سواء.
ليست هذه الأوضاع في الحقيقة إِلَّا تجلّيا لأزمة مزمنة تعيشها الفلاحة التونسية، ازدادت حدّتها في السنوات الأخيرة نتيجة التأخّر في تنفيذ الإصلاحات الضرورية لجعله بحقّ قطاعا استراتيجيا وإحدى الدعامات الأساسية للاقتصاد الوطني، تجسيدا لشعار طالما حمله الخطاب الرسمي منذ عقود. فقطاع الفلاحة والصيد البحري لم يساهم في الخمس عشرة سنة الماضية إلا بما يقارب 8,6 بالمائة في الناتج المحلّي الخام ولا تزيد نسبة اليد العاملة النشيطة فيه عن السدس من مجمل النشيطين في البلاد وهي نسبة ما فتئت في انخفاض على الرغم من ارتفاع فرص العمل الموسمي لا سيّما زمن وفرة الإنتاج كما هو الحال هذه السنة فيما يخصّ صابة الزيتون.
لقد تمّ منذ سنوات عديدة تشخيص المشاكل الهيكلية التي تشكو منها الفلاحة ومن بينها تقدّم سنّ العدد الأوفر من المتعاطين لهذا النشاط وتشتّت الملكية إذ أنّ قرابة 75 بالمائة من المستغلّات الفلاحية تمسح أقّل من 10 هكتارات، فضلا عن الصعوبات التي يلاقيها خاصّة صغار الفلاحين، وهم الأغلبية الساحقة، في الحصول على قروض بشروط ميسّرة، علما بأنّ البنوك لا تساهم إلّا بنسبة 6 بالمائة فقط في تمويل الفلاحة.
ويمكن أن نضيف إلى ما تقدّم ذكره القصور الجليّ في مجال الإرشاد الفلاحي بسبب ما اعترى منظومته في السنوات الأخيرة من تعثّر نتيجة النقص الحاصل في الإطار البشري على إثر تقاعد عدد من المهندسين والفنيين لم يقع تعويضهم وتهالك جانب من أسطول السيارات المسخّرة لهذه الخدمة فأضحى الفلاح في غالب الأحيان مفتقدا لمن يوجّهه في معالجة ما يصيب أشجاره أو مزروعاته أو قطيعه من أمراض وآفات ويرشده إلى أفضل الطرق قصد الوقاية منها وينير السبيل أمامه لتحسين إنتاجية نشاطه.
كما لا تفوتنا الإشارة إلى التأثيرات السلبية لشحّ الموارد المائية على القطاع الفلاحي زمن الجفاف على الرغم من المجهود الذي بذلته الدولة من أجل الزيادة في المخزون المائي من خلال بناء السدود الكبرى والسدود الصغرى وتهيئة البحيرات الجبلية غير أن المجهود يظلّ غير كاف أمام توسّع رقعة النشاط الفلاحي وتنوّعه.
أمّا الصيد البحري الذي يوفّر أكثر من 50 ألف فرصة عمل مباشرة و20 ألف فرصة عمل غير مباشرة فهو يعاني أيضا من مشاكل متفاقمة تتمثّل خاصّة في انعدام التأمين لفائدة جانب وافر من البحَّارة وتراجع المداخيل بسبب الزيادات المتتالية في سعر المحروقات التي لم يرافقها ارتفاع في الدعم، بالإضافة إلى هنات في مستوى الحوكمة التي باتت في حاجة مؤكّدة إلى التطوير قصد رفع الإنتاج والحفاظ على الثروة السمكية من مخاطر الصيد العشوائي.
لم يرد في وثيقة ميزانية الدولة لسنة 2020 ما يؤكّد أنّ النهوض بالفلاحة، على الرغم من أهميتها الاقتصادية والاجتماعية، يندرج ضمن الأهداف الاستراتيجية للفترة 2020 - 2022 إذ أشير بشكل مبهم إلى «اعتماد مقاربات متجدّدة لتفعيل السياسيات والاستراتيجيات القطاعية» وإلى «تدعيم الإصلاحات المرتبطة بمنظومات التربية والتعليم العالي والصحّة والتكوين المهني» دون ذكر القطاع الفلاحي الذي كان نصيبه من نفقات التنمية 989 مليون دينار من مجمل النفقات في هذا الباب والمقدّرة بـ 6,9 مليار دينار. قد نتقبّل الرأي القائل إنّه ليس بالإمكان أفضل ممّا كان في ظلّ التوازنات المالية الحالية ونضوب خزائن الدولة جرّاء ارتفاع حجم المديونية، بيد أنّ الفلاحة هي اليوم في أمسّ الحاجة إلى إرادة سياسية قويّة ورؤية جديدة تنصهر ضمن مقاربة شاملة للنهوض بالعالم الريفي وذلك لإنقاذ هذا القطاع الحيوي بوضعه دون إبطاء على سكّة الإصلاح والتطوير لا سيّما وأنّ العديد من البرامج والمشاريع ظلّت منذ سنوات حبيسة الأدراج في الإدارة تنتظر التنفيذ، شأنها شأن عديد المطالب الصادرة عن الفلاحين ومنظّمتهم والتي بقيت دون ردّ. فلماذا لا يتمّ التوجّه بجدية نحو مراجعة آليات تمويل القطاع الفلاحي ودعم الإنتاج لحماية منظوماته على غــرار ما هو معمول به في دول الاتحاد الأوروبي والاستعاضة عن الطرق التقليدية في مجال الإرشاد الفلاحي بمنظومة رقمية تتضمّن بيانات يحتاجها الفلاح لتطوير نشاطه وإنشاء «مدارس ميدان» لتكوين الفلاحين يتولّى التأطير فيها أهل الذكر من أخصّائيين وفلاحيين من ذوي التجربة الواسعة وإحداث مركز دراسات صلب الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري يمكّنه من مزيد طرح البدائل والمقترحات للنهوض بالقطاع؟
فأيّ مستقبل للفلاحة التونسية؟ وأيّ حظّ لها في برامج الحكومة الجديدة. فلنتظر عسى أن يكون القادم أفضل.
كل عام وأنتم بخير.
- اكتب تعليق
- تعليق
مع تحياتي وتقديري السيد عبد الحفيظ لما جاء في هذا المفال الجيد والذي يطرح عديد المواضيع المتعلقة بقطاع الفلاحة الذي يبقى وإلى اليوم يعيش العديد من المعوقات والإشكاليات والتحدبات نتيجة السياسات المعتمدة وبالخصوص منذ 2011، مع الإشارة كذلك إلى أن هذا القطاع لا يمكن أن يكون له مستقبلا دون الإعتماد على المعرفة والتجديد التكنولوجي, لكم مني كل التقدير والإحترام.