أخبار - 2019.09.06

الأزهر القروي الشابي: الباجي قائد السبسي, مواقف وذكريات

الأزهر القروي الشابي: الباجي قائد السبسي مواقف وذكريات

يقول ابن دريد(1) في قصيدته «المقصورة« في الحكم  والأخلاق الكريمة:

إنّما المــــرء حديث بعـده     ***     فكـن حديثا حسنا لمن وعـــى

وهكذا كان الرئيس الجليل الأستاذ محمد الباجي قائد السبسي حديثا حسنا على شفاه كلّ المواطنين الذين كانوا بالآلاف في تشييع جثمانه الطاهر إلى مثواه الأخير.

هؤلاء المواطنون الأوفياء نساء ورجالا، شيوخا وشبابا وأطفالا الذين قهروا درجة الحرارة التي كان عليها طقس ذلك اليوم المشهود، اصطفوا على جانبي الطريق الذي سلكه الركب من قرطاج إلى مقبرة الزلاج رافعين الأعلام الوطنية مرسلين دعاء بالرحمة لرئيسهم ممزوجا بالغصّة والبكاء والتكبير كلّما مرّ الركب من أمامهم. في هذا المظهر العظيم الموحّد الخاشع تجلّت رغبات الفقيد العزيز الذي كان يسعى إليها دائما وهي توحيد كلّ طبقات الشعب إيمانا منه أنّ تقدّم البلاد ورقيها وازدهارها لايتأتىّ من الفرقة والتشتّت وإنّما من الألفة والوحدة، ولذلك كان في كثير من الأحيان أثناء خطبه يستشهد بالآية الكريمة القائلة «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا»... (الآية ...).

وفاة سيادة الرئيس يوم 25 جويلية 2019 وافق يوم الإعلان عن تغيير الحكم من نظام ملكي إلى نظام جمهوري الحكم فيه بيد الشعب، قد وحّدت الشعب التونسي وأظهرت وفاءه لرئيسه جزاء عمّا قدّمه له من عمل طيلة اضطلاعه بمسؤولياته رغم محدوديتها الدستورية.

كان الهدف المتأكّد للرئيس محمد الباجي قائد السبسي هو تامين المسار الديمقراطي والوصول بالبلاد إلى مصافّ الدول الراقية التي تحترم القانون وتطبقّه دون ظلم أو حيف، ذات الاقتصاد المزدهر الذي يطيب في ظلّه العيش لمواطنيها مع حرية مسؤولة نابعة من احترام تامّ متبادل بين الدولة والمواطنين.

ولتحقيق هذا الغرض السامي كان يكمل سلطاته الدستورية المحدودة بسلطته الأدبية إلّا أنّ الواقع المتقلبّ في كثير من الأحيان قد عطّل تحقيق بعض الأهداف التي كان يعمل على الوصول إليها وفي مقدّمتها تشغيل الشباب العاطل والقضاء على التفرقة بين الجهات وغيرها من متطلّبات الحياة الكريمة.

كانت عزيمته قويّة ونيّته صادقة في الوصول بالبلاد إلى ما كان يتمنّى أن يحقّقه لها ولكن عدّة عناصر حالت دون ذلك ولعلّ من أهمّها انهيار الاقتصاد واختلاف المشارب السياسية لدى بعض السياسيين وكثرة الإعتصامات والإضرابات وتعطيل  نشاط أهمّ شرايين الاقتصاد التونسي المتواضع من أساسه ورغم ذلك فإنّ هذا الوضع المتردّي لم يثنه عمّا كان يمليه عليه ضميره من محاولة التجميع لمختلف الفرقاء وهو ما جسّمه في وثيقتي قرطاج 1 وقرطاج 2. غير أنّ الظروف التي أحاطت بهاتين الوثيقتين وعمل البعض على التنقيص من قيمتها وحتّى على إجهاضها قد عطّلا الوصول إلى الهدف المنشود.

ورغم ذلك فإنّ الفقيد رحمه الله لم ينفك يعمل على تحقيق الوفاق لضمان استقرار البلاد وتثبيت أمنها الذي ما يزال محاطا بالمخاطر.

وما بالعهد من قدم ومحافظة من جنابه على هذه السياسة التوافقية التقيته ذات يوم بمكتبه حسبما جرت عليه طريقة العمل  وقد كان على غير عادته إذ انطفأت الابتسامة من على شفتيه وقد كان يومها شاحب الوجه يبدو عليه القلق فسألت سيادته عن صحّته فأحابني بمرارة « ما دام تونس موش لاباس أنا مانيش لاباس»، وأخذ في استعراض الوضع الاقتصادي المتردّي والذي  انعكس سلبا على حياة المواطنين.

تحدّث عن انهيار الدينار وعن انخرام الميزان التجاري وعن ارتفاع أسعار المواد الأساسية لحياة المواطن وأيضا عن وضع القطاع الصحّي وعن المديونية المرتفعة وعدّة أمور أخرى يراها معطّلة للنموّ وحائلة دون تحقيق المرغوب، وأكّد لي أنّه عازم بعد عودته من المملكة العربية السعودية لحضور الاجتماع الطارئ للقمة العربية والاجتماع العادي للقمّة الإسلامية على عقد لقاء موسّع يستدعي إليه كلّ الأحزاب الممثلّة في مجلس نواب الشعب وكلّ المنظمات الوطنية وبعض الشخصيات السياسية والمجتمع المدني وسوف يستدعي أيضا لهذا الاجتماع كلّا من رئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة وسيشرح أمام هؤلاء الوضع الذي أصبحت عليه البلاد ويعرض عليهم بعض المقترحات المتأكّدة والتي تتماشى مع المدّة القصيرة المتبقية من العهدتين الرئاسية والتشريعية وأشار إلى أنّه يرى أنّ هذا الاجتماع لو يصل إلى إيجاد حلّ لغلوّ الأسعار وتحسين وضع  القطاع الصحي لضمان سلامة وصحّة  المواطن والتقليص من متاعبه  اليومية فإنّ هذا سيكون إنجازا  هامّا وإن كان بسيطا، وعلى كلّ فإنه سيبلور المقترحات النهائية بعد الرجوع من سفره، إلّا أن مشيئة المولى سبحانه وتعالى حالت دون ذلك. رحم الله سيادة الرئيس رحمة واسعة وأسكنه فراديس جنانه.

إنّ علاقتي بسي الباجي علاقة حميمة بدأت في رحاب الدفاع ثمّ التقينا في الحكومة الأولى بعد ثورة 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 ثمّ في نداء تونس وختمت في قصر قرطاج وسوف أتحدّث بكل اختصار عن الأستاذ الباجي المحامي (أولّا) وسي الباجي الوزير الأول (ثانيا) وسي الباجي السياسي باعث حزب نداء تونس (ثالثا) وسي الباجي رئيس الجمهورية (رابعا).

أولّا: الأستاذ الباجي قائد السبسي رجل الدفاع

انتسب الأستاذ الباجي للمحاماة يوم 3 أكتوبر 1952وهو اليوم الذي أدّى فيه اليمين ودخل للمهنة كمحام متربّص أي متمرّن مثلما يسمّى اليوم وباشر مهنته بصفته تلك بمكتب الأستاذ فتحي زهير (2) إلّا أنّ هذا الأخير ألقي عليه القبض من السلط الاستعمارية آنئذ واقتيد إلى المحتشد وبذلك أصبح الأستاذ الباجي قائد السبسي متحمّلا لمسؤولية المكتب بانفراده يباشر الدفاع في القضايا العادية الراجعة للأستاذ فتحي زهير ويتولّى أيضا المرافعات في القضايا الوطنيين الموقوفين والمحالين على القضاء الفرنسي بنوعيه العسكري والمدني المنتصب في البلاد التونسية منذ سنة 1883.

ولئن سبّب له هذا الوضع عناء كبيرا إلّا أنّه أكسبه شهرة ميّزته عن كثير من زملائه خصوصا لمّا استطاع بمرافعته تبرئة الزعيم النقابي المرحوم أحمد التليلي.

ولمّا جاء الاستقلال، تغيّب الأستاذ الباجي عن المحاماة للاضطلاع بمهام إدارية ووزارية واستمرّ على ذلك سنوات عديدة إلى أن دبّ خلاف بينه وبين الزعيم الحبيب بورقيبة رحمه الله من أجل اختلاف نظرة كلّ واحد منهما لطريقة الحكم وارتباطه بالحرية  والديمقراطية. ولم يكن الراحل الباجي قائد السبسي وحده في هذا الاتجاه بل كان إلى جانبه الأستاذ أحمد المستيري وحسيب بن عمار وغيرهما ممّن كانوا يؤمنون بوجوب إدخال جرعة من الحرية على نظام الحكم البورقيبي.

ونتيجة للخلاف المذكور غادر المرحوم الباجي قائد السبسي السلطة ورجع إلى مهنته الأصلية مهنة المحاماة التي وجد ذراعيها مفتوحة فاحتضنته من جديد وهذا من شيم هذه المهنة النبيلة الشريفة.
لماّ رجع إلى المهنة في بداية الثمانينات كنت آنئذ عميدا للمحامين إذ شرّفني زملائي بانتخابي لهذه المهمّة لدورتين متتاليتين من شهر جويلية 1979 إلى شهر جويلية 1983 خلفا للعميد فتحي زهر.

خلال هذه المدّة صادف أن انعقد مؤتمر اتحاد المحامين العرب بالرباط شارك فيه حوالي ثمانين محاميا تونسيا كان من بينهم الأستاذ الباجي قائد السبسي، بينما حاولت السلطات منعي من السفر والحال أنّني كنت على رأس هذا الوفد التونسي بصفتي عميدا للهيئة الوطنية للمحامين وقتها، وقد نتج عن هذا المنع موقف مشرّف اتّخذه المحامون التونسيون الذين أعلموا المسؤول الأمني الذي كان حضر إلى الطائرة أنّهم يرفضون السفر إذا لم يكن ضمن الوفد عميد المحامين التونسيين مع تحميلهم الحكومة مسؤولية ذلك التصرف وقد آل الموقف إلى السماح لي بالمغادرة مع باقي الوفد وقد ترتبّت عن هذا المنع مــواقف في لجــان المـــؤتمر لا يسمح المجال باستعراضها الآن ولكن ولتليين هذا المــــوقف أعطيت التعليمات ولأوّل مرّة إلى السفير التونسي بالرباط بأن يتصـل بي ويقيـم حفل استقبال على شــرف الوفد التونسي المشارك في المؤتمر وهو ما تمّ بالفعل بعد نقـــــاش بين أعضــــاء الوفـــد التونسي من حيـث مبـدإ قبـول الدعــوى أو رفضـها.

كان الأستاذ الباجي لا يتردّد كثيرا على قصر العدالة لأنّ قضاياه كانت  قليلة ولكن هامّة وأتذّكر أنّه في مرّة من المرات كنّا معا في صفّ الدفاع ندافع في قضية حزب الوحدة الشعبية وكان يترّأس الجلسة الرئيس المرحوم محمد الصالح العياري الذي تعوّد على مناقشة المحامين أثناء مرافعاتهم  وهو ما قد يقطع التركيز في بعض الأحيان على المحامي ولمّا بدأ الأستاذ الباجي في مرافعته تعدّدت النقاشات من السيد رئيس الجلسة ممّا أدى إلى تدخل الأستاذ الباجي مخاطبا الرئيس قائلا: سيادة الرئيس «إذا ما استمر هذا النقاش فإنّني سوف أتخلّى عن المرافعة» فأجابه الرئيس السيد محمد صالح العياري بلباقة تامّة قائلا له: «يا أستاذ الباجي لو تنقطع عن المرافعة فإنّك قد تحرم المحكمة من مرافعة قد توصلها إلى الحقيقة» فما كان من الأستاذ الباجي إلّا أن أعاد فتح ملفّه واستأنف مرافعته.

كان الأستاذ الباجي قائد السبسي كلّما عزم على القدوم إلى قصر العدالة إلّا ويتصل بكاتب مجلس الهيئة الوطنية للمحامين السيد محمد الطاهر ويطلب منه إعلامي بقدومه حتّى نتلاقى بعد الجلسات لتجاذب أطراف الحديث  في القانون والسياسة وحتّى في الأدب  والشعر. ولا يفوتني أن أبيّن أنّ الأستاذ الباجي قائد السبسي لم يتخلّ عن حبّه للمهنة حتّى  وهو بعيد عنها عندما يكون مباشرا لخطط وزارية، وأتذّكر أنّه في فترة زمنية اتصلت به وطلبت منه السعي لدى الرئيس بورقيبة حتّى يساعدنا على إيجاد نوع من الحصانة للمحامين نظرا لما لاقاه البعض من عنت في بعض الجلسات وفعلا سعى وكاد أن ينجح في سعيه لولا تحرّك بعض الجهات لإفشال هذه المساعي.

كان الأستاذ الباجي متشبّثا بقيم المحاماة وقد تجلّى ذلك منه عندما ترشّح للعمادة مدفوعا من عدّة طلبات لزملائه وكان ذلك سنة 1975 لكن في هذه الفترة نفسها أعلن الأستاذ فتحي زهير ترشّحه لنفس المهمّة وهو ما جعل الأستاذ الباجي يتقدّم في يوم الانتخابات من المصدح ويعلن سحب ترشحه لفائدة الأستاذ فتحي زهير مبيّنا أنّه لا يمكن للتلميذ أن يزاحم أستاذه في مثل هذه الحالات مشيرا بهذا إلى مدّة التمرين التي قضاها بمكتب الأستاذ فتحي زهير فدوت القاعة بالتصفيق إعترافا من زملائه له باحترامه لتقاليد المحاماة التي بقي وفيّا لها رغم تقلّده عدّة مناصب وزارية  ولذلك لم يتردد في الرجوع إليها حتّى جاءت ثورة 17 ديسمبر2010 و14 جانفي 2011 التي نأت به من جديد عن هذه المهنة الشريفة ليرجع إلى خدمة الدولة.

ثانيا: سي الباجي وزيرا أوّل

عندما قامت الثورة وغادر فجأة الرئيس السابق البلاد حصل شغور في منصب الرئاسة عاينه المجلس الأعلى الدستوري وبمقتضى هذا الشغور تولّى السيــد فــــوائد المبزع رئــــاسة الجمهــــورية بينما بقي الوزير الأول السيد محمد الغنـــوشي في مكانـــه على خطّته.

وباتّفاق مع رئيس الجمهورية المؤقّت وتحت ضغط الشارع بدأ السيد محمد الغنوشي يوم 17 جانفي 2011 مشاوراته لتكوين حكومة جديدة دوعيت فيها شخصيا إلى تقلّد وزارة العدل. كما شاركت في هذه الحكومة شخصيات من المعارضة على غرار الأستاذ أحمد نجيب الشابي والمرحوم السيد أحمد بن إبراهيم والسيد الطيب البكوش والأستاذ محمد المختار الجلالي. باشرت الحكومة الجديدة مهامها في جوّ مفعم بالغليان: مظاهرات واعتصامات وإخلال بالأمن وتهديدات لبعض الأشخاص نالت حتّى شخص الوزير الأوّل الذي لم يتقبل ذلك واستقال من منصبه يوم 27 فيفري 2011. كانت استقالة السيد الوزير الأوّل محمد الغنوشي غير منتظرة من قبل أعضاء الحكومة وهو ما جعلني بمجرّد علمي بتلك الاستقالة أتوجّه مباشرة إلى قصر الرئاسة بقرطاج، و لمّا وصلت إلى هنالك وجدت أغلب الوزراء على عين المكان وعلمت منهم أنّ السيد الباجي قائد السبسي يوجد بمكتب رئيس الجمهورية، اتجهت مباشرة إلى مكتب السيد الرئيس وبادرته بالتحية كما بادرت بتحية  سي الباجي الذي ابتسم و قال لي: «ماك جرّيت عليا هاني جيت»  وهذه العبارة لها دلالات خاصّة لا يتسع المقام لعرضها.

أعلمت السيد رئيس الجمهورية والسيد الباجي الذي تأكّدت أنّه قبل الوزارة الأولى بأنّ غالب الوزراء موجودون بالقصر ولا يعلمون هل أنّهم يعتبرون مستقيلين تبعا لاستقالة الوزير الأول أم لا فطلب منّي سي الباجي الوزيـر الأوّل إبلاغهـم بأنّه ليس في عزمه الآن تغيير الحكومة ولذلك فمـن بقي منهم فهو مـرحّب به ومـن أراد المغـادرة فله ذلك وأكّـد عليّ بـأن أقابله في صبيحة اليوم المـــوالي على الساعة التـاسعة بقـــصر قرطاج.

خرجت وأعلمت الوزراء برأي الوزير الأول وانصرفت في سبيل حالي ومن الغد ذهبت إلى الموعد وبينما كنت أتهيّأ للدخول إلى مكتب الوزير الأوّل ألفيت الأستاذ أحمد نجيب الشابي خارجا منه ولمّا دخلت أعلمني سي الباجي بأنّ الأستاذ أحمد نجيب الشابي قد استقال من خطّته كوزير مكلّف بالتنمية وأبدى تأسّفه لذلك ملاحظا أنّ نجيب عنصر هامّ في الحكومة ولكن باعتباره رئيس حزب فإنّ مصلحة حزبه تقتضي نظرا لما أعلم به السيد الوزير الأوّل كل الوزراء بأنّ من سيبقى منهم في الحكومة فإنّه لا يمكن له الترشح لا للإنتخابات الرئاسية ولا للانتخابات التشريعية ومن أجل هذا غادر كلّ من الأستاذ أحمد نجيب الشابي والمرحوم الأستاذ أحمد إبراهيم منصبهما الوزاري.

في جلستي الأولى مع سي الباجي الوزير الأوّل في ذلك الصباح كان الحديث يدور حول القضاء واستقلاليته التي يعتبرها الركن الأساسي لتحقيق العدل فأطلعته على ما قمت به وما أنوي القيام به في هذا الغرض وقبل أن أودّعه أهداني النسخة العربية من كتابه وأعلمني بكلّ جديّة أن لقاءنا غدا سيكون بقصر الحكومة بالقصبة ولمّا أعلمته بأنّ ساحة القصبة محتلّة من المعتصمين الذين يمنعون الدخول إلى قصر الحكومة، قام من كرسيه  وقال لي باللهجة التونسية: «رئيس الحكومة إليّ ما ينجمش يدخل لمكتب في قصر الحكومة ما يستحقش باش يكون رئيس حكومة»، فأكبرت فيه رجل الدولة الذي يأخذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب وانصرفت. ومن الغد توجّهت إلى رئاسة الحكومة بالقصبة فوجدت ممّرا مفتوحا يوصل إلى بابها صعدت إلى مكتبه وما إن دخلت عليه حتّى ابتسم وقال لي: «نجّمت تدخل» فقلت له: «وجّدت الممّر مفتوحا» عندها أعلمني بأنّه بالحديث مع المعتصمين اقتنعوا أنّ الوزير الأوّل ليتمكّن من فضّ بعض مشاكلهم يجب أن يباشر عمله بقصر الحكومـــة ومن ذلك اليوم أصبحـت المجالس الوزارية ومقابــلات الوزير الأول تقـع كلّها بقصر الحكـومة بالقصبة.

كان المطلوب من الوزير الأوّل السيد الباجي قائد السبسي توطيد الأمن وتوفيره للمواطنين لضمان انتخابات حرّة ديمقراطية وشفّافة كالسعي إلى حلّ بعض مطالب المعتصمين التي كانت متنوّعة سياسية واجتماعية، وفعلا انكب الوزراء تحت إشراف الوزير الأوّل كلّ من موقعه على القيام بما يلزم للتغلب على تلك الظروف الصعبة. استمر عمل هذه الحكومة أحد عشر شهرا بينما كانت مدّة السيد الباجي الوزير الأوّل في مهمّته لا تزيد عن التسعة أشهر وبضعة أيام. ورغم هذه المدّة القصيرة فقد استطاعت الحكومة أن تحقّق أمرين هامّين: أوّلهما تأمين الثورة ومسار الانتقال الديمقراطي وثانيهما إجراء انتخابات حرّة نزيهة وشفّافة فازت فيها حركة النهضة بأغلب المقاعد. وبعد تشكيل حكومة الترويكا استقالت حكومة السيد الباجي قائد السبسي خلال شهر ديسمبر 2011.

ثالثا: سي الباجي السياسي المحنّك

سلمت حكومة السيد الباجي قائد السبسي المستقيلة مهامها إلى حكومة جديدة ترأّسها السيد حمادي الجبالي أحد قيّاديّي حركة النهضة، وانصرف كلّ منّا إلى عمله إذ رجع الأستاذ الباجي إلى مكتبه كمحام بنهج آلان سافاري ورجعت شخصيا إلى مكتبي كمحام بشارع باب بنات.

كانت نتائج الانتخابات غير متوازنة ممّا أدخل على المشهد السياسي للبلاد نوعا من الاضطراب وهو ما كان يقلق السيد الباجي قائد السبسي وقد عبّر عن ذلك في البيان التوجيهي الهامّ جدّا الصادر خلال شهر جانفي 2012، هذا البيان الذي كان بمثابة التنبيه والاحتياط للمستقبل. على إثر صدور هذا التنبيه اتصلت عدّة شخصيات وطنية بسي الباجي لإبداء الرأي حول المستقبل السياسي للبلاد وفي يوم من الأيّام اتصلت بمكالمة هاتفية من الأستاذ رضا بالحاج يعلمني فيها بأنّ الأستاذ الباجي يطلبني للحضور بمكتبه فلبيت الطلب وتلاقيت معه هناك وتناولنا الوضع السائد في البلاد وكان له برنامج واضح يوحي بأنّه عازم على تكوين حزب سياسي جديد فارتحت كثيرا لذلك وقلت له: «خير البرّ عاجله وأنّ كلّ يوم تأخير فيه خسارة للبلاد و للحزب الذي تنوي تكوينه». تكررت اللقاءات وتبلورت الأمور وأصبحت واضحة  فصدر بيان 12 جوان 2012 الذي أعلن عن تأسيس حزب حركة نداء تونس برئاسة الأستاذ الباجي قائد السبسي وعضوية مؤسّسيه معه المنشورة صوّرهم صحبة البيان. تمّت كلّ الإجراءات القانونية و فتح الحزب مقرّا أولّا له بنهج الأمين العباسي بالبلفيدير، غير بعيد عن مكتب محاماة الأستاذ الباجي قائد السبسي، لكن هذا المقرّ سرعان ما ضاق بزائريه وأصبح العمل فيه غير ممكن فتمّ نقل مقرّ الحزب إلى البحيرة إلّا أنّ كثرة الواردين من المنتمين أجبرت إدارة الحزب على الانتقال إلى مقر أفسح وهو البناية التي تأوي إلى حدّ اليوم حزب حركة نداء تونس.

نظم الحزب صفوفه تحت توجيهات رئيسه السيد الباجي قائد السبسي وكان الهدف هو الاستعداد لتثقيف الندائيين سياسيا الذين يعدّون بعشرات الآلاف والإستعداد بصورة جديّة لانتخابات سنة 2014 التشريعية والرئاسية. كان الرئيـــس الباجي يؤمـــن بالعمــل الجمــاعي ولذلك كـان يجتمع يوميا بشخصيات سياسية من أحـزاب مختلفة للتباحث معهم حول الوضع  السياسي والأمنــي والاقتصـــادي للبلاد وقد توّصل مع بعــض زعماء هذه الأحــزاب إلى تكوين شبه ائتـلاف سمّي «اتحـاد تونس» إلّا أنّه وبكـلّ أسف لم يعمّــر طويلا. وأمام تغوّل «الترويكا» دعا إلى تكوين جبهة إنقاذ فيها العديد من الأحزاب المدنية  رابطت بساحة باردو وأمام مجلس نواب الشعب، ممّا أجبر رئيس المجلس مصطفى بن جعفر على تعليق العمل بمجلس نواب الشعب لمدّة زمانية. كان الكلّ ينتظر الموعد المحدّد للانتخابات الرئاسية والتشريعية وجاء ذلك اليوم وكانت نتيجة الانتخابات إيجابية لحركة نداء تونس إلى حدّ ما، إذ تحصّل الحزب على ستّة وثمانين مقعدا بينما تحصّلت حركة النهضة التي كانت مسيطرة على المشهد السياسي آنذاك على تسع وستين مقعدا، كما فاز مرشّح حركة نداء تونس السيد الباجي قائد السبسي بالانتخابات الرئاسية وأنتخب رئيسا للجمهورية التونسية في أوّل انتخاب نزيه وشفّاف ومباشر من الشعب تحصّل فيه الرئيس الراحل السيد الباجي قائد السبسي على أكثر من مليون وسبعمائة ألف صوت. نتيجة لهذا الفوز رشّحت حركة نداء تونس من سيتولّى رئاسة الحكومة وكان ذلك في شخص السيد الحبيـــب الصيد الذي شرع في تكوين حكومته بعد أن كلّف رسميا من السيد رئيس الجمهورية محمد الباجي قائد السبسي.

رابعا: سي الباجي رئيسا للجمهورية التونسية

فاز السيد الباجي قائد السبسي برئاسة الجمهورية واحتراما لنصوص الدستور كان لزاما عليه أن يستقيل من رئاسة حزب حركة نداء تونس ولهذا الغرض جمع يوم 29 ديسمبر 2014 الهيئة التأسيسية في جلسة استثنائية وفي أوّل الاجتماع قدّم لها استقالته من رئاسة الحزب وقد قبلتها الهيئة المذكورة، وفي غرّة جانفي 2015 باشر مهامه كرئيس للجمهورية التونسية بعد أن كان كلّف السيد محمد الناصر بنيابته على رأس حركة نداء تونس.

باشر السيد الباجي قائد السبسي مهامه كرئيس للجمهورية التونسية  وكان أوّل اتصال لي به في أواخر شهر جانفي 2015 عندما تلقيت مكالمة هاتفية من مدير الديوان آنئذ الأستاذ رضا بالحاج الذي مرّر لي عبر الهاتف سيادة الرئيس وبعد التحية طلب منّي الحضور لديه من الغد وهو ما تمّ بالفعل، وأثناء حديثي معه أعلمني أنّه قرّر تسميتي وزيرا مستشارا ممثّلا شخصيا لرئيس الجمهورية فقبلت هذه المهمّة على أن تكون علاقتي مباشرة مع سيادته دون سواه فأكّد لي ذلك وأعلمني أننّي سأرافقه في سفره في اليوم الموالي إلى الجزائر الشقيقة. سافرنا إلى الجزائر وكان من بين أفراد الوفد السيد الطيب البكوش وأجرى سيادة الرئيس والوفد المرافق له محادثات هامّة مع السيد رئيس مجلس الشعب والسيد رئيس الحكومة وختمها بمحادثة مع سيادة رئيس الجمهورية السابق عبد العزيز بوتفليقة كانت مفيدة  جدّا للبلدين.  لمّا عدنا من الجزائر باشرت مهامي اليومية بالقصر إلى جانب سيادة الرئيس وكانت هذه المهام تتجسّم لا فقط في تمثيله داخليا وخارجيا في التظاهرات السياسية والثقافية  ولدى بعض رؤساء الدول أو مصاحبته في بعض الزيارات الرسمية إلى الخارج ولكن كذلك في التقارير التي أعدّها له بعد دراسة بعض الملّفات التي يكلّفني بها والمقابلات المستمرّة التي أجريها معه ونتناول من خلالها شؤون البلاد من جميع جوانبها وكان سيــادته رحمــه الله شاعرا بالمسؤولية الكبــيرة المحمــولة عليـه كما كان شاعـــرا أيضا بضعـف إمكانيــات البـلاد وبمتطلّباتها الكثيرة والمتنوّعة.

وقد مكّنتني مهمّتي إلى جانب السيد الرئيس الراحل رحمه الله من اكتشاف جوانب أخرى في شخصيته إذ اكتشفت فيه إلى جانب الصفات التي عرفتها فيه سابقا، صفة رجل الدولة المتميز من خلال رؤيته للسياسة الخارجية للبلاد إذ عرفت تونس أثناء مدة رئاسته إشعاعا إقليميا و دوّليا بوّأها مكانة محترمة بين الدول وكانت سياسته الخارجية مبنية دائما على الاحترام المتبادل وعدم التدّخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى. وانطلاقا من السمعة التي اكتسبتها البلاد التونسية من خلال السياسة الحكيمة التي انتهجها سيادته كانت الوفود الأجنبية تأتي دائما لزيارته والإنصات إلى حكمته. وكنّا كمستشارين نحضر هذه اللقاءات سواء مع رؤساء الدول الأجنبية أو الوفود  واستفدنا من ذلك كثيرا.

أمّا سياسته الداخلية فقد كانت مركّزة أساسا على احترام حريّة الرأي والتعبير والحرص على أن يكون لتونس إعلام حرّ ومستقلّ ولذلك كان يقول دائما: «أحبذ أن يكون للبلاد إعلام حرّ مع بعض التجاوزات خير من أن يكون لها إعلام مكمّم».  كما كان حريصا من جهة أخرى على استتباب الأمن بكامل أنحاء البلاد ولذلك كانت عنايته بالقوّات المسلّحة عناية كبيرة. وفعلا وبفضل توجيهاته ومجهوداته تحسن الوضع الأمني كثيرا وقد انعكست نتائج هذا التحسّن لا فقط على القطاع  السياحي بل كذلك الحياة اليومية للمواطنين. كان سيادة الرئيس يعتقد جازما أنّه ينبغي أن يكون للمرأة دور رائد في جميع مظاهر الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لذلك كان حريصا على التناصف ويوصي بتطبيقه. كما كان حريصا على أن تكون المرأة مساوية للرجل في جميع الحقوق والواجبات مثلما أكّد على ذلك دستور البلاد. ولهذا الغــرض أقدم على ما لم يقدم عليه غيره عندما بادر بتقديم مشـروع قانـون أساسي لمجلس النواب يدعــو إلى المساواة في الإرث بين المرأة والـرجل. كان السيــد الرئيس الباجي قائد السبــــسي يريد أن يفعل الشيء الكثير للبلاد بصورة عامّة وللمرأة بصورة خاصة إلّا أنّ السلطات الممنوحة له دستوريا لم تمكّنه من ذلك في كثير من الأحيان، وعلى الرغم من ذلك فإنّه كان حتّى عندما يشار عليه بتقديم مقترحات لتنقيح بعض فصول الدستور يمتنع عن ذلك لأنّه يرى نفسه الحامي لدستور البلاد ولذلك لا يمكن له المسّ به وهو موقف على غــاية من الأخـلاق الســـامية  التي كان يمتاز بها سيادة الرئيــــس إذ ثبت تاريخيا أنّ غيــره من بعـض الرؤسـاء لم يتردّد في تنقيح نصــوص الدســاتير لمصلحتـه الشخصية.

إنّ سيادة الرئيس الباجي قائد السبسي كان محبوبا جدّا من شعبه الذي كان يشعر أنّه قريب منه يسعى لخيره وتحقيق آماله وقد تجلّى هذا الحب والاحترام في يوم تشييع جثمانه الطاهر الذي كان يوما مشهودا لم يسبق أن عرفت تونس مثله، كما كان سيادته محترما في الخارج لثقافته الواسعة وحصافة رأيه وشخصيته الفريدة وحضوره الذهني المستمرّ وهو ما جعل بعض الملوك والرؤساء من الدوّل الصديقة والشقيقة يتجشمون مصاعب السفر  لحضور جنازته وتقديم التعازي لعائلته وللشعب التونسي. كما أنّ كثيرا من الدول أمرت بتنكيس أعلامها احتراما وإجلالا لهذا الرئيس الفذّ ومثل ذلك فعلت الأمم المتحدة التي دعت الدول المنضوية تحت لوائها إلى تنكيس أعلامها كما حدّدت يوما معيّنا لتأبين رئيسنا الأستاذ محمد الباجي قائد السبسي.

المـــوت حقّ شرّعة الرحمان    ***    والصبــر وحـده بلسم الأحزان

رحمك الله أيها الرئيس العزيز والصديق الوفي رحمة واسعة وأسكنك فراديس جنانه. إنّا لله و إنّا إليه راجعون.

العميد الأزهر القروي الشابي

الوزير الممثّل الشّخصي لرئيس الجمهوريّة سابقا

(1) ابن دريد هو عالم في اللغة العربية ومن أكبر شعراء العرب توفي في القرن التاسع مسيحي

(2) العميد فتحي زهير كان محاميا متميزا، وطنيا صادقا انتخبه زملاؤه عميدا للمحامين لدورتين متتاليتين من شهر جويلية 1975 إلى شهر جويلية 1979

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.