أحمد الورفلّي- التدخّل السياسي في الشأن الرياضي: السيناريو الجديد
ما زالت وقائع مباراة إياب الدور النهائي لكأس رابطة الأبطال الافريقية 2019 تلقي بظلالها على المشهد الرياضي في تونس، وتشعب الموضوع وتكاثرت التصريحات والآراء والتفاسير، وتكلم في الموضوع كل من له صلة بالرياضة ثم كثير من السياسيين وحتى النقابيين، وأكدوا كلهم تقريبا أن الوداد الرياضي بالدار البيضاء تعرض إلى مظلمة صارخة، بالنسبة لمن تكلم في المغرب، وأن الترجي الرياضي تعرض إلى مظلمة ومهزلة، بالنسبة لمن تكلم في تونس. وهكذا انصرف كل إلى معسكره وطفق يبحث عن الأسانيد التي تعزز موقف صاحبه. أما الأصوات التي تحاول التنسيب من هنا وهناك فهي خافتة وتشكل نشازا غير مقبول خاصة أن الخطاب غطت عليه مسحة "قومجية/شوفينية" مبالغ فيها وصلت بكثيرين من الطرفين إلى الإساءة إلى الشعبين التونسي والمغربي، وهو ما لا يمكن قبوله على الإطلاق.
في خضم النقاش الدائر، لاحظنا لدى بعض الأشخاص نوعا مناستدعاء مفاهيم سياسية أو سياسوية، وربما كان البادئ بذلك هو رئيس الوداد بحديثه في أحد تصريحاته اللاحقة لمباراة الذهاب التي أجريت في الدار البيضاء عن "السيادة" رغم أن الإشكال الوحيد الذي ظهر يتعلق بعدم احتساب هدف وضربة جزاء لم يقتنع بهما الحكم رغم مراجعة آلية الحكم المساعَد بالفيديو "الفار"، ثم ما بدأ ينشر في بعض وسائل الإعلام المرموقة حول تفاصيل ما وقع بين رئيس الحكومة التونسية والأمن التونسي من جهة، ورئيس الاتحاد الافريقي لكرة القدم "الكاف"، من جهة أخرى أثناء المباراة.
فقد نشرت مجلة Jeune Afrique في موقعها الالكتروني بتاريخ 11 جوان 2019 أنه على إثر النقاش الطويل الذي خاضه رئيس الكاف مع عدد من الأشخاص الذين يعسر تحديدهم على حافة الملعب في جو فوضوي عارم، أعلن رئيس الكاف أنه لا ينوي تسليم الكأس للفريق المحلي، فخاطبه رئيس الحكومة بما معناه أنه يطلب منه أو يقترح عليه أن يسلم الكأس للفريق المحلي حتى وإن اقتضى الأمر إعادة المباراة لاحقا، وهو ما قد يكون شكل مؤشرا على عدم تحكم الحكومة والدولة التونسية في الوضع الأمني وخشية أعلى السلطات التنفيذية في البلاد من حدوث كارثة أمنية كبيرة إن لم يقع تسليم الكأس للفريق المحلّي(1).
كما أشارت عدة وسائل إعلام إلى أن السيد أحمد أحمد رئيس الكاف ذكر في أكثر من مناسبة أنه تعرض إلى الضغط والتخويف أثناء المباراة وخصوصا بعد توقف اللعب وفي المرحلة التي تم فيها تسليم الكأس لفريق الترجي الرياضي التونسي.
وامتد النقاش إلى الأبعاد السياسية لبعض الوقائع وذلك خصوصا من خلال مناقشة فرع قرار "الكاف" المؤرخ في 05 جوان 2019 المتعلق بإعادة مباراة الإياب في بلد محايد، حيث إن مثل هذا القرار لا يمكن اتخاذه إلا إذا استنتج الهيكل صاحب القرار أن الدولة المعنية برهنت على أنها "دولة فاشلة" بمفهوم القانون الدولي العام، وهو تقييم خطير جدا لأنه يمس من صورة البلاد، ويتعدى البعد الرياضي بكثير بما أن له تأثيرا كبيرا على جاذبية البد للاستثمار والسياحة وغيرها من الأنشطة.
ولن نمر على النقاشات الأخرى التي ربطت الأحداث بشكل أو بآخر بتهمة الفساد التي يواجهها رئيس الكاف في "فرنسا" بناء على تصريحات السيد عمرو فهمي، الكاتب العام السابق للاتحاد الافريقي لكرة القدم على إثر فسخ عقد مع شركة Puma والتعاقد مع شركة أخرى أقل صيتا، وأيضا باحتمال ارتكاب تدليس من قبل رئيس "الكاف" وبعض الأعضاء الآخرين بأن ذكروا في البلاغ الموجه إلى العموم في 05 جوان 2019 أن قرارهم صدر بإجماع الأعضاء في حين أن بعض الأعضاء لم يحضروا الاجتماع أصلا، وبعضهم غادر قبل انتهاء الاجتماع واتخاذ القرار، والبعض الآخر أكد أنه لم يقع أي تصويت سري ولا علني على مشروع القرار...
وربما كانت الواقعة التي نقلتها مجلة "Jeune Afrique" أو وقائع أخرى هي التي اعتبرها رئيس الكاف ومن أيد قرار 5 جوان 2019 دليلا على التدخل السياسي في المسألة الرياضية.
وينبغي هنا التأكيد على بعض الأمور التي تبدو لنا أساسية.
فمن ناحية أولى، لا شك أن استقلالية الهياكل الرياضية لا تعني ولا يمكن أن تعني أن الأنشطة الرياضية تجرى أو يمكن أن تجرى بمعزل كامل عن كل سلطة عامة في الدولة. فالمباريات الرياضية تجرى على إقليم دولة ذات سيادة، وهذه الدولة توفر خدمات أساسية للتظاهرات الرياضية، لا يمكن أن يقع أي شيء في غيابها. فالدولة المضيفة للمباراة أو التظاهرة هي التي توفّر على الأقل الأمن للحاضرين في الملعب، وهي أدنى الخدمات التي لا محيص عنها، والتي لا يمكن للهياكل الرياضية الخاصة، الدولية والمحلية، تأمينها بنفسها، ولا يمكن للدولة أن تتنازل عنها لأن الأمر يتعلق بصلاحية سيادية وبمسؤولية لا يمكن تفويضها بالكامل إلى الهيئات الرياضية الخاصة. وتتصل بها أمور أخرى، مثل التسهيلات الجمركية لدخول المعدات واللوازم الرياضية، وأيضا توفير المقرات للهيئات الرياضية المختصة. كما توجد خدمات أخرى يمكن للدولة اختياريا تقديمها، مثل توفير الملاعب والمرافق الأخرى، ويمكن أيضا أن تتكفل بها الهيئات الرياضية الأخرى مثل الشركات التجارية الخاصة، وأيضا التزامات عامة أخرى بتوفير النقل وخدمات الاتصال بجودة عالية والمرافق السياحية، وهذه الالتزامات يمكن أن تتكفل بها مؤسسات القطاع الخاص، لكن عموما يقع على عاتق الدولة واجب ضمان التسهيلات اللازمة لتوفيرها بالكيفية المناسبة.
ولذلك فإن جميع الهيئات الرياضية الدولية (اللجنة الأولمبية الدولية، الاتحادات الرياضية مثل الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" والاتحاد الأوروبي لكرة القدم والاتحاد الافريقي لكرة القدم والاتحاد العربي لكرة القدم...) كلها وضعت لوائح وتراتيب وقوانين أساسية تنص على استقلالية الرياضة عن الشأن السياسي، لكن ما إن يتعلق الأمر بتنظيم تظاهرة رياضية دولية حتى تتوجه تلك الهيئات إلى الدولة المستضيفة، فتطلب في البداية التزاما مباشرا من أعلى السلطات العامة في الدولة لطلب تعهد مباشر منها بتوفير كل المستلزمات الضرورية لحسن سير التظاهرة الرياضية، ولا تقتصر على التنسيق مع الهيئات الرياضية المحلية ولا تعول على قوتها المالية والاعلامية والتنظيمية فحسب. وعليه، لتنظيم كأس العالم لكرة القدم، يتلقى الاتحاد الدولي لكرة القدم ترشحات تقدمها له الاتحادات المحلية (كالجامعة الملكية المغربية لكرة القدم في عدة مناسبات) لكن ملفها ينبغي أن يتضمن التزامات من السلطات العامة للدولة بتوفير كل ما تستلزمه التظاهرة. وهذا الالتزام هو قرار سياسي صرف لا أحد يمكنه أن يشكك في صبغته السياسية وفي كونه خيارا سياسيا من الدولة له تبعاته على المستوى الأمني والاقتصادي وأيضا على مستويات أخرى كالحريات الفردية والجماعية وحرية التعبير وحرية اللباس والحريات الدينية...
وفي نهائيات الألعاب الأولمبية وكأس العالم لكرة القدم والكؤوس القارية لكرة القدم، لا أذكر أي دورة لم يحضرها رئيس الدولة أو رئيس حكومة البلاد المستضيفة، سواء في الافتتاح أو في الاختتام أو حتى في بعض المباريات، وقد جرى العمل على أنه من باب المجاملة وأيضا من باب العرفان بالجميل للدولة المستضيفة، توجد قاعدة بروتوكولية ثابتة وهي أن تسليم الميداليات والكؤوس إلى الفريق الفائز أو الرياضيين المتفوقين يقوم به رئيس الدولة أو رئيس الحكومة الحاضر، والذي يكون بجواره رئيس الجهة المنظمة، رمز استقلالية الهيئة الرياضية، التي لا تعلو علو سلطان الهيئة الرياضية على سلطان الدولة.
وعلوية سلطة الدولة تبرز أيضا في زمن الأزمة، وخصوصا حين تظهر شبهات الفساد أو غيره من مخالفات القانون الجزائي، حيث إنه وبقطع النظر عن وجود آليات داخلية لدى الهيئات الرياضية لمكافحة الفساد أو غيره من الظواهر السلبية كالعنف والمنشطات والمخدرات فإن سلطات الدول مؤهلة بلا نقاش لأن تطبق قوانينها الجزائية والإدارية وأن تمارس جميع الصلاحيات التي تمنحها لها تلك القوانين والاتفاقيات الدولية، بما فيها سلطة تفتيش مقرات الاتحادات والهياكل الرياضية وحجز الوثائق والتنصت على المكالمات والاطلاع على المراسلات واعتقال الأشخاص مهما كانوا واستجوابهم واخضاعهم للعقوبات المنصوص عليها في قوانين تلك الدول ولو كانت بالإعدام أو بسلب الحرية أو بمصادرة المكاسب. وتطبق مبادئ القانون الجنائي الدولي حسب ما تنص عليه قوانين مختلف الدول، دون أي استثناء للرياضة وهياكلها. ويمكن لسلطات الدولة أن تقرر أيضا كل ما تنص عليه قوانينها بما في ذلك حل الهياكل المسيرة للمنظمات الرياضية مهما كان نوعها، أو حتى حل تلك الهياكل الرياضية نفسها، مع مراعاة الاتفاقيات الدولية التي قد تكون مبرمة مع تلك الدولة ومبادئ العرف الدولي إن كانت هياكل رياضية دولية.
فاستقلالية الرياضة لا تعني أن الهياكل الرياضية استحالت أو يمكنها أن تستحيل دولا فوق الدول أو بجوار الدول. والرياضة تحتاج إلى السياسيين بقدر ما يحتاج السياسيون إلى الدولة. ورؤساء الحكومات والدول لا يحضرون المباريات الرياضية بقرار منهم بل بدعوة رسمية من الهياكل الرياضية المشرفة، وهم يحضرونها بصفاتهم الرسمية لا لمجرد كونهم مواطنين بالدولة المستضيفة. ولذلك فقد نشأت أعراف في التعامل بين الشخصيات الرسمية التي تحضر المباريات الرياضية والهياكل الرياضية، تقتضي أمرين أساسيين على الأقل:
(أ) أن الشخصية السياسية الحاضرة ينبغي أن تتعامل بكثير من الحذر بحيث لا تسعى إلى فرض أي قرار على الهيكل الرياضي أو على حكام المباريات، سواء قبل المباريات أو أثناءها، فتقتصر على دور بروتوكولي، من مقتضياته أن يسلم رئيس الدولة أو رئيس الحكومة أو الشخصية الحاضرة بالملعب لتمثيل أعلى سلطاتها رمز البطولة لأي فريق فائز، وأن لا يمتنع عن تسليمها لفريق زائر حتى ولو فاز فوزا ساحقا على الفريق المحلي. غير أن ذلك لا يعني أن رمز الدولة الحاضر بالملعب لا حقّ له في التعبير بأي شكل عن مساندته لفريق بلاده، بل إن بعض الرؤساء والشخصيات الرسمية يلبسون زي المنتخب المحلي أو ملابس تدل على مساندتهم له، أو يساهمون في أهازيج الجماهير، في حين يختار البعض الآخر مظهر الوقار والحياد الكلي البارد، وبعضهم يواسي الفريق المحلي عند الهزيمة بدرجات من الحماس تتفاوت من شخص إلى آخر، وهو خيار سياسيّ يمارسه رمز الدولة بكامل الحريّة ولا يعتبر مساسا من استقلالية الهيكل الرياضي، لأن السياسي غير مطالب بالحياد في هذا الجانب، ولو أحرج ممثل الهيكل الرياضي المعنيّ؛
(ب) أن ممثل الهيكل الرياضي المنظم للتظاهرة هو الذي يسلم الميداليات والكؤوس إلى الشخصيات الرسمية الحاضرة بالملعب، وخصوصا رمز البطولة، وخصوصا أعلى الشخصيات السياسية الحاضرة، والشخصية السياسية تقوم بتسليم الكأس أو الميداليات إلى الفريق الفائز. وبعد تسليم رمز البطولة، يتم تقاسم الأدوار بين الشخصية الرسمية التابعة للدولة المضيفة والشخصيات العليا في الهيكل الرياضي المنظم للتظاهرة في تسليم الميداليات ورموز التشجيع للفريق الفائز والفريق المهزوم.
(ت) أن الهيكل الرياضي وممثليه الحاضرين بالملعب مطالبون أيضا بأن يحترموا مظاهر سيادة الدولة وأن لا يظهروا بمظهر من يتحدى سلطانها، وذلك بناء على مبدأ المجاملة principe de courtoisie الذي يسود العلاقات الدولية عموما؛
(ث) أن الهيكل الرياضي وممثليه الحاضرين بالملعب مطالبون أيضا بأن يحترموا التزامات رئيس الدولة أو رئيس الحكومة الحاضر بالملعب. فرئيس الدولة أو رئيس الحكومة الذي يحضر بالملعب يكون له وقت محدود يفترض أن يقضيه في الملعب، وليس من اللائق أن يتم احتجازه في الملعب لوقت يتجاوز القدر المعقول بشكل فادح. فلئن كان من واجبه أن يقرأ حسابا لما يمكن أن يحيط بالمباراة من وقت ضائع وحصص إضافية وامكانية اللجوء إلى ضربات الجزاء الترجيحية، فإنه من غير المعقول ولا المقبول أن يتم حجز رئيس الحكومة أو رئيس الجمهورية لوقت غير محدود بسبب مخالفة رئيس الجهة المنظمة للتظاهرة لمبادئ تنظيم المباريات الرياضية ومنها: (1) مبدأ علوية سلطة الحكم فوق الميدان وانفراده بسلطة اتخاذ القرارات المتعلقة بسير المباراة، سواء كانت قراراته صحيحة أم خاطئة حسب تقدير الأشخاص الحاضرين مهما كانت وظائفهم الإدارية، و(2) اختصاص هياكل محددة بمراجعة قرارات الحكام، وذلك في إطار اجتماعات تتم الدعوة لها بعد انتهاء المباريات ووفق إجراءات محددة. فبالرجوع إلى مباراة الترجي الرياضي التونسي والوداد الرياضي بالدار البيضاء، لا شك في أن رئيس "الكاف" خرق كل القوانين والتراتيب الجاري بها العمل بنزوله إلى ميدان اللعب ومنافسة الحكم في اختصاصه الحصري والتشويش عليه إلى حد تهميشه والتغطية الكلية عليه، كما أنه أحدث بصفة عشوائية وفوضوية هيكلا لا أصل له في أي قوانين أو لوائح مهمته الفصل في ما يتعلق بكيفية إدارة المباراة قبل انتهائها، دون أي هيكلة واضحة، وذلك بأن اجتمع ببعض أعضاء المكتب التنفيذي الحاضرين معه في الملعب لمناقشة مصير المباراة والبت في صحة الهدف المتنازع فيه (والصحيح دون ريب) الذي سجله مهاجم الوداد الرياضي المغربي وتحديد الفريق الفائز وتحديد زمن الاعلان عن نهاية المباراة، في حين أنه لا وجود لهيكل مماثل في لوائح "الكاف" نفسها، ولا وجود لإجراءات تنظم كيفية الدعوة لاجتماعاته وتحديد جدول أعمالها وكيفية اتخاذ القرارات وحدود صلاحياته...
فالتصرف الصحيح في ما يتعلق بالمباراة المذكورة كان يتمثل في ترك الحكم يقوم بدوره الطبيعي في إدارة المباراة، بما في ذلك اتخاذ قرار اللجوء إلى "الفار" من عدمه، والتصريح بصحة الهدف من عدمه، ودعوة الفريق الممتنع إلى استئناف اللعب، وترتيب النتائج التي يراها صحيحة على عدم استئناف اللعب، ثم الاعلان في زمن ما عن نهاية المباراة وعن نتيجة المباراة التي لا يوجد في الملعب من هو مؤهل لمناقشتها أو نقضها أو إلغائها، بمن في ذلك رئيس "الكاف" بمفرده أو بمعية الأعضاء الحاضرين معه. فإلغاء نتيجة المباراة ممكن، لكن ذلك لا يقع إلا في اجتماع رسمي للجنة التنفيذية (مجلس إدارة "الكاف") تتم الدعوة له وفق لوائح الكاف وقانونها الأساسي، ويمنح الأعضاء مهلة لحضوره، ويتم ضبط جدول أعماله ويقع إرساله إلى الأعضاء، ويتم إعداد الوثائق والتقارير اللازمة لتمكين الأعضاء من التصويت على مشاريع القرارات عن علم وروية وتبصّر... وبالرجوع إلى تسلسل الوقائع فإن هذاهوماحصلفعلا حسب الروايات المتطابقة، إذ أن رئيس "الكاف" وبعد أن حاول حسب الروايات التي تناقلتها وسائل الإعلام أن يتهرب من تسليم الكأس إلى أي فريق (وهو تصرف غير قانوني لأن فيه سطوا فاحشا ومباشرا على صلاحيات المكتب التنفيذي "للكاف" بعد السطو على صلاحيات الحكم، يقوم على إلغاء نتيجة المباراة)، قبل بتسليم الكأس إلى الفريق المحلي الذي أعلنه الحكم فائزا بعد انسحاب الفريق المنافس (علما بأن الانسحاب هو واقعة قانونيةun fait juridique وليس عملا قانونياun acte juridique، يتمثل في ترك اللعب وعدم الامتثال لقرار الحكم القاضي باستئناف اللعب).
وبالرجوع إلى الجملة التي تنسب إلى رئيس الحكومة التونسية، وعلى فرض صحة هذه الواقعة، أرى أنه من الصواب توضيح ما يأتي:
أولا: إن النطق بجملة واحدة يمكن أن يشكل تدخلا سياسيا فادحا في الشأن الرياضي يبرر ترتيب كل النتائج القانونية الخطيرة المترتبة حسب اللوائح على مثل هذا التدخل. فالعبرة ليست بعدد الكلمات ولا بحدة الصوت أو باللهجة التي يتم نطقها بها، ولا أيضا بهوية الشخص الذي يتم توجيهها إليه؛
ثانيا: إن التدخل السياسي قد يتمثل حتى في السكوت، لأن "السكوت في موضع الكلام بيان"؛
ثالثا: إن التدخل السياسي لا يتمثل بالضرورة في موقف يتخذه رأس الدولة أو رأس السلطة التنفيذية في الدولة المضيفة. فيمكن أن يقع من خلال تصرف أو موقف صادر عن شخص آخر له وظيفة سياسية رسمية في الدولة له مرتبة دون ذلك، حتى في حضور رئيس الدولة أو رئيس الحكومة؛
رابعا: إن المعتبر في القول بوجود التدخل السياسي من عدمه هو تظافر عدة مؤشرات على أن السلطة السياسية ترغب في فرض قرار على السلطة الرياضية، وأن الأمر يتعلق باستعمال وسائل للغصب والإكراه، بما في ذلك التخويف أو الإكراه المعنوي، وأن الأمر لا يتعلق بمجرد اقتراح أو نقاش عادي، وأن التدخل السياسي يتمثل في تصرف أو قول خارج عن السياق العادي للأمور.
أما في صورة الحال فإن رئيس الحكومة التونسية تدخل لاقتراح حل لتنتهي المباراة ويفهم الجمهور الحاضر أن المباراة انتهت، كما أنه من غير اللائق بروتوكوليا وغير المقبول منطقيا أن يغادر رئيس الحكومة الملعب دون القيام بالمهمة التي حضر من أجلها وهي تسليم رمز البطولة إلى الفريق الفائز. فهو لم يحضر المباراة كمتفرج، وحضور المباراة ليس امتيازا كما لو تعلق الأمر بمتفرج عادي تمت دعوته للحضور مجانا بالمنصة الشرفية، بل هو التزام مهني يدخل في جدول أعماله وفي سياسات دولته، ومن ثمة فمن المهين للدولة ولرمزها الذي حضر المباراة أن يغادر الملعب من الباب الصغير في جو من الفوضى الكاملة ودون تسليم رمز البطولة إلى الفريق الفائز. ولا شك أنه غير مطلوب من رئيس الحكومة ومن مساعديه وسامي المسؤولين في الدولة أن يكونوا من الجهلة الذين لا يفقهون شيئا في القوانين الرياضية. فمن البديهي أن الفريق الفائز هو الفريق الذي أعلنه الحكم فائزا، وأن الفريق الفائز من حقه أن يتحصل على رمز البطولة، ومن ثمة فإن اقتراح رئيس الحكومة على رئيس "الكاف" أن يتم تسليم رمز البطولة إلى الفريق الفائز بقرار من الحكم حتى ولو اقتضى الأمر مراجعة قرار الحكم وإلغاؤه لاحقا يندرج في السياق العادي للأمور، ولا ينم عن رغبة في فرض قرار محدّد على الهيكل الرياضي، الذي تم تذكيره في نفس الاقتراح بأن من حقه أن يراجع قرار الحكم لاحقا طبق اللوائح الجاري بها العمل، وأخيرا فإن هذا القرار لم يكن مصحوبا بأي تهديد أو فعل يدلّ على اعتزام السلطة الحاكمة في الدولة فرض قرار محدد على الهيكل الرياضي. فإن انتاب رئيس "الكاف" شعور بالخوف أو بالفزع مثلما نقلت عنه بعض وسائل الإعلام، فهذا أمر يعود إلى بنيته النفسية الهشة، وإلى أنه أضعف نفسه بأن خرج عن القوانين والنواميس بنزوله إلى الميدان، ووضع نفسه في موقف محرج فأضعف سلطته بنفسه، هذا إن لم يكن هناك سبب آخر يجعله يخشى من التعرض إلى ملاحقات قانونية مشروعة في تونس وخارجها. وفي مطلق الأحوال فإن تكييف العبارة التي صدرت عن رئيس الحكومة على أنها من قبيل التدخل السياسي يحتاج إلى تظافر عدة مؤشرات وعناصر أخرى تدل على أن السلطات التونسية قصدت حمل الكاف على ما لا ترتضيه، وأن السيد أحمد أحمد لم تكن له أي فرصة لمخالفة هذا "الطلب" أو للتصدي له أو لمناقشته، وهو أمر لا يمكن افتراضه أو التسليم به لمجرّد تصريح رئيس الكاف بأنه أحسّ بالفزع.
خاتمة
إن التدخل السياسي في الشأن الرياضي أمرٌ على غاية الخطورة والأهمية، وتترتب عليه عواقب خطيرة، ولا يمكن أن يتمثل في اقتراح من رئيس الحكومة الذي أصابه الملل الشديد بعد أن عطّل رئيس "الكاف" المباراة دون صفة ولا إجراءات ولا منطق لمدة تقارب ساعة ونصف الساعة، ومع اقتراب السحور في أواخر شهر رمضان. ورئيس الحكومة التونسية ليس شخصا عاطلا عن العمل حتى يسمح لنفسه بالسهر إلى الفجر لأنه مطالب ككل إنسان بأن يعود إلى منزله قبل موعد السحور بوقت معقول، كما تنتظره دون شك سلسلة من المهام والمواعيد في صبيحة اليوم الموالي، واقتراحه أن يتم تسليم الكأس لمن يفترض منطق الأشياء تسليمها له، مع الإشارة الصريحة إلى أنه يبقى للجهات المختصة بـ"الكاف" أن تلغي هذه النتيجة وأن تعيد المباراة بقرار لاحق هو اقتراح عملي لوضع حد لحالة الترقب التي بدت بلا نهاية وأصبحت مزعجة لكل الناس وخاصة للجمهور الذي لم يفهم شيئا مما يدور، ولأعضاء الحكومة الذين كان من الحتمي أن تنتهي هذه الأمسية الرياضية بالنسبة لهم بما يحترم التزاماتهم السياسية الموالية، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يشكل تدخّلا سياسيا.
قوسٌ بدأ ينفتح وسيُسيل كثيرا من الحبر، أغلبه في الهذر واللّغو.
أحمد الورفلّي
محام لدى التعقيب – محكّم دولي
(1)
« Finale de la Ligue des champions à rejouer : ce que Youssef Chahed a dit à Ahmad Ahmad », | 11 juin 2019 à 14h00 | Par Jeune Afrique, Mis à jour le 12 juin 2019 à 10h20https://www.jeuneafrique.com/mag/786157/societe/finale-de-ligue-des-champions-a-rejouer-ce-que-youssef-chahed-a-dit-a-ahmad-ahmad/ ; « Selon “Jeune Afrique”, Youssef Chahed a demandé d’accorder la victoire à l’Espérance de Tunis pour éviter d’embraser le stade », Tunisie Numérique, 12 Juin 2019 à 13:16, https://sport.tunisienumerique.com/selon-jeune-afrique-youssef-chahed-a-demande-daccorder-la-victoire-a-lesperance-de-tunis-pour-eviter-dembraser-le-stade/
- اكتب تعليق
- تعليق