أخبار - 2019.06.20

عبدالعزيز قاسم في انتظار مــــواعيـــــد الخريف, تَشَــــوُّفـــاتٌ إلى صيـــف غـــــائم

عبدالعزيز قاسم في انتظار مــــواعيـــــد الخريف, تَشَــــوُّفـــاتٌ إلى صيـــف غـــــائم

1

تتنزّل هذه التأمّلات في مرحلة بلغ القلق فيها منتهاه. لست مترشّحا لأيّ منصب. باستطاعتي إذن أن أقول كلمة صدق في الناخب قبل المنتخب. بعيد انتخابات 2014 وصلتني بالبريد الإلكتروني قصيدة طويلة من أحد الشعراء المعروفين عنوانها «سيدي الشعب» تعزف على أوتار شعار مفرغ متواتر حول سيادة صندوق الاقتراع فأجبته بكلمتين: «سيدك وحدك» ثم نصحته بإعادة قراءة رائعة أبي القاسم الشابي «النبي المجهول» وفيها يقول فيما يقول:

      أيهــــــا الشعب أنت طفلٌ صغـيرٌ           لاعبٌ بالتـــراب والليـــلُ مُغْـــسِ
أنــــت في الكون قوةٌ لم تسُسْـها        فــكـرةٌ عبقـريةٌ ذاتُ بأسِ
         أنـت في الكـــون قـــوةٌ كبَّلتـْهــا           ظلمـــاتُ العصـورِ من أمسِ أمسِ

أنا لا أحتقر الشعب. الذي يحتقره هو من يشتري صوته بكيلو سكر و ثلاثة أرطال من اللحم. الشعب، هذا «الطفل» في حاجة ماسّة إلى دروس ليلية مكثّفة فالديمقراطية ليست فطرة أو هبة إنّها وعي وأخلاق وثقافة وحسن تدبير واختيار. أنظر إلى الفاعلين في الحقل السياسي فلا أرى مؤهَّلا واحدا للقيام بهذه المهمّة. كلّهم هوّاة.

2

تباريح أسمهان في «حديث عينين» وفي «ليالي الأنس» وترانيم فيروز في «مواكب جبران» وتوسّلات جاك بريل في رائعته «لا تهجريني» مصاعد تأخذني إلى حيث تستحمّ الروح وتتجدّد ملكات الخيال والإبداع. ما بالها لا تصدّ عن أذني ولولة المزود تزيد من نشاز شارع مكهرب؟ لكأنّها تقول للمثقف: لا مهرب ممّا ليس منه مهرب. وماذا عسى المثقف أن يفعل وقد ضاع في زحام الساحات. لن أنسى تذمّر أحد علماء القرن الثالث الهجري بالقيروان الأغلبية وقد غصّ بعلمه فقال: «آفتي أنني أعيش في بلد لا أجد فيه سائلا». ولنا إلى هذا الموضوع عودة.

3

ويظلّ الشارع يغلي بغلاء المعيشة وغلوّ الدروشة واستشراء الفساد وتتضخّم دردشة القنوات ووسائط الإعلام تتشدّق بالثورة وبالنموذج التونسي الفـــريد وإذا تساءلت عن علامات هذا التفرّد في ظلّ دينار يتدحرج ومديونية تتفاقم تذكّرنا بإرهاصات انتصاب الحماية يجيبونك: كيف تشكّك في هذا التميّز وقد نوّه به أوباما الديمقراطي وماك كين الجمهوري العنصري؟ ماك كين الصهيوني الذي استقبله الإسلاميون بالقبل والعناق. ماك كين مات وتركهم يتامى. وإذا قلت إن الربيع العربي مشروع زعزعة خطط لها الأمريكان من زمان، تُلامُ على استخفافك بالعبقرية التونسيـــة الفذّة، وعلى استهـــانتك بالهويّة التونسية الصلبة وإذا تســـاءلت عن جذور هذه الهــوية وقف في وجهـــك العبــــادلة السبعـــة فلا مناص من الاستغفار... وأنا لا أستنقص شيئا ممّا حصــل وكـــان بإمكـــاننا امتصاص الصدمة وتوظيفها لمصلحـــة تـــونس لو اجتنبــــنا «احتفـــاليتي» قصبة1 وقصبة 2. وتلك حكاية أخـــرى...

4

إنّي أتحــــاشى التوسّــــع في التعليـــق لأنّني متّهـــم بالتشــــاؤم ولكنّنـــي لا أتمــــالك من أن أسمــــع كلام الشارع الذي أسقط الميم من عبارة «الثورة المباركة» فنعتها ب»الباركة» كيف لا والعاطلون في تزايد والعاملون مضربون والطبقة الوسطى على شفا الفقر. الشارع يغلي وقد سطعت فوحة مزابله في كلّ أنف والمواطنون أحرار يسبّون ويقذفون أسوة ببذاءة عدد لا يستهان به من نواب الشعب المتمتعين بالحصانة. ولكن لا ينبغي أن نتغاضى عن قرف الناس المشروع وكفرهم بالسياسة وبالديمقراطية أيضا. إنّهم، من باب «شد مشومك»، على الأقل، يترحّمون جهارا على عهد بن علي الذي لم تكن أحوال «الرعيّة» فيه، والحق يقال، بهذا السوء.

5

لقد نالني أنا أيضا شرّ بن علي إلى درجة أنّي هاجرت بصورة رمزية ونقلت إلى أوروبا نشاطي الفكري والإبداعي محاضرا ومؤلّفا ومع ذلك فليس لي من مأخذ عليه سوى طعنه للعلمانية البورقيبية. أليس هو الذي دمّر التربية والثقافة فهيّأ الناس لأتباع الخرافة ؟ أليس هو الذي أبطل الحساب الفلكي العلمي لبدء الشهور الهجرية وأعاد العمل بالرؤية نزولا عند رغبة العوام؟ أليس هو الذي أدخل الأذان إلى الإذاعة والتلفزة وهي ليست مؤهّلة شرعا لذلك؟ أليس هو الذي غضّ الطرف عن المتحجبات حتّى أنّ عددا من وزرائه حجبوا نساءهم؟ أليس هو المؤسّس الحقيقي لإذاعة الزيتونة وبنك الزيتونة؟ ألم تنتشر الكتاتيب في عهده بصورة غير مسبوقة؟ صحيح أنّه كان يفعل ذلك عملا باستراتيجية سحب البساط فسُحِبَ البساط من تحته. والمستفيد معروف. لذلك أطالب الإسلاميين بالكفّ عن ملاحقة الرجل فإنّ حسناته إزاءهم يذهــــبن سيئاته. أليســــوا القائلين : ما جزاء الإحسان إلا الإحسان؟

6

إنّ المتأمّل في مجريات الأمور عندنا منذ ثماني سنوات يدرك أنّ تسعا وتسعين بالمئة من حقد الإسلاميين وجانب من اليسار الطائش مُنْصَبٌّ في الواقع على بورقيبة. ولمحاكمة جثّته أسّسوا في إطار ما سمّوه بالعدالة الانتقالية الانتقامية جهازا جهنّميا تحت اسم هيئة الحقيقة والكرامة ولا صلة لها بالحقيقة ولا بالكرامة على الإطلاق. مهمّة الجهاز تكريس الفرقة والتباغض بين كافة فئات الشعب. وسيأتي يوم يُحاسَبُ فيه باعثو هذا الجهاز وأدواته على ما تسبّب فيه من تصدّعات مجتمعية فادحة وما انجرّ عنه من إهدار مريع للمال العام. لقد اضطرّت الدولة إلى التداين الخارجي للإنفاق على هذه المضرّة العامّة... هناك آلاف من المواطنين ينتظرون ما سيفعل بهم قضاء مبرم.

7

أنعت جانبا من اليسار بالطيش وفي هذا الوصف كثير من التلطّف فأنا يساريُّ الميول وما زلت أتعاطف مع «المسار» الذي حافظ على عراقته النضالية وظلّ على العهد رغم انفضاض الجماهير الجاهلة من حوله. لبورقيبة عيوب وأخطاء ولكنّهم يريدون محاكمته لسبب جوهريّ آخر هو مشروعه الحداثي العظيم الذي ما زال يفسد على الرجعية مخطّطاتها. أنا أستنكر عمليات الاغتيال بل وأناهض عقوبة الإعدام وبالتالي فإنّ مقتل صالح بن يوسف جريمة ولكن يتعيّن التذكير بأنّ المرحوم لم يكن من أتباع «غاندي»، وبأنّه لو ظفر بصاحبه لاستبقه ولقد حاول. نحن اليوم في حاجة إلى السعــــي إلى مصــــالحة تاريخية مع التـــــاريخ لإعطاء الناشئة خير ما فيه. إنّ المستقبل مرتهن إلى تصوّرنــــا له سلبا وإيجـــابا.

8

وبالعودة إلى نبض الشارع كما يقال فلا حديث اليوم إلاّ عن الانتخابات التشريعية والرئاسية المزمع إجراؤها في الخريف القادم. كثرت استطلاعات الرأي المشكوك في مصداقيتها وتعدّدت التخمينات في المقاهي والصالونات حول حظوظ الأحزاب والأشخاص. اللافت للنظر هو سطحية المعلّقين يتحدّثون عن إمكانيات الربح والخسارة عند هذا الفريق أو ذاك دونما تعَرُّض يُذْكر لأيّ برنامج سياسي يستحقّ النقاش أو أيّ مشروع اقتصادي  أو اجتماعي أو تربوي أو ثقافي  وهي محاور تكاد أن تكون غائبة أصلا في البرامج المعلنة. وإحقاقا للحقّ فإن الحزب الدستوري الحر قد أعدّ لحملته الانتخابية برامج مفصّلة يريدها قابلة للتطبيق ولقد دعا لمناقشتها خبراء ليسوا بالضرورة من أتباعه ولقد كنت من بين الذين ناقشوا برنامجه الثقافي فتلقّيت على صفحتي «الفيس بوكية» تأييدا واسعا لما جاء في كلمتي الحرّة حول الهويّة وما ينبغي أن يكون عليه العمل الثقـــافي، إلاّ أني تعرّضت أيضا إلى السخط من قبـــل الذين يكرهون السيدة عبـــير موسي  بدعوى أنّها مـــن الأزلام. وفي هـــذه المـــواقـــف كثير من الاخـــتزال والتبسيط... وفيهــــا على الأقـلّ اعتراض غير مقبــــول على الانفتــــاح الديمقراطي.

9

باسم الديمقراطية حُلَّ الحزب شبه الواحد ووقع تعويضه بـ 218 حزبا وتشتّتت فلوله فانخرطت في معظم الأحزاب الفاعلة على الساحة بما في ذلك النهضة وهناك من قال لقد احترق التجمّع بنار البوعزيزي ولكنّه على غرار طائر الفينيق انبعث من رماده على يدي السيدة عبير موسي التي فتحـت النارّ على النهضة واعدة بحلّها.

10

في غمرة التوقعات والتكهّنات والتمنيات يراهن الكثير على نهاية النهضة أو على تقليم أظافرها على الأقلّ في الموسم الانتخابي القادم. ولكنّ العارفين يدركون أنّ أنصارها ثابتون خلافا لتقلقل أنصار الأحزاب الأخرى. أنا شخصيّا في خلاف فكري جوهري مع الاتّجاه الإسلامي ولكن الانفتاح الديمقراطي يجعلنا نقبل بوجوده حبّ من حبّ وكره من كره. وإذا كان عندي من اعتراض إزاءه غيرِ قابل للتفاوض فهو اسمه. إنّه انتحال لمرحلة مجيدة من مراحل الانبعاث العربي والخروج من عصور الانحطاط. فـ «النهضة» الممتدّة من رفاعة الطهطاوي إلى طه حسين نقيض ثقافي تامّ للحركة التي سطت على المصطلح...

11

مَنْ لرئاسة الجمهورية؟ إلى أن تتبلور الأمور في هذا المجال، أودّ أن أتوجّه بنصيحة إلى السيد المنصف المرزوقي: دعك من الجري وراء السراب فالتاريخ لا يخطئ مرّتين. اخلد إلى الراحة وتمتّع بجراية تقاعدك الملكي وإذا شئت عد إلى ممارسة الطب علاجا لأحقادك. أمّا إذا أصررت على الترشح من جديد فإنّي أسألك: ما هي الدول المتبقية التي تعتزم إفساد علاقاتنا معها إرضاء لمُشَغِّليك؟

12

نحن أهل الشعر والأدب، كلّما استبدّ الجهل من حولنا، وكلّما اصطدمنا بواقع أو بأحداث نعرف جيّدا أسبابها وعواقبها الحتمية دون أن نتمكّن من التأثير فيها، نلوذ بعمدائنا التماسا للحكمة والبيان. ذلك أن أمراء الشعر العربي الكلاسيكي  الموزون والمقفّى من امرئ القيس إلى نزار قباني تركوا لنا مئات الأبيات «الميدالية» أي الصالحة لأن تُنْقَش على وسام أو قطعة نقود وما من حالة مأسوية أو مجيدة من حالات الأمم والأفراد إلاّ ولها في الشعر العربي بيت يشخّصها أو يستخرج منها عبرة.

وفي خضمّ ما نحن فيه يحضرني من أبي العلاء بيتان استخلص فيهما ما تقوم عليه طرائق الحكم من مناورات واستغلال لغفلة العوام:

يَســـُوسُون الأمــــورَ بغــيْرِ عـَقْلٍ        فيَنْفُــــذُ أمْــــرُهمْ ويُقــالُ ســاسَـهْ
فـــأُفَّ مــــن الحيـــاةِ وأُفَّ مِنِّي        ومِــــنْ زمــــنٍ رئـــاستُهُ خَسَـــاسَه


 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.