رشيد خشانة: قائد السبـسي البورڤيبـي المتمّــرد
ثلاث فترات غاب خلالها الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي عن الساحة السياسية، مغضوبا عليه، ثمّ مرفوتا من الحزب الاشتراكي الدستوري، وهي فترات يضعها هو بين قوسين، لكنّها كانت من أخصب المراحل في حياته، مُحاميا ومُعارضا وكاتبا في صحيفتي «الرأي» و«Démocratie».
على مدى السنوات الثماني التي أمضاها الباجي قائد السبسي في سدّة الحكم وفي ردهاته، بعد 2011، لم يعرف الناس خلالها سوى رجل الدولة، الذي قاد الحكومة باقتدار لأشهر قليلة، ثمّ زعيم الحزب الذي أحدث التوازن في المشهد السياسي، وأخيرا رئيس الجمهورية، الذي أعاد للدولة هيبتها. قبل ذلك تخللت المسار السياسي للرجل فترات صعود وهبوط، ربما يعرف الناس منها المناصب التي تقلّدها (الداخلية، الدفـاع، الخارجية)، لكنّهـم لا يعرفون ماذا كان يفعل في الفترات التي يتوارى فيها عن الأنظار، أو يُفرض عليه قدرٌ من الاعتزال، يتحمله عن مضض.
كان الخروج الأول بمناسبة مؤتمر الحزب الدستوري، المعروف بمؤتمر المنستير1 سنة 1971، فبعد 15 سنة من العمل في مناصب مختلفة، آخرها وزارة الدفاع، وجد الباجي نفسه في مواجهة مع أستاذه الحبيب بورقيبة، رئيس الحزب، وفي تحالف موضوعي مع الجناح الإصلاحي الذي كان من رموزه أحمد المستيري وصديقه حسيب بن عمار والصادق بن جمعة وراضية الحداد والحبيب بولعراس. وقبل أن يُغادر آخر منصب شغله، وهو سفير تونس بباريس 1971 - 1972، كتب الباجي «توضيحا» نشرته صحيفة «لوموند» في 12 جانفي 1972 شرح فيه الضرورة الملحّة لإجراء إصلاح ديمقراطي في تونس. وفي مذكّراته المُعنونة بـ»الحبيب بورقيبة: المهمّ والأهمّ» (2011)، حمَل مسؤولية إجهاض محاولة الدمقرطة الغضة إلى الجناح المتشدّد في الحزب والدولة، بقيادة الهادي نويرة وعبد الله فرحات. وفعلا، لم يستجب بورقيبة لدعوات الإصلاحيين المطالبين بأن يكون أعضاء الديوان السياسي منتخبين من اللجنة المركزية، وأصرَ على أن يكونوا مُعينين من رئيس الحزب. وعلى الرغم من أنّ الباجي استثمر علاقة الثقة بينه وبين بورقيبة، فكتب له رسالة شرح فيها موقفه من الأزمة التي هزت الحزب، وألقت بتداعياتها على الحكومة، لم يستمع الرئيس إلى نصائحه، إذ استبعد من التشكيلة الحكومية الجديدة جميع الوزراء الإصلاحيين.
رفت المجموعة الإصلاحية
مع تشكُل مجموعة «متمّردة» ستُطلق على نفسها لاحقا اسم «حركة الديمقراطيين الاشتراكيين»، برز الباجي في الصفّ الأول للتيار. لكنّه كان على خلاف مع بعض زملائه، إذ لم يكن يرى إمكانات جدية للاصلاح إلا من داخل المنظومة. مع ذلك، أفتى المشاركون في مؤتمر المنستير2 سنة 1974 برفت المجموعة الإصلاحية من الحزب، وكان الباجي أحدهم، وهو القرار الذي تراجع عنه المؤتمر الموالي في 1979. لكن الجماعة انقسمت إلى تيارين، مثلما أسلفنا، الأوّل بزعامة أحمد المستيري، نفض يديه من إصلاح الحزب الدستوري وأسّس حزب «حركة الديمقراطيين الاشتراكيين»، والثاني بقيادة الباجي ظلّ يعتقد أن الإصلاح لا يكون مُتاحا إلا من داخل أجهزة الدولة.
لم تحُل تلك الخلافات دون محاولة الجماعة تفكيك الأزمة السياسية والاجتماعية، التي تفاقمت بين الحكومة وقيادة اتحاد الشغل، إذ تدخّل أقطاب المجموعة بالحسنى بين الحكومة والقيادة النقابية، لتفادي الإضراب العام المُقرّر لـ 26 جانفي 1978. وتألّف الوفد من المستيري والباجي وحسيب بن عمار، وقد زاروا كلّا من الهادي نويرة والحبيب عاشور، في مسعى وسـاطة أخير، لكن بلا جدوى.
وفي هذه الفترة أمضى الباجي معظم وقته في الكتابة الصحفية، باللغة العربية في صحيفة «الرأي» وبالفرنسية في «ديموكراسي»، التي كان هو، عمليا، المشرف السياسي عليها. وتميَز بأسلوبه النقدي اللاذع للحكومة وتحذيراته لبورقيبة، المبطّنة حينا والمباشرة أحيانا أخرى، بأنّه سيلقى نهاية مأساوية، إن لم يُصلح أوضاع الحزب والدولة. ففي أعقاب الانقلاب الذي نفّذه العسكريون للإطاحة برئيس ليبيريا ويليام تولبير William Richard Tolbert في 12 أفريل 1980 كتب الباجي افتتاحية «الرأي» بادئا إياها بهذه الجملة «استولى السارجان شاف صمويل دو Samuel Do على الحكم في ليبيريا وقتل الرئيس ويليام تولبير». وأشــــار البــــاجي إلى أنّ تولبير، رئيـــس الحــــزب الواحـــد في البلاد، ظلّ يـــرفــــض إصلاح النظام السياسي، حتّى أطاح به العســـكـــر (بالمناسبة قُتـــل صمــــويل دو، بـــدوره، في انقـلاب آخــر يوم 9 سبتمبر 1990).
كاتب سياسي
باستعراض افتتاحيات الباجي في «الرأي» و»ديموكراسي»، نلحظ أنّه مولع بهذا النوع من المقارنات، إذ سبق أن خاطب بورقيبة بهذا الأسلوب، عندما أطاح العسكر بالرئيس الموريتاني الأوّل مختار ولد دادة، في 10 جويلية 1978، قائلا لبورقيبة في افتتاحية العدد الرابع من «ديموكراسي»، ما معناه «عليك أن تعرف متى ينبغي لك أن تُغادر، وإلا فسيكون مصيرك مثل هؤلاء». ويظهر ذلك من العنوان الساخر للافتتاحية، المُقتبس من المثل الفرنسي: «لا يحدث هذا إلا للآخرين» Cela n’arrive qu’aux autres يجوز القول إنّ هذه الحقبة في حياة الباجي، التي استمّرت على مدى تسع سنوات، كانت الأكثر خصوبة بالكتابات السياسية، فقد ساعدته على تجويد قلمه، والتعمّق في تحليل القضايا الوطنية والعالمية، ومنها نقد الجناح المتصلّب في الحزب الحاكم والتفاعل مع ما كانت تكتبه الصحافة الدولية عن أوضاع الحريات في تونس، إضافة لإبداء رأيه في مسائل إقليمية مثل قضيّة الصحراء الغربية.
أتت عملية قفصة في مفتتح الثمانينات، وقد نفذّتها عناصر قدموا من ليبيا، لتخلط الأوراق وتكون منطلقا لتعدّد المسارات المتوازية، ومنها عودة القياديين المرفوتين من الحزب الحاكم إلى الحبيب الأوّل، وتقلُد الكثير منهم مناصب برلمانية أو حكومية، أمثال الباجي والصادق بن جمعة والحبيب بولعراس، ومنها أيضا استمرار جماعة الديمقراطيين الاشتراكيين في المطالبة بالترخيص لحزبهم، وهو الترخيص الذي تحصّلوا عليه أخيرا في 1983. ويعترف الباجي في كتابه/ مُذكّراته، أنّ قبوله بالعودة إلى الحكومة طرح كثيرا من التساؤلات في صفوف الحزب وخارجه. ويقول عن تلك الفترة الدقيقة: «أثارت مشاركتي في الحكومة تساؤلات في أوساط المعارضة والمناضلين الذين طردوا من الحزب بعد مؤتمر المنستير، وبالخصوص لأنّني كنت أسهمت علانية بالكتابة في صحيفتي المعارضة الجديدتين اللتين شهدتا إقبالا واسعا عليهما». وعلّق على موقف منتقديه بقوله «كان الليبراليون (يقصد الإصلاحيين) دستوريين مقتنعين بقيادة بورقيبة، ويسعون إلى تقويم النظام بالعمل من داخل الحزب نفسه. ولئن كانت لهم تحفّظات ونقدٌ فإنّهم لم يكونوا يطالبون في مرحلة أولى بأكثر من إرساء الديمقراطية داخل الحزب».
شراء الشرعية
كان الخروج الثاني من الحكم بعد إقالته من الخارجية في 1986 وتسميته سفيرا في ألمانيا لمدّة سنة واحدة، اضطرّ بعدها إلى «عبور الصحراء» مُجدّدا، إلى أن أتت انتخابات 1989 السابقة لأوانها، فأعادته إلى البرلمان نائبا، بعدما كان غادره في مطالع السبعينات. ولما كان بن علي يسعى إلى إحاطة نظامه بالمصداقية والشرعية، عمد إلى ضمّ بعض الشخصيات الوازنة إلى الحكومة والبرلمان، لإقناع التونسيين بأنه سائر على خطى بورقيبة. ربما كان هذا الخروج الثاني من مربع السلطة الأقل وطأة على الباجي، لأنّه لم يدم طويلا، ولأنّ الكثير من زملائه ومُجايليه كانوا لا يزالون داخل المنظومة. وقد اختاره بن علي في البداية لرئاسة لجنة الشؤون الخارجية، ثم لرئاسة المجلس، لكن هذا التقارب لم يستمر سوى دورة واحدة.
أمّا الخروج الثالث للباجي من الحكم فقد أفضى به إلى صحراء قاحلة، ظلّ يعبُرُها على مدى واحد وعشرين عاما. لكنّه لم يهجع ولم يكلَ رغم تقدّمه في السن. وشارك في هذه الفترة في بعض نشاطات المجتمع المدني، ومنها إحياء الهيئة الوطنية للمحامين الذكرى العشرين للغارة الصهيونية على حمام الشط (2005)، في نادي المحامين بسكرة، حيث قدّم شهادة عن تلك الغارة وتداعياتها الإقليمية. كما أدلى بشهادة في مؤسّسة التميمي بزغوان، في إطار استضافة المؤسّسة لوزراء بورقيبة، من أجل تقديم شهاداتهم عن الحقبة التي تقلّدوا خلالها مسؤوليات عليا في الدولة. وحاضر الباجي أيضا عن بورقيبة في نادي «بُشرى الخير»، وهي المحاضرة التي طوّرها إلى كتاب، بالإضافة لمداخلات وأوراق شارك بها في مؤتمرات بأوروبا، وهي ماتزال مبثوثة في منشورات تلك المراكز والمؤسّسات الأجنبية.
في المُحصّلة، تقلد الباجي العديد من المسؤوليات البارزة في الدولة، وكان على امتداد مساره السياسي الخصيب، ليس فقط شاهدا بل أيضا مشاركا في اتخاذ القرار، بما في ذلك خلال المنعطفات التاريخية مثل الأزمة التعاضدية ومؤتمر المنستير الأول، والخلافات الكبيرة مع ليبيا القذافي في ثمانينات القرن الماضي. وقد ظلّ دوما بورقيبيا، لكنه بورقيبيٌ متمردٌ، يتمتع بتفكير مستقل وبنزعة ناقدة لا تسلك المعابر السهلة. غير أن ما يسترعي الانتباه في سيرة الرجل المكتوبة، أنه لم يتحدث عن فترة «التمّرد» على بورقيبة، حين كان يكتب نقدا لاذعا في «الرأي» و»ديموكراسي»، بل إنه أحجم حتى عن ذكر اسم هاتين الصحيفتين في كتابه، مُكتفيا بهذه الجملة «كنت أسهمت علانية بالكتابة في صحيفتي المعارضة الجديدتين، اللتين شهدتا إقبالا واسعا عليهما». فما هو السرّ وراء ذلك الإغفال يا تُرى؟.
رشيد خشانة
- اكتب تعليق
- تعليق