عامر بوعزة : التونسيون والدستور
في كلمة مصورة نشرها للإعلان عن عدم ترشحه للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها لم يفوّت الدكتور مصطفى بن جعفر الفرصة للتنويه مرة أخرى بانتقال السلطة بسلاسة في تونس، وبأنّ وفاة الرئيس الباجي قايد السبسي جعلت التونسيين يكتشفون أهمية الدستور الذي وقّع عليه هو بصفته رئيسا للمجلس التّأسيسي الثاني في يناير 2014.
الفكرة ذاتها عبّر عنها الدكتور المنصف المرزوقي في حوار إذاعي، وبنفس الكيفية، مشيرا باعتزاز كبير إلى أن هذا الدستور يحمل ختمه هو بوصفه رئيسا للجمهورية آنذاك، كما تردّدت بصيغ مختلفة في تدخّلات العديد من رموز حزب حركة النهضة عبر وسائل الإعلام، والخطابُ موجّه دائما إلى كل من يعتقد أن الدستور الذي تتباهى به الترويكا لا يساوي الخسائر التي وقعت أثناء كتابته، اقتصاديا وأمنيا، وهم يدعون كل من يستخف بهذا الدستور إلى تبين مدى أهميته في اختبار كهذا.
ولئن كانت هذه الفكرة صالحة للتسويق في وسائل الإعلام الأجنبية على وجه الخصوص للإشادة بالانتقال الديمقراطي في تونس وبدولة القانون والمؤسسات في مقابل دول الكلاشينكوف والجنرالات أو الميليشيات فإنها قابلة للنقاش لغلبة النزعة التبريرية عليها والتوظيف السياسي، فالمسألة تتعلّق باحترام التونسيين للدستور مطلقا لا فضل في ذلك لدستور على آخر.
الأدلّة على هذه المعنى كثيرة، تبدأ من العام 1957 عندما ولدت الجمهورية بنص دستوري، ولم تتمّ إزاحة العائلة الحسينية بقوة السّلاح، وكان ذلك ممكنا بعد تحرير البلاد، وفي 1987 استخدم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي نصا دستوريا لإزاحة الحبيب بورقيبة عن الحكم، فما سُمّي آنذاك «التغيير المبارك» أو «الانقلاب الأبيض»، هو تنفيذ حرفي لفصل من فصول الدستور يتناول موضوع الشغور المؤقت في الرئاسة بسبب العجز، والشاهد الأكثر دلالة يعود إلى فترة الثورة ذاتها، فبعد رحيل زين العابدين بن علي بشكل مباغت يوم الرابع عشر من يناير 2011 وحدوث شغور في منصب الرئاسة، لم يهجم أحد على القصر الرئاسي ومقرّات السيادة رغم الفوضى السائدة والاحتجاجات الشعبية المضطرمة، بل تمّت معاينة الشغور بمقتضى نصّ دستوري،وجرى نقل السلطة بشكل سلس أيضا، وحتى الارتباك الذي حصل في مستوى المعاينة تمّ تداركه بسرعة، وبعد الإعلان عن تولّي الوزير الأول رئاسة الجمهورية باعتبار الشغور مؤقتا، تمّ تكليف رئيس مجلس النواب بالرئاسة في أقلّ من أربع وعشرين ساعة باعتبار الشغور دائما. وهو الرئيس المؤقت الذي سيعلن إيقاف العمل بالدستور الأول ويدعو المواطنين إلى انتخاب مجلس تأسيسي لكتابة دستور جديد استجابة لضغط الشارع وارتفاع سقف المطالب.
تقيم هذه الشواهد الدليل على أن التونسيين رجحوا في المنعرجات التاريخية الكبرى القانون على القوّة، ولذلك فإن احتكار ممثلي الترويكا الفضل كلّه لأنفسهم في سلاسة الانتقال السياسي يغمط الشعب حقه ويعتدي على التاريخ، فلا استثناء في هذا الانتقال، إذ السلاسة قاعدة دأبنا عليها، ولا شكّ في أن هذا السلوك الرشيد إن هو إلا ثمرة من ثمار التحديث السياسي الذي عرفته تونس منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فدستور 1861 يعتبر أول دستور في البلاد العربية وقد أدخل منذ ذلك التاريخ عدة مبادئ مستلهمة من التراث الليبرالي الغربي لا سيما في مجال ضبط نظام السلطات. وهو على ما فيه من نقائص يعتبر في وقته فتحا مبينا.
لكن التونسيين يعرفون أيضا أن الدستور وحده قاصر على تحقيق العدالة وتعميم الرخاء ومقاومة الفساد وضمان الكرامة وصون السيادة، فدستور 1861 لم يمنع ثورة «علي بن غذاهم» بعد ثلاث سنوات فقط، ثم الأزمة الاقتصادية التي خيّم معها شبح الإفلاس حتى انتصبت الحماية في 1881. كما إن تأسيس الجمهورية في 1957وفق دستور لائكي حداثي لم يمنع التشريع للاستبداد بإقرار الرئاسة مدى الحياة في 1975، وكذلك الشأن مع زين العابدين بن علي الذي قمع الحريات رغم أنها مضمونة دستوريا.
كانت لدى التونسيين مؤيدات كثيرة تجعلهم لا يثقون في الدستور لكنهم اعتصموا به حتى وهُم في أتون ثورة شعبية عارمة، وأمام شعب كهذا حريّ بكل من يتحدّث باسم الترويكا اليوم أن يبذل المزيد من التواضع لهضم الحقيقة والأمر الواقع.
عامر بوعزة
- اكتب تعليق
- تعليق