عامر بوعزّة: بين الديمقراطية والتوافــق
بعد فوزها في الانتخابات التشريعية بدأت حركة النهضة رحلة البحث عن شركاء يقبلون بتشكيل الحكومة الجديدة معها، فالاستحقاق الديمقراطي وحده لا يكفي، بل ينبغي حتما على الفائز في المنافسة الانتخابية أن يبحث لاحقا عن طرف الخيط الذي يقوده إلى »التوافق« وسط متاهة شاسعة من المصالح المتضاربة. يعتبر البعض هذا الوضع من مآزق النظام السياسي للدولة الذي توافقت عليه النخب بعد الثورة في نطاق التصدّي للتغوّل والاستبداد، فيما يعتبره آخرون الاستثناء التونسي الأهمّ في خضمّ الإخفاقات الدموية تاريخيا لتجارب التعايش بين الإسلاميين والعلمانيين في البلاد العربية، لكن توافق الفرقاء بعد الحسم الديمقراطي يؤدّي ضرورةً إلى تنازلات موجعة ومخيبة لآمال الناخبين لأنّها عادة ما تكون على حساب الوعود الانتخابية. فإكراهات الواقع السياسي تتعارض دائما مع التطلعات الشعبية. ولئن كانت توقّعات الناخبين تسير دوما في اتجاه راديكالي فإنّ النزعة البراغماتية لدى السياسيين هي التي تكبح جماحه.
حدث مثل هذا مــع النهضة في 2011، دون صعوبات تذكر حيـث كانت المرحلة نظريا مرحلة تأسيس، ولم يكن للإسلاميين تجربة سابقة في الحكم يمكن أن تلقي بظلالها على ما سيأتي، كما أنّ خطاب المظلومية الذي اعتمدوه لتقديم أنفسهم في ســاحة العمل الحزبي القانوني بعد نحو أربعة عقود من النشاط السري خلق حالة تعاطف شعبي كبيرة معهم يكتنفها الفضول والترقّب، ولم يكن من الصعب على النهضة آنذاك أن تجد في حزبي «المؤتمر من أجـل الجمهوريـة» و«التكتّل من أجل العمل والحرّيات» شريكين نموذجيين، فهما حزبان علمانيان يتمتّعان بشرعية نضالية قوية في علاقة بالمسار الثوري وتاريخية المواجهة مع نظام الاستبداد. ولئن كانت الهوية الإيديولوجية لحزب «المؤتمر» غائمة منذ البداية ومطموسة بشعارات المبدئية والطهورية، فإنّ «التكتّل» كان يمثّل جزءا من البورجوازية الوطنية، ويتنزّل في الوسط بنزعة ليبرالية اجتماعية لا تشكّل أي تحدّ للنمط الثقافي والاجتماعي السائد، ما جعله يقدّم نفسه ضامنا للإسلاميين في تجربتهم الأولى مع الحكم، وهكذا أمكن آنذاك لهذه الأطراف الثلاثة إنقاذُ التوافق التاريخي لأطياف المعارضة الراديكالية تحت جبهة 18 أكتوبر الشهيرة، الجبهة التي أصرّ أحمد نجيب الشابي في المقابل وهو أحد رعاتها الأساسيين على أنّها أصبحت جزءا من التاريخ بنهاية عهد بن علي. ويعتبر كثير من النشطاء الإسلاميين اليوم أنّ فشل كل المبادرات السياسية التي هندسها الشابي لاحقا يعود بشكل أساسي إلى تعنته في رفض التوافق معهم، فيما يعتبر معارضوهم أنّ ضمور حزبي «المؤتمر» و«التكتل» بعد تجربة الترويكا يعود أيضا إلى توافقهما مع النهضة، والأمران صحيحان إلى حدّ ما، حيث أصبحت النهضة في مرحلة ما بعد 2011 حجر الزاوية في الهرم السياسي.
في العام 2014 تجـــدّد السيناريو، ووجد ناخبو «نداء تونس» أنفسهم أيّاما قليلة بعد الانتخابات أمام حتمية التوافق مع النهضة، بعد أن كان خطابهم الانتخابي مبنيا بالكامل على فكرة استرداد السلطة منها وتحصين النمط الاجتماعي من المخاطر التي قد يمثّلها تغلغل الإسلام السياسي في مفاصل الدولة. وأدّى ذلك إلى تنازل هذا الحزب وهو الفائز في الانتخابات الرئاسية والتشريعية عن حقّه في أن يكون رئيس الحكومة من صلبه أولا، واعتماد مبدأ المحاصصة الحزبية في تشكيل الحكومة ثانيا.
وبتقييم المرحلة يبدو واضحا أنّ النهضة كانت المستفيد الأبرز من هذا «التوافق» الذي عوّض لها ما خسرته بالديمقراطية، فالصفّ الثاني شكّل آنذاك قاعدة خلفية مريحة جدّا لمعالجة التراكمات الثقيلة التي ظلّت تلاحقها بعد تجربة الترويكا، وأتاح لها ذلك الموقعُ الانتقالَ المرِنَ في المواقف من المعارضة إلى الموالاة وفق المصالح والمتغيّرات، فيمكن ملاحظة هذه الازدواجية في مواقفها من مبادرات الرئيس التشريعية في مناسبتين: قانون المصالحة الإدارية، وقانون المساواة في الميراث.
«التوافق» مكّن الرئيس الباجي القايد السبسي أيضا من استرجاع القليل من السلطات التي حرمه منها النظام السياسي البرلماني المعدل، فقد قام بتوسيع صلاحياته الرئاسية في «وثيقة قرطاج» 2016-2018، بغاية معلنة تتمثل في إشراك المنظمات الوطنية الكبرى في اتخاذ القرار، والتفّ مؤقتا على سلطات البرلمان، وهي السلطات الأصلية التي ركزتها العملية الديمقراطية، لكنه اصطدم في النهاية وعند معارضة النهضة البند الخاص بتغيير رئيس الحكومة بحدود التوافق القصوى والتي بدا واضحا أنّها لم تعد في يديه، وهو ما جعله يعلن نهاية حالة التعايش مع الإسلاميين التي تأسست إثر لقائه مع الغنوشي في باريس صائفة العام 2013، وتحولت العلاقة بينهما إلى مواجهة معلنة في آخر أيام حياته، لا سيما بعد أن تبنّى قضية «الجهاز السري» التي تطالب هيئة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي بتسريع البحث فيها.
على صعيد العمل الحزبي استطاعت النهضة في ظلّ التوافق مع الرئيس الرّاحل الباجي قايد السبسي أن تنحني قليلا حتى تمرّ العواصف الهوجاء، فقد كان لتغيّر المواقف الدولية من التيارات الإسلامية أثر لا يخفى عند ترتيب البيت النهضوي في المؤتمر العاشر ربيع العام 2016، فضلا عمّا كان يعتمل في داخل الحزب ذاته من تباينات يعود جزء كبير منها إلى عدم القيام بعملية نقد ذاتي شاملة أصبحت مطلوبة لا من الداخل فقط بل من الخارج أيضا، وفي هذا السياق جاء الإعلان عن الفصل بين الدعوي والسياسي ليكون إعلانا عن تحوّل نوعي في رؤية الحزب الفكرية يتخلّص بمقتضاه من إرثه التأسيسي، فبينما نجد في الوثيقة الفكرية التي قام عليها الاتجاه الإسلامي والتي تعود إلى الثمانينات أنّ «وظيفة الخلافة تقتضي القيام على شريعة الله في الأرض» تؤكّد وثيقة المؤتمر العاشر أنّ الحزب يستمدّ برامجه من «الثوابت الوطنية التي نصّ عليها الدستور أوّلا، والمرجعية الإسلامية ثانيا، والكسب الإنساني في قيمه السامية ثالثا».
لكنّ هذا التحوّل النوعي في مستوى التفكير الاستراتيجي لحزب النهضة ما يزال يكتنفه بعض الغموض لا سيّما عندما يخضع لاختبارات ميدانية صارمة، ففي مداخلة تلفزيونية مع إحدى القنوات الإخبارية العــــربية وصــف عبد الفتاح مورو المحسوب دائما على الشقّ الأكثر اعتدالا داخل النهضة مشروعَ قانون «المساواة في الميراث» باستخدام مصطلح ديني دعــوي لا صلة له بالسياسة، في قوله إنّه «المنكر الذي تصدّت له النهضة باليد لا باللسان فقط، إذ تركته حبيس الأدراج في مكاتب البرلمان». كما إنّ زعيم الحركة يؤكّد في مقال له بعنوان «الانتخابات التشريعية والتغيير المسؤول» «أنّ الخط السياسي للحركة وقدرة قواعدها على التشبّع بعقلية الدولة وثقافة الحرية والديمقراطية، ما انفكّ يقلّص مساحات التوجّس من وجود الإسلاميين في الحكم»، لكنّه لم يستطع التخلّص من الاستقطاب الثنائي الحادّ الذي يقسّم المجتمع بمقتضاه إلى قسمين متصارعين، وبعد أن كانت البلاد موزّعة في خطب الغنوشي إلى (إسلاميين وعلمانيين) اضطر في ضوء التعديلات الفكرية التي قامت بها حركته وتوافقه مع الأحزاب العلمانية في الحكم إلى استبدال هذه الثنائية بأخرى حين يقول في ذات المقال على سبيل الخلاصة «إنّ كلّ صوت لا يذهبُ إلى النهضة يذهبُ الى الفساد» وهي ثنائية لا يستقيم معها توافق إذ تلقي بظلالها على المفاوضات الجارية حاليا لتشكيل الحكومة الجديدة.
لئن كان للديمقراطية حينئذ نظم ثابتة استنادا إلى نماذجها الأصلية بتمثيليتها النيابية وشروط تمثلها وإمكاناتها الإجرائية، فإنّ «التوافق» مفهوم مطاطي يمكن تكييفه بمرونة ويمكن النظر إليه من زوايا متعددة، فمن جهة قد يقال إنّ الديمقراطية في حدّ ذاتها نظام للتوافق بين الأطراف المختلفة بالاحتكام إلى شرعية الصناديق، ومن جهة أخرى يمكن أن يقال أيضا إنّ التوافق مُكمّل للديمقراطية أمام الخلل المعطّل في نظام الأغلبية البرلمانية والذي يمنع الفائز في أي انتخابات من ممارسة حقه كاملا في الحكم وتحمّل المسؤولية بمفرده، والتوافق يمكن أن يكون حول برنامج عمل مؤقت لتجاوز الاختلافات الإيديولوجية كما هو الحال في الوثيقة التي تحاول النهضة الآن تشكيل حكومة بواسطتها، أو «وثيقة قرطاج» أو حتى «الميثاق الوطني» في 1988 الذي وقع عليه الإسلاميون باسم «فقه المصالح والضرورات» كما يقول راشد الغنوشي في كتابه «من تجربة الحركة الإسلامية في تونس». وأيّا كان تقدير الموقف فإنّ التوافق متّصل أساسا بخصوصية حركة النهضة بمرجعيتها الدينية والمساحة التي يمكن أن تتحرّك داخلها في ظلّ نظام جمهوري مدني علماني، وهي التي لا يمكنها الابتعاد عن دائرة السلطة تحت وطأة هاجس الاستئصال وفوبيا الاضطهاد، كما إنّ التوافق لا يمكن إلاّ أن يكون مرحليا ولا يعدّ بأيّ تغيير جوهري، وهو ما يؤزّم أكثر فأكثر علاقة الناخب بالطبقة الحاكمة لا سيّما عندما تطفئ إكراهات التوافق وعود الديمقراطية.
عامر بوعزّة
- اكتب تعليق
- تعليق