ميراث النّساء ووهم قطعيّة الدّلالة بإشراف نائلة السّلّيني
مافتئت مسألة المساواة في الإرث، منذ أن تجدّدت إثارتها في السّنوات الأخيرة، تولّد كثيرا من الجدل وتُسيل جداول من الحبر، وقد تباينت فيها الآراء والمذاهب بين مساند يحتجّ بضرورة تغيّر الأحكام الشّرعيّة بتغيّر الأعصر والأزمان وتطوّرها بتطوّر المجتمعات البشريّة ومُعارض يعتصم بقداسة تلك الأحكام وقطعيّة دلالتها وعدم جواز تأويلها أو تبديلها.
والملاحظ أنّ ذاك الجدل اتّخذ في أحيان كثيرة صبغة المنافرات الإيديولوجيّة والمذهبيّة والمشاحنات الحزبيّة والسّياسيّة وقلّما ارتكن إلى النّظر العلميّ الحصيف واستند إلى البحث الهادئ الرّصين.
ولعلّ من أهمّ ما نُشر في معالجة قضيّة المساواة في الإرث من وجهة نظر علميّة وموضوعيّة منزّهة عن تجاذبات السّياسة والإيديولوجيا الكتاب الذّي صدر مؤخّرا عن دار الجنوب للنّشر ويحمل عنوان «ميراث النّساء ووهم قطعيّة الدّلالة» الذّي اشترك في تأليفه ثلاثة جامعيّين هم الأساتذة المنجي الأسود وفريد بن بلقاسم وعبد الباسط قمّودي وأشرفت عليه وقدّمت له الأستاذة نائلة السّلّيني.
أمّا مقّدمته التّي حملت عنوان «تحسين وضع المرأة مشروط بإعادة النّظر في المواريث» فانعقدت على بيان أنّ اجتهادات الفقهاء القدامى كانت تكريسا للطّبقيّة الاجتماعيّة وللعنف المشروع الذّي ظلّت تعاني منه المرأة، وأنّ قراءة الأوّلين للنّصّ القرآني باعدت بين المؤمن والنّصّ فصار يتعبّد بنصوص ثقافيّة أنتجها البشر لا بالنّصّ المقدّس الذّي حُجب عبر العصور بسبب القراءات المتهافتة.
وأمّا أبواب الكتاب الثّلاثة فنظرت في قضايا تشترك في محاولة الإجابة عن حقيقة المرجعيّة النّصيّة التّي ولّدت الحكم وفي البحث عمّا إذا كان المفسّر في استنباطه للأحكام ملتزما فعلا بالنّصّ القرآنيّ.
وعلى هذا النّحو اهتمّ الفصل الأوّل لعبد الباسط قمّودي الموسوم بـ«آيات الميراث في النّصّ القرآنيّ بين حقيقة العموم ووهم قطعيّة الدّلالة» بمعالجة مسألة قطعيّة الدّلالة في آيات المواريث فبيّن أنّ النّصّ القرآنيّ في تلك الآيات أبقى المجال مفتوحا للتّفسير والتّأويل ولم يُدقّق ولم يُفصّل وترك الأمر على عمومه لأنّ لكلّ زمان خصائصه ولكلّ حال دوافعه وعلى الإنسان أن يُقلّب الأمر بعقله محقّقا وظيفة الاستخلاف فعليّا، ومن ثَمّ فإنّ غلبة التّعميم على هذه الآيات يُقيم الدّليل على أنّها لم تكن قطعيّة الدّلالة.
ونظر فريد بن بلقاسم في الفصل الثّاني الذّي حمل عنوان: «في علم الفرائض: دراسة تحليليّة نقديّة» في التّطوّر التّاريخي الذّي عرفه مشغل المواريث في الفقه الإسلاميّ ووصولا إلى نشأة علم مخصوص هو علم الفرائض، وانتهى إلى أنّ أحكام الفقهاء في هذا الباب ليست إلّا اجتهادا بشريّا في نطاق ما سمحت به أطر تاريخيّة ومعرفيّة معيّنة، وليس ما أنتجه الفقه الإسلاميّ وعلم الفرائض في المواريث، وإن أُلبس لبوس القداسة، سوى نصّ ثقافيّ نابع من مجهود بشريّ محايث للواقع الاجتماعيّ والتّاريخيّ، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يكتسي صبغة متعالية على حدود زمانه وبيئته.
أمّا الفصل الأخير الذّي أنجزه المنجي الأسود وجعل عنوانه «المواريث في قوانين الأحوال الشّخصيّة» فقد بحث في الكيفيّة التّي حضرت بها أحكام المواريث في قوانين الأحوال الشّخصيّة العربيّة والإسلاميّة من خلال نماذج، وخلص من استقراء تلك النّماذج إلى الوقوف على الأرضيّة المعرفيّة والإيديولوجيّة التّي قامت عليها أحكام المواريث، وإلى بيان حجج الأصوات المنادية بالمساواة بين المرأة والرّجل، وحجج الأصوات المعارضة لذلك موضّحا أنّ الدّعوة إلى المساواة هي من صميم الاستجابة إلى مقصد النّصّ باعتبار أنّ التّمييز في الميراث كان على أساس الوظيفة الاجتماعيّة ، ولمّا انتفت في الحاضر أسباب التّمييز وجب القول بالمساواة ضرورة.
ورقــــات من كتاب
«أنزلت آيات الميراث لتضبط أمرين لافتين على الأقلّ : حقّ الأنثى في ميراث تستفيد منه مثلها مثل الذّكر ، فكانت المساواة في حدث الوراثة وإن لم تتحقّق المساواة في الحظّ. أمّا الثّاني فهو تقديم أحكام ضبطت مقادير الأنصبة تفاديا لتجاوزها لكن دون أن تقدّم أنموذجا نهائيّا يحيط بكلّ الحالات فجاءت أحكامه عامّة مطلقة. وأمام هذا العموم وتحت وطأة الواقع تحرّك الاجتهاد البشريّ عبر آليّات مختلفة حاولت الاستناد إلى أدلّة فيها أكثر من نظر ليحدّد «العلماء» ما اعتبروه «أحكاما للميراث» في توسّع لافت استدعى بمــرور الوقــت إنشــاء ما سمّي «علم الفرائض».
حاول « العلماء» الإيهام بأنّ ما حدّدوا من أحكام تنطق به آيات الميراث في النّصّ القرآنيّ فزادت الأحكام الفقهيّة بواسطة الأقيسة وسائر آليّات الاستنباط سنّة أو إجماعا أو قياسا على بساطتها أحيانا وسذاجتها أحيانا أخرى، لتتوسّع أعداد المستفيدين من التّركة في الفكر السنّيّ مستندة إلى مفهوم التّعصيب الذّي حدّدته نظم القرابة المتحكّمة في المجتمع آنذاك ونظام العصبيّة النّاتج عن طبيعة المجتمع الذّكوريّ القائم على التّمييز التّفاضليّ بين الذّكور والإناث. لنتساءل بعد ذلك: هل يتعبّد المؤمن بما جاء في النّصّ أو بما فهمه مفسّرو النّصّ؟
ولنتبيّن فظاعة ما قام به هؤلاء «العلماء» من توسيع للمنابات بسبب عموم آليّات الميراث، وتحويل للعبادة من النّصّ إلى ما هو على هامش النّصّ نسوق مثالا من الواقع اليوم فيه أنثى تعرف أعمامها من قريب أو من بعيد وقد لا تعرفهم أصلا وتعرف أبناءهم وقد لا تعرفهم جيّدا إن عرفتهم أصلا. عملت واجتهدت مع والدها في توسيع أملاكه. سهرت ليلا نهارا وبعد أن يتوفّى الوالد يظهر العمّ وأبناء العمّ ليتقاسموا المتروك معها ولا تحوز منه إلّا النّصف. تتقاسمه معهم باسم الدّين والدّين من ذلك براء. فهل هذا عدل؟
كان من العدل أن يحمي العمّ أو ابن العمّ زوجات أصبحن أرامل ببناتهنّ في ظلّ عقليّة العشيرة التّي تغلب عليها عقليّة العصبيّة والدّفاع عن مفهوم العائلة الكبيرة لكنّه لم يعد كذلك اليوم. إنّ مفهوم العدل نسبيّ ويخضع لمؤثّرات كثيرة فما كان عدلا في زمن لم يعد كذلك اليوم.
لقد اعتُبرت أحكام ميراث المرأة التّي نادى بها النّصّ أحكاما ثوريّة مقارنة بما ساد في الجاهليّة ونُسجت حولها أسباب نزول كثيرة لتضفي عليها أَلَقَ الثّوريّة واستغلّت بعض المنابات للتّرويج لفكرة أنّها مثّلت مساواة بين الذّكر والأنثى في ذلك الوقت وأنّ فكرة المساواة التّي يُنادَى بها اليوم ليست جديدة بل هي متـأصّلة في النّصّ القرآنيّ من مثل المساواة بين الأبوين في السّدس من قوله (وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ) (النّساء 4/11) والمساواة بين الأخ والأخت في حال ميراث الكلالة في قوله (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) (النّساء 4/12) والمساواة بين الإخوة إناثا وذكورا إن كانوا أكثر من اثنين في قوله (فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ في الثُّلُثِ) (النّساء 4/12)، بل تمّ الحديث عن أنّه هناك حالات يكون فيها حظّ الأنثى أوفر من حظّ الذّكر في وجه من أوجه ميراث الأبوين مع فقد الوالد الذّي عدّدوا وجوهه خلاف ما في قوله (فإِنَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ووَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) (النّساء 4/11)، إذ ذهب ابـن العبّاس إلى أنّ الزّوج يستحقّ النّصف من ميراث زوجته المتوفّاة ولا يبقى للأب إلّا أقلّ من نصيب الأمّ، وهما من درجة واحدة من القرب، فيكون نصيبه أقلّ منها.
إنّها ثوريّة نسبيّة إن سلّمنا بها نظرا إلى حقيقة مكانة المرأة في النّصّ القرآنيّ فعندما نتعمّق فيه بحثا عن ملامح هذه المكانة نلاحظ أنّه حافظ على النّظرة الجاهليّة الدّونيّة للمرأة رغم محاولته إخراجها من تلك الصّورة كما سوّق له المفسّرون وغيرهم في إطار بيــان أهميّة ما جاء به الدّين الجديد للمرأة المسلمة. هذه حقيقة لا يمكن إغفالها ولا المداراة في التّعبير عنها. ص. 86 -
88
- اكتب تعليق
- تعليق