مختار اللواتي: كنت بنهج شارل ديغول لحظة العملية الإرهابيّة
كان مطلع الصبح جميلا، يوم الخميس السابع والعشرين من جوان استيقظت باكرا كعادتي دائما كلما زرت مدينة تونس.
كانت شوارع العاصمة وأنهجها مازالت تغالب نعاسها بتلك الحركة الخفيفة التي بدأت تدب في شرايينها.
عاملات وعمال يسرعون الخطى باتجاه إما محطة المترو أو محطات الحافلات وسيارات النقل الجماعي. وكثيرا ماكانت تعلو أحاديث المترافقات المتزاملات منهم ضحكات ندية تضفي على نسائم الصباح الخجولة بهجة وانشراحا.
المشي سيرا على الأقدام أو ركوبا في سيارة، ممتع كثيرا في الصباح الباكر في تونس العاصمة، تماما مثل صفاقس المجنونة كامل النهار ولا تتعقل إلا في ومضة الصباح الباكر..
بالسير الهوينا في شوارع الحاضرة في ساعات الصباح الأولى، وبتلك الكلمات المتبادلة مع نادل مقهى باريس، أو نادل مقهى لونيفر. مع بائع الجرائد عند مدخل الكوليزاي أو ذاك عند بداية نهج مرسيليا، وكلها مفعمة محبة وروحا خدومة، استعيد سنوات يفاعتي حين كنت أمضي كامل الصيف في منزل أخي الأكبر، رحمه الله، حيث كان يتدبّر لي فرصة عمل حتى أجمع ما أؤمن به من المال مستلزمات دراستي كامل السنة.
كانت غالبية سيارات التاكسي ، هذا الصباح، تعبر شارع الحبيب بورقيبة شاغرة متمهلة على عكس بقية ردهات اليوم.
أشرت إلى واحد من سواقها، تبادلنا التحية وأبلغته بمقصدي، حي النصر 1حيث لي بعض الشؤون لأقضيها هناك. خيرني السائق، أي طريق أريد أن يسلك، فأوكلت إليه أمر الاختيار. كان سائق التاكسي في مزاج جيد. وكنا نتبادل التعاليق المازحة على تثاقل استجابة أصحاب السيارات لتبدل أضواء المرور، من الأحمر إلى الأخضر. "مازالو عينهم في النوم" يقول لي باسما.
عندما وصلت المكان اتصلت هاتفيا بصديق لي صمدت صداقتنا منذ عهد الشباب الأول برغم اختلاف مشاربنا ومشاغلنا الحياتية عموما. كان على علم بوجودي في العاصمة فأخبرته أني قريب من مسكنه. قال لي :"سأمر من هناك وأصل إليك بعد قليل". اغتنمت الفرصة وأخذت من حقيبة الحاسوب رفيقتي في سفرتي هذه المرة، رواية "الملانخولي" وقد بلغت في توطيد علاقتي بها ردحا محترما من الصفحات. كان المكان ربوة تشرف على جانب مهم من حي النصر1، وتعلوها إقامة شاسعة متناسقة البناء ومتعددة العمارات السكنية. من أجمل مافيها مساحة خضراء للعب الأطفال، نُصبت على جنباتها مقاعد مزخرفة بجص مزركش من ذاك الذي نراه في سيدي بوسعيد بلونيه الأزرق والأبيض. اخترت واحدا منها، ورحت إلى الصفحة التي توقفت عندها في آخر محطة قراءة لصديقي الجديد "الملنخولي". امتداد الأفق أمامي الذي أسرح النظر فيه بين الفينة والأخرى، ورائحة الندى من فوق العشب الأخضر من حولي، أعادا إلي الإحساس الجميل باستنشاق الهواء، بعد أن فقدته من زمن بعيد. أولست صفاقسياً..؟
لحق بي صديقي عادل، وكان برفقة زوجته. صديقي هذا لا تعجزه أية جملة جدية في أي حديث، في السياسة أو في الفن، عن أن يخلق منها أو فيها، متنفسا للضحك. وهكذا كان حديثنا ضحوكا في هذا الصباح. وللحقيقة، تلك صفة فيه لم تفارقه منذ كنا يافعيْن. قد لانلتقي لسنوات طويلة. ولكن حين يتجدّد لقاؤنا أجده كما لو كان آخر لقاء لنا قبل أسبوع فقط، وليس سنوات.
كانت زوجته برفقته، وكانا قاصديْن وسط العاصمة، فعرض علي توصيلة بسيارته معهما بعد أن أعلمته أنني أنوي العودة إلى صفاقس في نفس اليوم، ولابد أن أتوجه إلى "باب بحر" ومنه إلى محطة سيارات الأجرة، اللواج، في موقف منصف باي.
كان على طول الطريق الفاصل بين حي النصر و"باب بحر"، وتحديدا شارع شارل ديغول حيث تقع مغازته منذ عشرات السنين، يشاركني التعليق على الأحداث المحلية والإقليمية والعالمية بأسلوبه الساخر غالبا، والجدي أحيانا، والضاحك في كل الأوقات، مما زاد من منسوب الحبور في نفسي ومن الموجات الإيجابية لتملأ كياني.
وصلنا نهج شارع ديغول حوالي العاشرة والربع.. استأذنت عادل لأتمشى حتى أكون بالقرب من مبنى البريد وسط الشارع انتظر صديقي سمير الذي كنت دعوته وأنا في الطريق للقاء هناك حتى أعرفه على صديقي عادل قبل أن يرافقني إلى شارع قرطاج القريب. كان شارع شارل ديغول كعادته، ومنذ عرفته في صباي ويفاعتي، دائم الحركة والنشاط على جانبيه بين ووسط مغازاته ومقاهيه، وبالباعة المفترشين أرصفته ببضائعهم المتنوعة. أو وسط سوق خضاره وغلاله وسوق السمك فيه وممر القصابين ودكاكين بيع جميع أنواع التوابل والمخللات. لقد ظل هكذا على مدى العقود المتتالية قبلةَ سكان كامل منطقة "باب الدزيرة"، والبلاد العربي، وأطراف المدينة من جميع نواحيها. وزوار العاصمة من داخل البلاد ومن خارجها الذين لابد يعرجون على شارع شارل ديغول وهم يعبرون شارع فرنسا قبل دخول البلاد العربي..
وأنا أسرح بناظري بين أولئك الخلائق وكأنني مازلت ابن الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، حيث كان يطربني غناء الباعة على سلعهم وضحكاتهم العالية وهم يسخرون من بعضهم البعض ثم يتقاسمون الغذاء أو ارتشاف القهوة، دون إزعاج النفس بمعرفة من دفع منهم الحساب. وإذا بدوي انفجار عال يهز المكان على بعد أمتار قليلة مني عند تقاطع شارع فرنسا مع شارع شارل ديغول على مابدا لي وقتها. ارتفع مع دوي الانفجار مخروطٌ دَوار من الغبار والدخان وبعض الأشياء لم أتبين نوعيتها من المكان الذي كنت فيه وإن لم يكن بعيدا كثيرا عن موقع الانفجار.
أصيب الناس من حولي بهلع من غرابة الدوي المفزع على المكان وعلى العباد. لم تطل بهم التخمينات عن كنهه حتى وصلنا الخبر اليقين. إنه تفجير انتحاري. وماكدنا نستوعب ماحدث، على صورته البشعة الضديدة للمدينة وللمكان، حتى قال أحدهم يبدو إنه خرج من داخل مقهى مجاور، "ها قد أخبروا أن تفجيرا انتحاريا آخر تم في القرجاني..". وقبل أن يكمل جملته علا صوت سيدة شابة من وسط الجموع بما يشبه الهدير وكأنها تخاطب سفاكي الدماء وعيناها جاحظتان وزبد أبيض يتطاير من بين شفتيها "لن يسرقوا الفرح منا ولن يرهبونا ولن يطفئوا جذوة الأمل في أحشائنا !!أحببنا ونحب مدينتنا. وأحببنا ونحب بلدنا تونس ولن تفرط لهم في شبر منه. لن يفرقونا ولن ننجر إلى سراديب حقدهم وظلامهم مهما أجرموا. لقد اخترنا نور الحرية وبهجة الحياة. فليمضوا هم وأسيادهم وخلافتهم المزعومة إلى الجحيم".
سريعا تبدلت ملامح المتحلقين من الرجال والنساء، من حالة الذهول والاستغراب، إلى حالة من التحفز بادية في الأعين ومن التصميم علت أسارير الوجوه كأن كلمات الشابة الواثقة الشامخة قد أعادت ضخ دماء الحياة في ثناياها، فيما أصوات سيارات قوات التدخل والحماية المدنية والإسعاف تعلو المكان تتبعها عبارات التقدير والثناء العفوية تلهج بها الألسن إكبارا لتضحيات قوات الأمن المختلفة برجالاتها وحرائرها!
ولست أدري وأنا أبصر صديقي غير بعيد عني وقد وصل المكان، كيف لمعت في ذاكرتي قصيدة الشاعر الوطني الصادق، عبد الجبار العش، "لن تمروا"؟
أهي فقط ياترى الصدفة أن كان كذلك يوم السابع والعشرين من جوان هو يوم عيد ميلاده؟ فله التحية ودام شامخا كالجبال وهو القائل.
"... أظل هنا واقفا كالجبال أغني
وأرسم وجه الوطن العنيد بدمي
وأنحت من الكبرياء النهار.. لاخيار
قبضتي والرفاق هنا
نخلة شامخة كالمنار
وهذه العيون العاشقة
تضيء الظلام كشعلة نار.."
مختار اللواتي
- اكتب تعليق
- تعليق
مقال رائع جدا ، تونس لنا و ستبقى لنا مدى الدهر