أخبار - 2019.06.17

عبد الحفيظ الهرڤام: تـونـــس الــمنــسيّـــة

عبد الحفيظ الهرڤام: تـونـــس الــمنــسيّـــة

ماسرّ تصدّر نبيل القروي لنوايا التصويت في الانتخابات الرئاسية المقبلة حسب عمليات سبر لآراء الناخبين أجريت في المدّة الأخيرة؟ ردّا على هذا السؤال يقول صاحب مؤسّسة متخصّصة في تحليل المعطيات وتوجُّهات الرأي العامّ تولَّت استجواب عيّنة من المواطنين إنّ ما يناهز ثلث المستجوبين يرون في صاحب قناة نسمة الشخص المؤهّل أكثر من غيره لتحقيق تطلّعاتهم إلى حياة كريمة ولانتشال العديد من التونسيين من حالة  الضنك والخصاصة التي تردّوا فيها.

وبغضّ النظرعن رأينا في الأساليب التي ما انفكّ ينتهجها هذا المترشّح للرئاسة لاستمالة الفقراء والمنسيّين الذين ظلّوا لسنوات عديدة على حافة طريق التنمية فإنّ الحقيقة التي لا مراء فيها هي أنّ نبيل القروي الطامح إلى الاضطلاع بدور سياسي بارز في تونس مستقبلا استطاع -أحببنا أم كرهنا- أن يستغلّ منذ ما لا يقلّ عن ثلاثة أعوام الفراغ الرهيب الذي تركته السلطة الجهوية والمحلية بغيابها أحيانا كثيرة عن الميدان وبسوء حوكمتها في توزيع الإعانات الاجتماعية وبتقصيرها في الإصغاء إلى شواغل المواطنين لكي يرفع لواء التغيير والعدالة الاجتماعية والانتصار لتونس المنسيّة في ظلّ وضع اقتصادي واجتماعي مأزوم. ومن سمات هذا الوضع انخفاض الإنتاج وارتفاع نسبة التضخّم واتساع دائرة التهميش والحرمان وتدهور المقدرة الشرائيّة للمواطن، إذ لم يبلغ معدّل تطوّرها منذ 2011 سوى 2,8 بالمائة مقابل 4,2 بين 1998 و2010. كما شهدت المقدرة الشرائيّة للأسرة انخفاضا تراكميا بنسبة 3,6 بالمائة مقابل ارتفاع في حدود 19,3 بالمائة في الثماني سنوات السابقة لسنة 2011، وهو ما أدّى بالخصوص إلى تآكل الطبقة الوسطى التي كانت تمثّل قرابة 80 بالمائة من السكّان. نضيف إلى ذلك انسداد أفق التشغيل أمام جحافل متزايدة من العاطلين عن العمل وتدنّي جودة خدمات المرافق العمومية وتفاقم الفوارق الجهويّة، ممّا جلب على الطبقة السياسية حُكْما ومعارضة غضب أعداد وافرة من التونسيين ونقمتهم.

وغير خاف اليوم أنّ هذه الفوارق التي قامت بسببها الانتفاضة الشعبية في جانفي 2011 ظلّت منذ ذلك التاريخ مصدر توتّر دائم منذر بتعمّق الشرخ الاجتماعي وتوسّع رقعة الاحتجاجات لا سيّما في الجهات المحرومة في غياب إصلاحات هيكلية جريئة تعالج مواطن الخلل في منوال التنمية.

ولإدارك حجم هذه الفوارق ولتبيّن تجلّياتها، يمكن الرجوع إلى دراسة أجراها المعهد التونسي للتنافسية والدراسات الكمية ونشرها في ديسمبر 2014 حول الفوارق الجهويّة في تونس. وقد اعْتُمد في هذه الدراسة على عدد من المؤشّرات تعكس مستوى التنمية أو مستوى التهميش تتعلّق بالظروف الاقتصادية والاجتماعية في كلّ جهة من الجهات انطلاقا من المعتمدية للوصول إلى رسم كارتوغرافيا لمختلف المعتمديات وتصنيفها.

كما يجدر الرجوع في هذا السياق إلى دراسة أخرى نشرها المعهد نفسه في ماي 2017 باللغة الفرنسية وعنوانها «التمييز الإيجابي : مبدأ دستوري يتعيّن تجسيمه للنهوض بالتشغيل اللائق في الجهات».

وتزخر هذه الدراسة المنجزة لحساب أطراف العقد الاجتماعي (الحكومة واتحاد الشغل ومنظّمة الأعراف) الممضى في 14 جانفي 2013 بالعديد من المعطيات التي تبرز الفوارق الاقتصادية والاجتماعية المجحفة بين الجهات في مجالات عدّة.

فبخصوص الانقطاع عن الدراسة  خلال الموسم الدراسي 2015 - 2016 على سبيل المثال تتصدّر ولاية القصرين جدول أعلى النسب في التعليم الابتدائي بـ 2,3 بالمائة مقابل 0,3 بالمائة في ولاية منّوبة .وفِي التعليم الأساسي بلغت هذه النسبة في ولاية القيروان 11,8 بالمائة مقابل 5,4 بالمائة في ولاية بن عروس في حين سجّلت ولاية جندوبة أعلى نسبة انقطاع عن الدراسة في التعليم الثانوي حيث قدّرت بـ 18,9 بالمائة مقابل 8,8 بالمائة في تونس 1.

ووفق ذات الدراسة يجد تلاميذ الجهات الداخلية والأحياء الفقيرة صعوبة في الالتحاق بكليات الطبّ والمدارس التحضيرية التي يشترط لمزاولة التعليم فيها الحصول على معدّل في الباكالوريا يفوق 17 على 20 ، ممّا يعني أنّه يتعذّر على الطالب أصيل هذه المناطق أن يصبح طبيبا أو مهندسا. وفي حين بلغت نسبة الناجحين في شهادة الباكالوريا خلال الموسم الدراسي 2015 - 2016 بمعدّل يترواح بين 16 و18 على 20، 11,6 بالمائة في تونس 1 و11,5 بالمائة في ولاية أريانة و11,2 بالمائة في ولاية صفاقس فإنّها قُدّرت بـ 0,5 بالمائة في ولاية قبلي وبـ 0,4 بالمائة في ولايتي زغوان وتوزر.

وفيما يتعلّق بالبطالة فإنّ أضعف نسبة آلت إلى معتمدية صيادة-لمطة- بوحجر من ولاية المنستير (10,5 بالمائة)  وأكثرها ارتفاعا سُجِّلت في معتمدية ذهيبة من ولاية تطاوين (42 بالمائة) وفي معتمدية الرديف من ولاية قفصة (39 بالمائة).

أمّا في القطاع الصحّي فإنّ الفوارق في مستوى عرض الخدمات تبدو جليّة، إذ يبلغ معدّل المسافة الفاصلة عن مستشفى جهوي 8 كلم في ولاية بن عروس و46 كلم في ولاية القيروان و50 كلم في ولاية القصرين و59 كلم في ولاية تطاوين، بينما تبلغ كثافة توفّر أطبّاء الاختصاص لكلّ 100 ألف ساكن 209 في ولاية تونس و8,2 في ولاية تطاوين.

وعلى الرغم من التنصيص على التمييز الإيجابي في دستور 27 جانفي 2014 فإنّه لم يجد إلى حدّ الآن طريقه إلى التجسيم  إذ صار غاية تُطلب فلا تُدرك جرّاء استمرار الحكومات المتعاقبة منذ ذلك التاريخ  في العمل تحت الضغوط الناجمة عن إكراهات الحاضر ونتيجة انعدام الرؤية السياسية الموحّدة والثاقبة التي من شأنها أن تضمن تكافؤ الفرص باتّخاذ إجراءات تشريعية وقانونية استثنائية لفائدة الأفراد والجهات والقطاعات لخلق الظروف الملائمة لتنمية عادلة من خلال اندماج عمودي للأنشطة الاقتصادية يمكّن من تعزيز سلسلة القيم وتثمين الموارد المادّية والطبيعية المحليّة.

لعلّنا لا نجافي الحقيقة إذا ما اعتبرنا أنّ أهمّ رهان في الانتخابات القادمة ليس وصول هذا المترشّح  أو ذاك إلى موقع السلطة أو فوز هذه االقائمات أو تلك بمقاعد  في المجلس النيابي وإنّما يكمن في العرض السياسي الكفيل بالنهوض بتونس المنسيّة من خلال معالجة الفوارق الاقتصادية والاجتماعية المتنامية بين الأفراد والجهات وتحقيق العدالة الاجتماعية التي أضحت مطلبا شعبيا مُلحّا وضمان مقوّمات الكرامة بمفهومها الواسع لكلّ التونسيين.

عبد الحفيظ الهرڤام

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.