أخبار - 2019.09.19

عبد الحفيظ الهرڤام: كيف صـاغ المخبر التونسي هذه »المغامرة«؟

عبد الحفيظ الهرڤام: كيف صـاغ المخبر التونسي هذه »المغامرة«؟

عندما أجريت منذ أربعة أشهر تقريبا عملية سبر للآراء حول نوايا التصويت في الانتخابات الرئاسية والتشريعية كشفت عن تصدّر نبيل القروي وقيس سعيّد قائمة المبوّبين لقصر قرطاج كانت مجلّة ليدرز الناطقة بالفرنسية في عددها 97 لشهر جوان, أوّل نشرية أخذت نتائج عملية سبر الآراء هذه مأخذ الجدّ لاستنادها إلى مقاييس علمية وإلى تقصّ ميداني استغرق أشهرا، وتناولت مرتكزاتها بالدرس والتمحيص، فضلا عن تبيين مؤشرات لم تكن خافية  تنذر بوقوع زلزال مدوّ في الساحة السياسية التونسية، وهو ما حدث بالفعل يوم 15 سبتمبر الجاري فأصاب الذهول والدهشة قطاعا واسعا من التونسيين الموالين بالخصوص إلى التيار الحداثي والتقدّمي ممّن خيّبت آمالهم نتائج الاقتراع. ولنا أن نتساءل كيف لم تنتبه الطبقة السياسية آنذاك إلى هذا الزلزال ولم تعمل على استباق ارتداداته في المشهد السياسي؟

لا ننوي التعرّض هنا إلى الأسباب التي أدّت إلى انهيار الأحزاب التقليدية في هذه الانتخابات ولا إلى الدوافع التي جعل التصويت فيها بمثابة العقاب للمنظومة السياسية القائمة منذ أكتوبر 2011 ولعدد من رموزها فتلك مسألة أشبعت في تقديرنا شرحا وتحليلا منذ صدور النتائج الأولية، بل نروم تنزيل هذه الانتخابات في سياق المسار الديمقراطي الوطني والتساؤل عن تأثيراتها المحتملة في مستقبله وفي أوضاع البلاد عموما.

لقد مرّ هذا المسار منذ خريف 2011 بأطوارعدّة جُرّبت خلالها صيغ حكم مختلفة من حكومة الترويكا التي تزعّمتها حركة النهضة إلى حكومة تكنوقراط في سنة 2013 تلتها بعد انتخابات 2014 التشريعية والرئاسية حكومة قامت على «التوافق» بين نداء تونس والنهضة لتعقبها «حكومة وحدة وطنية» إثر اجتماع قرطاج 1، لم يطل بها العهد حتّى قام جدل بشأن تغيير رئيسها يوسف الشاهد من عدمه بعد اجتماع قرطاج 2... تسع حكومات شكّلت خلال الثماني سنوات الأخيرة دون أن تقدر أيّ واحدة منها على تغيير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعيّة المترديّة في البلاد والاستجابة لتطلعات التونسيين ولا سيّما الشباب منهم.. ولا شكّ في أنّ تعثّر الأداء الحكومي والسقوط الأخلاقي لجانب من السياسيين وفشلهم في التعامل بجديّة مع استحقاقات المرحلة كانا من الأسباب الجوهريّة التي أدّت إلى اختيار عدد وافر من الناخبين مرشّحيْن من خارج المنظومة القائمة منذ 2011 للدور الثاني للانتخابات الرئاسية.

يرى كثيرون في هذا الاختيار مغامرة محفوفة بالمخاطر في بلد يشكو من انقسامات حادّة وشروخ اجتماعية عميقة  لكنّه برهن في المقابل على أنّ الديمقراطية الناشئة في تونس تتقدّم بثبات بغضّ النظر عن نتائج الانتخابات.

وفي حقيقة الأمر فإنّ القطع مع المنظومة القائمة (anti système) والنزعة الشعبويّة ظاهرتان ما انفكّتا تنتشران في العالم في السنوات الأخيرة وحتّى في البلدان ذات الديمقراطيات العريقة في أمريكا وأوروبا وهاتان الظاهرتان تناولهما بإسهاب، إلى جوانب ظواهر وممارسات سياسية أخرى، الفرنسي فانسان مارتيني في كتابه القيّم «عودة الأمير» (Le retour du prince).

ولئن تتقاطع التجربة الديمقراطية التونسية في تحوّلاتها خلال السنوات الثماني الأخيرة مع تجارب غربية فيما يخصّ تنامي الشعبوية وبروز وجوه سياسية من خارج منظومة الحكم التقليدية وصعود اليمين المتطرّف فإنّ لها خصوصيات مخاتلة مرتبطة وثيق الارتباط بالبيئة الوطنية قد يعجز أمهر المحلّلين عن إدراك كنهها وفكّ طلاسمها. لذلك نتفهّم حرص دبلوماسيين وملاحظين أجانب، لا سيّما في الآونة الأخيرة، على فهم توجّهات المواطن التونسي إزاء العملية الانتخابية، خاصّة وأنّ التجربة الديمقراطية التونسية تعتبر تجربة متفرّدة في الوطن العربي، حقيقةً بأن يتابع تطوّرُها وأن تسلّط عليها الأضواء في إطار دراسة تجارب الانتقال الديمقراطي في العالم.

وما من شكّ في أنّ من الظواهر اللافتة التي كشفت عنها الانتخابات الأخيرة والتي تثير فضول الباحثين والملاحظين في تونس وخارجها صعود المترشّح المستقلّ قيس سعيّد إلى الدور الثاني. فهذا الأستاذ الجامعي في القانون الدستوري لم يكن وجها سياسيا بارزا إلى أمد قريب وإنّما عرف بالخصوص من خلال ظهوره الإعلامي منذ سنة 2011 مدليا بدلوه  في مسائل قانونية بلغة عربية فصيحة لم يتخلّ عنها أبدا.

لم يقم بحملة انتخابية صاخبة كباقي المترشّحين وقتّر في ظهوره الإعلامي بل آثر بوسائل بسيطة أن يذهب إلى الناس وخاصة الشباب منهم في الأحياء الشعبية وفِي المدن والقرى ليخاطبهم مباشرة، في حين قد يكون مناصروه قد ابتدعوا طريقة غير مألوفة في التعبئة من خلال مجموعة مغلقة عبر الفايسبوك تضمّ آلافا مؤلّفة من الأعضاء.

الآن وقد شاءت إرادة جانب من الناخبين أن تسلك تونس مسلك المغامرة وهي تعاني من هشاشة أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مناخ إقليمي مضطرب وسياق دولي لا يخلو من تقلّبات، تتبادر إلى الذهن أسئلة عدّة: أيّ تأثير للانتخابات الرئاسية في مجرى الانتخابات التشريعية؟ هل ستكرّس من جديد النزعة الى القطع مع منظومة الحكم القائمة؟ وما هو مدى حضور القأئمات الحزبية والمستقلّة في المجلس النيابي القادم؟ وكيف السبيل إلى ترميم ما أصاب البنيان الوطني من شروخ بعد الانتخابات الأخيرة؟

وهل ستقدر الأحزاب المنتمية إلى نفس العائلة السياسية على تجميع صفوفها لخوض المراحل القادمة أم أنّ عقدة تضخّم الذات ستظلّ عائقا أمام ذلك؟

لا أحد بإمكانه الجواب عن هذه الأسئلة، فلننتظر ما سيخرج في قادم الأيام من مخبر الانتقال الديمقراطي التونسي...

عبد الحفيظ الهرڤام

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.