أخبار - 2019.09.05

محمد الباجي قائد السبسي: عاش رجل دولة بامتياز ومات زعيما

محمد الباجي قائد السبسي: عاش رجل دولة بامتياز ومات زعيما

على غير انتظار وفي يوم ليس كالأيام، يوم سيبقى محفورا في الذاكرة، يوم عيد الجمهورية الثاني والستين، فُجع الشعب التونسي في الرئيس الأوّل المنتخب لجمهوريته الثانية. غادرنا فقيد الوطن الرئيس محمد الباجي قائد السبسي وأدرك الجميع مساندين ومعارضين أنّ المصاب جلل.

وفقـدتُ فيه، شخصــيا، صديقـا عزيزا ورفيقا في الكفاح التحريري وزميلا في الحكومة ذا جرأة ورأي نافذ تولى الإشراف باقتدار على قطاعات سيادية في الأيام الصعبة وعندما ابتعدتُ عن العمل الحكومي بموجب تقلدي مهام الأمانة العامّة لجامعة الدول العربية ظل الباجي قائد السبسي قريبا مني طـوال الـمــدة التي قضـاها على رأس وزارة الشؤون الخارجية نتشاور معا وننســّق من أجل إنجـاح خطّة العــمل العـربي المشـترك.

وعندما انتهت مهامنا وحان وقت التقاعد أحسستُ بأنّ الباجي لن يخلد إلى الراحة فهو يعتبر نفسه، عن جدارة، من مدَّخرات الجمهورية. واندلعت ثورة الكرامة وبدا أنّ الأحداث توشك أن تجرّ الدولة إلى الانهيار، فمنّ الله على تونس بأن خرج الباجي من عرينه وتولّى مقاليد الحكومة فساس الأمور بحكمة ودراية رغم قسوة الظروف. وسيبقى للتاريخ أنّه هو الرجل الذي أوصل تونس إلى انتخابات 2011 حرّة ونزيهة.

وبعد هذا الإنجاز المضني، لم يعد إلى استراحته رضيّ النفس مرتاح الضمير. كان يعرف أكثر من سواه أنّ تونس لم تتجاوز مرحلة الخطر وأنّها ما تزال محتاجة إليه فلم يُلْقِ بسلاحه. وببراعة نادرة خلق حزبا سياسيا من عدم سرعان ما احتل المرتبة الأولى من بين الأحزاب وترشّح للانتخابات الرئاسية بخطاب بورقيبي النفس حداثيّ الفكر وارتقى إلى سدّة الحكم  ولكنّ حزبه لم يحصل على الأغلبية المطلقة في مجلس النواب فتعامل مع الواقع السياسي بما يستوجب من مرونة وبراغماتية وكان لا بدّ أن يتعرّض إلى سخط الكثير من ناخبيه وإلى محاولات الزعزعة فتحمّل واستمرّ يبحث عن الممكن بصبر.

توفّي الرئيس الباجي فشعر القاصي والداني بالهوّة التي كان يسدّها فاستولى على الجميع ما يشبه الهلع.

منعتني ظروف قاهرة من أن أكون حاضرا إلى جانب أسرة الفقيد وإلى جانب أصدقائه القدامى رفاق النضال الوطني ومن تبقّى من بناة تونس الحديثة.

جلست أمام التلفاز أتابع موكب جنازته المهيب تنظيما وتشييعا ورأيت بعميق التأثّر اصطفاف الجماهير، تحت لفح الهاجرة، على جانبي الطريق من قرطاج إلى الجلاز، حضروا تلقائيا لتوديع الرجل الذي قضى حياته في خدمتهم. وانتابني في الأثناء شعور غامر آخر. كنت أرى في ذلك الإجلال ما يشبه الثأر لما لم يحْظَ به المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة يوم اخْتُزِلَ موكبُ دفنه، بصورة عبثية فحُرِمَ الشعب التونسي من تشييع زعيمه المؤسّس إلى روضة مرقده الأخير بالمنستير.

وممّا يزيد من تبرير هذا الإسقاط في خاطري هو أنّ المرحوم محمد الباجي قائد السبسي كان في قصر قرطاج الحافل بالذكريات المجيدة، شديد الإحساس بأنّه يجلس على كرسي سلفه العظيم مؤتمنًا على إرثه الحضاري وتوجّهه الحداثي. كان الباجي بشكل ما خرّيج المدرسة البورقيبية حتّى في ظرف خطابه وفي تهكّمه المستحبّ وفي حبّه للشعر.

عاش الباجي قائد السبسي طوال حياته رجل دولة بامتياز ومات وقد ارتقى إلى مرتبة الزعامة. وفي اعتقادي أنّه أوصل تونس إلى ساحل النجاة ووطّد دعائم الديمقراطية فيها. تغمّده الله بواسع رحمته..

الشاذلي القليبي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.