أخبار - 2019.12.03

وحدة الرّؤيـة وتنــوّع العـوالم قراءة في أدب سمير مخلوف وأعماله الـتّشــكيلـيـة

وحدة الرّؤيـة وتنــوّع العـوالم قراءة في أدب سمير مخلوف وأعماله الـتّشــكيلـيـة

سمير مخلوف مهندس معماريّ وكاتب ورسّام تونسي وهو من أبرز الأسماء التي ظهرت خلال العقدين الأخيرين على السّاحة الأدبيّة والفنيّة التّونسيّة. تجمع أعماله الأدبيّة والتّشكيلية بين الحسّ الشّعري والتّأمّل الفلسفي وتستند إلى رؤية فكريّة موحّدة واختيارات جماليّة خاصّة طوّرها على مدى سنوات ونجد لها حضورا متواترا في نصوصه ورسومه معًا. ولعلّ من المفيد أن نقدّم للقرّاء فكرة مجملة عن تجربته الإبداعيّة الذي سلك في إنتاجها طريقا بالغ الطّرافة. من الهندسة المعماريّة إلى الإبداع الأدبي والتّشكيلي

وُلد سمير مخلوف سنة 1964 بتونس، وتخرّج من المدرسة الوطنية للهندسة المعمارية ودرّس بها الهندسة ودرّسها طيلة أربع عشرة سنة. نشر أولى كتاباته باللّغة الفرنسيّة سنة  2000، وهو يعرض لوحاته  منذ سنة 2006 إلى اليوم،  مرفقةً بتعليقات مكتوبة حول مواضيعها، خلافا للمعتاد في المعارض الفنيّة. ولا تتمثّل وظيفة تلك التّعليقات في تفسير مضامين اللّوحات بقدر ما تبدو تنويعا أو تطويرا شعريّا لها.

التقيت بالأديـــب الرّسّام لأوّل مرّة في العام 1999 وكان قـد اختار آنذاك التّفرّغ للكتابة والرّســم تاركا التّدريس بمعهــد الهنـدسة المعمــارية. وقد أطلعنــي على مخطــوطـتيــن باللّغــة الفــرنسيـة همـــا «Le Jardinier de quinze soirs» و«J, Contes des textures gestuelles». وشدّ انتباهي ما تميّزت به تلك النّصوص من جدّة في الرّؤية وجمع بين أساليب تنتمي إلى أجناس أدبيّة مختلفة كالسّرد والشّعر والتّأمّلات ومع ذلك فهي تندرج ضمن مدوّنة متجانسة ومحكمة البناء. نشر كتابه الأوّل Le jardinier de quinze soirs ببـاريس سنـة 2000 في دار Sens & Tonka. وقد أنجزتُ للكتاب ترجمة عنوانها «بستانيّ الخمسة عشر مساء»، صدرت سنة 2003 عن دار كُنتراست للنّشر بسوسة التي نشرت له في العـام المـوالي، كتابـه الآخر  J, Contes des textures gestuelles في نصّه الفرنسي الأصلي، وكذلك رواية من جنـس الخيال العلمي بعنـوان: «إنســان غاييــه» (L’Homme de Gayeh) ســنة 2017؛ وله نصـوصٌ أخـرى لا تـزال مخطوطة منهـا روايته Merminus infinitif و Univers, un autre angle de vue وهو نصّ علمي ـــ فلسفي يطرحه كنظريّة للكون.

وحدة الرّؤية في الكتابة والرّسم

من المعروف ــــ في الثّقافة العالميّة على الأقل ــــ أن يُمارس بعض الكّتّاب الفنّ التّشكيلي أو أن يكون لِبعض التّشكيليين تجارب أدبيّة، لكن من النّادر أن يصدر التّعبيران عن رؤية واحدة فيترجمان بنفس المستوى والعمق عن شخصّيّة المبدع. وتنتمي تجربة سمير مخلوف إلى هذا الصّنف ذي الرّؤية الموحَّدة التي تجمع الأدب والرّسم معًا ضمن منظومة واحدة؛ والواضح أنّ أعماله الأدبيّة المكتوبة بالفرنسية مثل لوحاته يستند جميعُها إلى مقاربة فكرية تطوّرت على مدى سنوات وألَّفتْ بين الحسّ الشّعري والتّأمّل الفلسفي والنّظريّة الجمالية. وقد نتجت عن تلك الرّؤية جملةُ مواضيع وتقنيات تتواتر في نصوصه ورسومه على السّواء؛ فكما أنّ لوحاته تشتمل على عناصر وصفيّة سرديّة تحاكي النّصّ الأدبي، فإنّ كتابته تعتمد في الغالب أساليب التّشكيل في تركيب عناصر الصّورة مثل تنويع بؤر النّظر في المشهد الواحد والولع بالإيقاعات البصريّة وتُبرِزُ بعضَ عناصر التّكوين بينما تُوحي بأخرى أو تخفيها. ومن مظاهر التّفاعل بين نصوص سمير مخلوف ولوحاته وعمق العلاقات بينهما أنّ اللّوحة تبدو في أحيان كثيرة استمرارا للنّص الأدبي، ويُعالَجُ النصُّ في المقابلِ كامتدادٍ للصّورة التّشكيليّة، وهو منحى نادر في التّقاليد الأدبية والفنّية العربيّة؛ ويمكن القول إنّ الرّسم والكتابة يتضامنان على هذا النّحو في بناء عالم شعريّ بالغ الخصوصيّة والطّرافة.

فنّ ٌ ذو مرجعيّة فلسفيّة

يُلاحَظُ في مُنْجَز سمير مخلوف التّشكيلي وفي مدوّنته الأدبيّة أثرُ آراء الفيلسوف جاك درّيدا صاحب المذهب التّفكيكي الذي تأثّر به عددٌ من المعماريين مثله؛ ويُفْهَمُ من تلك الآراء أنّ النّصّ، أو أيّ خطاب عامّة، وإن كان خطابا تشكيليّا أو معماريّا، إنّما هو حيّزٌ منفتح على تأويلات متعدّدة ولا يُحيل على حقائق ثابتة مستقرّة، باعتبار ما يطرأ من تحوّلات على معاني الكلمات والمفاهيم المُستعملة. وإنّنا نلمس في أعمال سمير مخلوف ذلك التّحوّل الدّائب وتلك الحركة اللاّمستقرّة، الباحثة عن تفاعلات متجدّدة بين الذّات والوجود.

الارتحال عبر تضاريس الواقع والخيال

إنّ الولوج إلى عالم سمير مخلوف ورسومه يتطلّب قدرا من الصبر ورصيدا معرفيا كافيا في مجالات شتّى لكي يستكشف آفاقه المترامية؛ فقارئ النّصّ مثل مشاهد اللّوحة يُضطَرُّ إلى القفز فجأة بين مستويات متفاوتة ومتباعدة من الواقع، بين الكوني وما دون الذّرّي وبين الماديّ والرّوحيّ. إنّه حيّزٌ شاسع تتداخل فيه ممالك الجماد والنّبات والحيوان ويحفل بالإشارات إلى العلوم الصّحيحة والتّطبيقية كالفيزياء والرّياضيات والهندسة المعماريّة والتّخطيط العمراني وغيرها. ويكتشف المسافر في ذلك العالم أصقاعا مجهولة ومدنًا غريبة وظواهر عجيبة مُتَخيّلة، مثل تلك «الحديقة ذات العشبة الواحدة» و»النّافورة التي تحدث أصواتا بحسب الحالة النّفسيّة لزائرها». وتنفذ النّصوص والرّسوم معا إلى مجاهل النّفس البشريّة وتصوّر حالاتها الحميمة وترصد تفاعلاتها مع ظواهر الوجود وأحداثه؛ وهنا يُطالعنا مسارٌ شعري يسعى متلمّسًا طريقه إلى معانقة كلّ ما يعتمل في عالم شاسع بلا حدود منظورة.

في كتابه «بستاني الخمسة عشر مساء» يتردّد ذكر المدن ونسيجها المعماري في تجاوب بين العمارة والشّعر فيقول عن مدينة «آلغـا» المُتخَيّلة

«إسمها آلغا؛ إنّها مدينة طافية على الماء، مدينة أنثى...»

«...سكّانُ آلغا يتعاملــون مع النّوم وحيّزه كمرفإ في اتّجاه الحلم...».

وفي فصل «مكعّب الحركة» من كتابه يعرّج على عالم الحيوان ليصوغ من أجوائه أسطورةً للحبّ:
«يُقالُ إنّ أنثى الصّرَّار تُنضِجُ الثّمارَ. يُقالُ إنّما هي قِصَصٌ تُحكى لينام الأطفال، وإنّ الصّيفَ هو الذي يُخْرِجُ الحشرة من نومها، وإنّ الثّمار هي التي تجعلها تُغنّي.

يُقالُ إنّ أُنثى الصّرّار أميرةٌ وإنّ لها منذ الأزل عُشّاقًا...»

ومن الإشارات إلى المعارف العلميّة والتّكنولوجيّة ما كتبه سمير مخلوف في جنس قصص الخيال العلمي مثل كتابـه «إنسان غاييــه» (L’Homme de Gayeh) وما جاء في كتابه «بستاني الخمسة عشر مساء»من ربط طريف بين الشّعر والعلوم الصّحيحة مثل عمليّة تسريع الجزيئات في الفيزياء الكمّية، حيث يقول:

«سكّان آلغا يقرّرون كيف تكونُ عمارة بيوتهم مستعينين بنحّاتي الفيزياء المجهريّة...»

«...الهــولوغرافيا غامضة، ولكن قد لا نوجَدُ إلاّ في موضـــع ما من قفاها»

في التّوافقات بين النّصّ والرّسم

نسوق كمثال عن التّفاعل بين كتابة سمير مخلوف ورسومه، هذا النّصّ المرافق للوحة «مجفّف الغسيل» (Le Sèche-linge):

رقصة الغسيل المنشور في الشّرفات تجعل من العمارة عازفَ آلة موسيقية ومن الرّيح قائدَ جوق. ولا يشارك المعماري، لسوء حظّه، في تنفيذ ذلك التّأليف الفضائيّ؛ فطفل الطابق السّادس هو الذي يكتب كلمات الأغنية، والأمّ القاطنة في الطّابق الثّاني هي التي تضبط إيقاعه وعشّاق التّافه من الأمور هم الذين يصفّقون لرقصـــة الشّؤون اليوميّة تلك!
لعلّ في هذا النّص ما يشير إلى الخيبة التي يُمنى بها المعماريّ إذ يرى عمائره لا تحقّق وجودها في ما يسطّره مشروعه، وإنّما في تحرّرها من أيّ تصوّر ما قبلي لتتفاعل مع ما يحفل به الواقع من تحوّلات طارئة وغير متوقّعة.

سمير مخلوف التّشكيلي

يبدو الرّسّام على معرفة واسعة وعميقة بتاريخ الفنّ ونراه ينتهج تشخيصية حكائيّة (Figuration narrative) تحافظ على المظهر الحسّي للأشياء وتتأكّدُ بِنزوعه نحو كتابة تعليقات على لوحاته، غير أنّه يُخضع الواقع في تلك التّعليقات لِمعالجات غير منتظرة لا يهدف من ورائها إلى تفسير تصويري لمواضيعه التّشكيليّة. ويمكن تصنيف منجزه الفنّي كسريالية محدثة ذات صبغة سرديّة  تعتمد لقاءات الصّدفة بين الأشياء والتّهجين بين الواقع والخيال كما نلاحظ فيها تأثّرا بتجارب المدرسـة «الوحشية» (Le Fauvisme) التي اشتهرت بألوانها الصّاخبة، مثلما تشهد به لوحته «السّيّدة المتعطّرة» (La Dame parfumée) في معالجة التّكوين والخطوط على طريقة الرّسّام الفرنسي هنري ماتيس (Henri Matisse). ولعلّنا ننفذ إلى مفهومه للفنّ كجسر بين المنظور واللاّمنظور من خلال نصّ ورد في كتابه «بستاني الخمسة عشر مساء» إذ يقول:

«... وجدْتُني وعلى أطراف أصابعي قوّة اختراعٍ، باللّمس وحده، يمنح الطّين وظيفة الأرواح...»

تلك إذن بعض ملامح تجربة سمير المخلوف الأدبيّة والتّشكيليّة التي تتميّز بوحدة الرّؤية في الكتابة والرّسم وتستند إلى أرضيّة نظريّة عميقة وتسعى إلى استكشاف آفاق متجدّدة للفنّ التّشكيلي والشّعر.

علي اللواتي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.