فوزيّة بلحاج المزّي: حضور الثّقافة بالغياب في البرامج الانتخابية
تونس بلد لا يتوفّر على موارد طاقيّة ولكنّه بلد الموارد البشريّة بلا منازع.
بمواردها الفكريّة عبرت تونس إلى مرتبة الاستثناء سياسيّا، حيث الخطوات سارت خطوات على درب مضن لبلوغ الاستحقاق الانتخابي مرّتين، في 2011 وفي 2014، وسط العواصف السّياسيّة الإقليميّة التي تلت الرّبيع العربي.
هذه السّمة التي صفّق لها العالم واحتفت بها المحافل البرلمانيّة والسّياسيّة في أعرق الدّيمقراطيّات، ما كان لها أن تتشكّل لو لم يكن للشّخصيّة التّونسيّة فكر وثقافة مكّناها أن تتوق إلى الحداثة وأن تستقصي مكامن الفكر الإبداعي للأفراد وللمجموعات، في إطار سمته مراعاة الاختلاف وترسيخ لمبدإ الحوار في أبعاده الحضاريّة السّامية بموروثها الضّارب في عمق الألفيّات الثّلاث الماضية.
على عتبة الدّخول إلى الحملة الانتخابيّة أي منذ أسبوعين تقريبا، حاولنا تحسّس جوانب هذه السّمة الفارقة في تركيبة المجتمع التّونسي من خلال تتبّع واستقراء المدوّنة الخطابيّة للحملة على مستويين اثنين. أوّلهما خطاب المترشّحين للرّئاسيّة وثانيهما الخطاب "المواطني" المتقبّل للخطاب السّياسي.
ما يزيد عن الأسبوع والخطب تتتالى والمترشّحون يجوبون المدن والقرى الأرياف. وفي شوارع المدن الكبرى خيام وأعلام وأطف ال وشباب في أبهى الحلل تهلّل وتكبّر كلّ فرقة لشيخ طريقتها.
شعارات رنّانة ووعود بإنجازات وبطولات لا علاقة لها بما يوكل لرئيس الدّولة من مهامّ ومسؤوليّات.
دستوريّا، لن يساءل الرّئيس حول ارتفاع الأسعار ولا حول مقاومة البطالة...
ما يمكن أن يسأل عنه هو كرامة المواطن والحرّيّات العامّة والفرديّة والأمن القومي والهويّة الوطنيّة.
وهي كلّها مصطلحات تدور في رحى المسألة الثّقافيّة والفكر المدبّر للموارد البشريّة الوطنيّة التي يراهن عليها المشغل الحداثي درعا تتكسّر على أطرافه الهجمات المادّيّة والمعنويّة ضدّ الوطن وضدّ ثقافته وكرامته وأمنه.
بماذا رشح الخطاب "الدّعوي" (بالمعنى السّياسي) للانتخابات؟
ثلاثة مترشّحين ذكروا الشّأن الثّقافي في حملاتهم الانتخابية عبيد البريكي ومحسن مرزوق وعبد الكريم الزّبيدي.
في حوار لإحدى القنوات الإذاعيّة، سئل عبيد البريكي عن نواياه في الشّأن الثّقافي الوطني فأشار إلى أنّ للثّقافة في نظره أهمّيّة قصوى وبيّن أنّه في حالة انتخابه رئيسا للجمهوريّة، سيخصّ التّربية بمكانة هامّة. إذن فهو يعتبر أنّ جوهر الثّقافة هو التّربية.
أمّا محسن مرزوق، فقد أكّد في حوار تلفزي، أنّه سيعيّن سفراء للثّقافة التّونسيّة في الخارج لينشروا المادّة الثّقافيّة الوطنيّة ويسوّقوا لها. وذكر أيضا أنّه لمّا اشتغل مع الرّئيس الباجي قائد السّبسي في رئاسة الجمهوريّة، كان يفكّر في استغلال قاعة المسرح التي خصّ بها الرّئيس بورقيبة قصر قرطاج والتي أصبحت في عهد الرّئيس منصف المرزوقي مخزنا للأرشيف.
لقد أتيحت لي زيارة مسرح قصر قرطاج بمناسبة حديث أجريته للرّئيس منصف المرزوقي في 2012، وكانت في القصر أشغال حثيثة تعدّ لجمع أرشيف الرّئيس الرّاحل بورقيبة وتحويله للمتحف الذي خصّص له في المنستير ولم تكن تلك الأشغال تشمل فضاء القاعة التي كانت تمثّل بالفعل تحفة هندسيّة أهملها الرّئيس بن علي كما أهمل غيرها من المنجزات الخاصّة بقصر قرطاج.
واختار عبد الكريم الزّبيدي، من ناحيته أن يلتقي ببعض المبدعين والفنّانين، في فضاء ثقافي خاصّ، ليتجاذب معهم حول المسألة الثّقافيّة وليعدهم بحوارات ولقاءات تشاركيّة، إذا ما كتب له أن ينتخب رئيسا للجمهوريّة.
وفي هذه العيّنات الثّلاث من مقاربة الشّأن الثّقافي في خطاب المترشّحين للرّئاسيّات، استثارة للنّظرة المستبعدة للثّقافة كعامل محدّد لملامح رئيس الجمهوريّة الذي يتصوّره التّونسيّون.
في أحيان قليلة شاهدنا لقاءات عابرة بين المترشّحين والمواطنين. وفيها لم يتعرّض لا هذا ولا ذاك للثّقافة.
ما ذكر انحصر في ارتفاع الأسعار والبطالة والفساد والإخلال بالوعود. وهذا المأخذ الأخير في حدّ ذاته حالة ثقافيّة فيها تيقّظ للأخلاقيّات السّياسيّة ولأعرافها ومبادئها. وفيها أيضا وعي بمكسب حرّيّة التّعبير والدّيمقراطيّة وتمسّك بها. إلاّ أنّ السّؤال يبقى قائما حول مدى هذا التّيقّظ وهذا الوعي في الدّربة التي يستوجبانها من المواطن ولكن أيضا من الإعلامي والمربّي والوليّ والمسؤول.
لقد كان في المناظرات التي نظّمت لفائدة المترشّحين مشهد يجسّد ضعف الحسّ الثّقافي وضحالته لدى كلّ من طرفي المناظرة، بدءا باستعمال مصطلح المناظرة في عمليّة لا علاقة لها بها لغويّا ولا إجرائيّا.
وعلى مستوى المحاور المطروحة والمؤطّرة لمختلف الأسئلة فإنّ الثّقافة كانت حاضرة بغيابها غيابا مفزعا لا حرمة فيه للّغة ولمكانتها الدّستوريّة ولا تصوّر فيها لمخرج من الأزمة التي تمرّ بها القيم والمرجعيّات الفكريّة الوطنيّة، تربية واقتصادا ومجتمعا وسياسة، تلعب فيه الثّقافة دور القاطرة الدّافعة والمحرّكة.
ألم يكن بإمكان أيّ مترشّح أن يتدارك هذا الغياب بمقترح يضعه صلب مهامّ الرّئيس المقبل؟
توفير الشغل للعاطلين عن العمل والحدّ من التهاب الأسعار وتدهور القدرة الشرائية للمواطن ومقاومة الفساد لهي من جوهر مهام الخبراء وتؤمن على معالجتها الحكومات أمّا صياغة الرؤية الثقافية فهي من صميم صلاحيات رئيس الجمهورية ووظيفته وليست حكرا على الحكومة.
لسيادة الرّئيس القادم سديد النّظر.
فوزيّة بلحاج المزّي
- اكتب تعليق
- تعليق