عامر بوعزة: بين حلاوة الوعود ومرارة الواقع
فسّر المتحدّثون باسم حركة النهضة الصفقة الذي أبرمها حزبهم مع «قلب تونس» عند انتخاب رئيس البرلمان ونائبه الأول بأنه نتيجة منطقية لتصلّب حزب «التيّار الديمقراطي» و«حركة الشعب» وأن الذهاب إلى هذاالخيار هو من قبيل الضرورة القاهرة. ولتبرير تراجع الحركة عن وعدها برفض أيّ شكل من أشكال التعامل مع هذا الحزب بالذاتوُصفت المواقف السابقةُ بأنها«خطاب انتخابي»، بل وتذرّع راشد الغنوشي رئيسُ الحركة بمقولة غير دقيقة ليؤكد أن«الأغبياء وحدهم هم الذين لا يتغيّرون».
لا تتجاوز هذه التبريرات كلها إطار القاعدة الميكيافيلية «الغاية تبرّر الوسيلة»، مع أن الغاية أيضا تبدو هنا بوجهين مختلفين، ففي حين يبرّر قادة النهضة تراجعهم عن الوعود الانتخابية بالحرص على المصلحة الوطنية العليا وتفادي أي انسداد سياسي في الأفق، يتحدّث معارضوهم عن أن الغاية الأكثر أهمية لديهم الآن هي تمكينُ رئيس الحركة من رئاسة مجلس نواب الشعب بأيّ ثمن. ورغم اعتماد عبد الكريم الهاروني عبارة «الشراكة» في وصف التكتيك السياسي الذي شهدته جلسة البرلمان الأولى فإن الوضع يبدو مرشحا لتبادل المزيد من التنازلات بين «النهضة» و«قلب تونس» ورمي الالتزامات السابقة في سلّة المهملات.
يرتكز موقف التيار الديمقراطي على مسألة الجدية في مكافحة الفساد لتجاوز الشعارات الفضفاضة وتخطّي مرحلة «إعلان النوايا»، فيما ترى حركة الشعب أن البرنامج الذي اقترحته النهضة لا يختلف عن البرامج التي وُضعت في السابق ولم تنجح في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بما يجعل التمشي الحالي منذرا بالفشل. وهذان الموقفان يتكاملان رغم الاختلاف في مسألة تشكيل الحكومة. لكن ردود الفعل من جانب النهضة لا تناقش وجاهة هذه المطالب بقدر ما تتحدّث عن مدى أحقية هذين الحزبين في المطالبة والاشتراط بالنظر إلى حجمهما النيابي، وهو ما يؤكد أن هذا الحزب ليس بصدد البحث عن شركاء بل يعمل على تشكيل ترويكا جديدة لا تختلف في تركيبتها عن الترويكا السابقة، ولئن كان وجود «ائتلاف الكرامة» داخل هذه التركيبة الثلاثية أمرا طبيعا بالنظر إلى علاقته بالنهضة فكرا وتصورا فإن وجود «قلب تونس» هو الذي يطرح أكثر من سؤال.
الحيرة مردّها أساسا التلويح بأن هذا الالتقاء بين «قلب تونس» و«النهضة» هو امتداد طبيعي لتجربة الحكم التوافقي التي جمعت النهضة بنداء تونس طيلة السنوات الخمس الماضية، وهو موقف ينطوي على شيء من التضليل. فنبيل القروي الطرفُ المقابل لراشد الغنوشي في هذا التوافق الجديد لا يشبه في شيء الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي مؤسّس حزب «نداء تونس»، كما أن ظروف تأسيس حزبه مختلفة جذريا في سياقاتها وأهدافها عن ظروف تأسيس النداء. ولا يتعلّق الأمر هنا بإعادة التوازن إلى المشهد السياسي بين خصمين إيديولوجيين، بل هو تقاطع ظرفي للمصالح بين الحزب الأقوى في البرلمان مع الحزب الثاني الذي لا يمتلك هامشا كبيرا للمناورة في ظلّ الوضع القضائي لرئيسه والقضايا المتعلقة به والتي تحدّد له إطارا ضيقا يمكنه أن يتحرك داخله. كما أن وضع النهضة في هذه المرحلة يختلف كليا عن وضعها سابقا بشهادة الغنوشي ذاته في مقال له بعنوان «الانتخابات التشريعية والتغيير المسؤول» اعتبر فيه أن تحالف حزبه مع النداء كان درءا للفتنة، ووعد بتشكيل ائتلاف مختلف يلتزم بمقاومة الفقر وتنمية الشباب وتعزيز علاقات تونس ومواصلة البناء الديمقراطي، وأنه «في غياب ذلك لن يكون حزبه طرفا في حكم يعمق أزمة القيم ويُغذي النقمة على السياسيين ويؤدي الى مزيد تفقير البلاد». لكن لتبرير التناقض الواضح بين مرارة الواقع وحلاوة الوعود لم يلجأ الغنوشي كما كان يفعل سابقا إلى فقعه المصالح والضرورات إنما حرّف مثلا فرنسيا استخدمه مرة جاك شيراك في كلمة له ومنطوقه الأصلي «الأغبياء وحدهم لا يغيرون آراءهم»، والاختلاف شاسع بين تغيير الرأي والتنازل عن المبدأ!
هكذاإذن تُعمّق النزعةُالميكيافيلية في إدارة المؤسسات الديمقراطية أزمة الثقة القائمة بدل إذابتها، تلك الأزمة عبّر عنها بوضوح التباينُ الشاسعُ بين عدد الناخبين في الاستحقاقين التشريعي والرئاسي، إذ أثبت الإقبال القياسي على صناديق الاقتراع لا سيّما من قبل الشباب في الانتخابات الرئاسية الانطباعَ السائد بأن الأحزاب لم تعد تحظى بثقة الجمهور لأنها تتعامل مع أدوات الحكم بمنطق الغنيمة، من ثمّة كان الخطاب الأخلاقي الذي شقّ به قيس سعيّد الصفوف في اتجاه قصر قرطاج وسيلة ناجعة لاستعادة الناخبين وتحريك البحيرة الراكدة لضخّقليل من الأمل ولو مؤقتا،وهو السبب ذاته الذي يدفع الآن أصحاب المطالب الاجتماعية العالقة إلى التدفق نحو القصر الرئاسي الذي يبدو لهم نقطة الضوء الوحيدة في آخر النفق الطويل.
عامر بوعزة
- اكتب تعليق
- تعليق