»جمع المبعثر« لبوجمعة الرميلي أو الـطـريق نحو الخـلاص
من آخر ما صدر عن «الديوان للنشر» كتاب بعنوان «جمـْع المُبعثر، مساهمة في حلّ المسألة السياسية» لبوجمعة الرميلي، أحد مؤسّسي حركة «نداء تونس» والقيادي السابق في الحزب الشيوعي التونسي وحركة التجديد والمسار الديمقراطي الاجتماعي والخبير في مجال التنمية. والكتاب الذي يقع في 283 صفحة قراءة نقديّة وعلمية للأوضاع في تونس في السنوات الثماني الأخيرة وما قبل منظورا إليها من أبعاد ثلاثة: السياسي والمؤسساتي والتنموي من خلال تفكيك هذه الثلاثية، كلّ بعد على حدة وفي علاقته البينية بالبعدين الآخرين من أجل إعادة تركيبها بالشكل الذي اعتبره بوجمعة الرميلي المطلوب. ينتقد الكاتب الطريقة المرتجلة التي عولجت بها الأوضاع في تونس دون تمثّل لكُنه الأزمة المعقّدة التي تعيشها البلاد في سياق انتقالي- وهي في نظره أزمة مزدوجة «تشمل في نفس الوقت الحصيلة الضعيفة للمسيرة المطوّلة جدًّا وغياب الأفق»- محاولا إعادة صياغة شاملة لمتطلّبات الإصلاح «كمعالجة تنبني على الوقوف على أسباب الفشل الحقيقية لاجتثاثها من الجذور وضرب الداء في الصميم وتجنيب البلاد أوهاما جديدة، كم هي في غنى عنها».
وفي تشخيصه للأزمة يبيّن بوجمعة الرميلي أنّ تونس تعاني فراغا مرعبا في خصوص مسألة البناء السياسي، الذي من المطلوب أن يكون عن طريق قوّة سياسية متماسكة ومؤثّرة شعبيا هدفها بناء دولة مؤسّسات وحوكمة رشيدة بالديمقراطية والشفافية لإرساء نمط مجتمعي تونسي خالص يؤسّس على المكاسب العظيمة لدولة الاستقلال ويقطع بالبلاد شوطا جديدا لا يقلّ تاريخية عن الذي سبقه، مبني على حماية الدولة من الأطماع والجشع الفئوي والحزبي. ويعتبر المؤلّف أنّ من أسباب حالة التخبُّط في التعامل مع الأزمة غياب مناهج تحليل وتصوّر خارجة عن المناهج التقليدية التي تستعمل يوميا وفِي كلّ البلدان ومن طرف المتدخّلين سواء كانوا من داخل البلاد المعنية أو من الأوساط المالية الخارجية المانحة، موضّحا أنّ «تناول مشاكل الاقتصاد التونسي في ظروفه الجديدة بالأساليب والأدوات الكلاسيكية تناول مغلوط، سقط فيه الكثير، إن لم نقل الجميع ، فكان المردود الفكري والإجرائي هزيلا وبقيت البلاد تتخبّط في جملة من التناقضات العقيمة والصراعات غير المجدية، وصولا إلى الشكّ الواسع والحيرة المتأصّلة، التي من نتائجها مناداة البعض بالرجوع إلى القديم، بينما القديم انهار بدون رجعة تحت وطأة أزمته الداخلية الحادة وانسداد كلّ آفاقه».
ويؤكّد بوجمعة الرميلي أنّه لم يقع التفطّن إلى أنّ ما يحصل للاقتصاد التونسي ليس مرتبطا بالاقتصاد نفسه وإنّٰما بـ «ما وراء الاقتصاد» المتمثّل أساسا في الافتقاد إلى تشكّل منظومة تشدّه وتتحكّم في سيره حسب آليات توجّهه نحو المدار الذي يترجم التوازنات الجديدة، مضيفا أنّ ما حصل في تونس من قبل الحكومات المتتالية والمنظمات الدولية المانحة، المتابعة والمؤطرة لمختلف الاقتصاديات «تمثّل في البحث عن القرارات التي تمكّن نموذج النمّو التونسي من العودة بسرعة إلى «الوضع الاعتيادي» وكأنّ الثورة مجرّد قوس فُتح ليغلق بسرعة، أو مجرّد زلّة عن المعهود، لا تتطلّب إلا إصلاح الاعوجاج الطارئ في شأنها.
ويرى بوجمعة الرميلي أنّ ما عطّل المسيرة التنموية وأدخلها في أزمة حادّة هو عدم التوصّل إلى عقد اجتماعي جديد كان من شأنه أن يوفّر الحزام السياسي الضروري لكي تتمكّن مجمل السلط التشريعية والتنفيذية من القيام بمهامها بالتناغم والتكامل والنجاعة المطلوبة، مشيرا إلى أنّ الملفّ التنموي سوف لن يجد الحلول الملائمة إلا ضمن تصوّر وتمشّ أوسع وأشمل من الحدود التقليدية للتنمية المبلورة في مخطّطات تطغى عليها الصبغة التقنية الترقيمية على حساب شرط التناسق الذي يربط ما هو خصوصي لكل ملفّ بمختلف محاور كامل المشروع التنموي في وحدته وبالتناغم بين مكوّناته وبتفاعله الداخلي. وللخروج من الأزمة بأبعادها المختلفة يبسط بوجمعة الرميلي ملامح منوال تنموي جديد ويدعو إلى إعداد خطّة وطنية للتنظيم المجالي والتنمية الجهويّة وإيجاد سياسة تهيئة ترابية واندماج «ما بين إقليمي وداخلي وإقليمي inter et intra districts، وبنى تحتية موسومة بالعقلانية في التصوّر والاستغلال حسب متطلبات التنمية الوطنية والجهويّة في ارتباطها وتماسكها. وبالنظر إلى أنّ الجنوب يفتقر إلى قطب تنموي كبير يلعب دور المحرّك والمدمج لتنمية المنطقة في مجملها، فإنّه يعتقد أنّ دور الدولة محوري في هذا المجال وقد يتطلب ذلك في تقديره بعث «وزارة تنمية الجنوب». ويقترح بوجمعة الرميلي جملة من الإجراءات الجريئة لمقاومة دوّامة التضخّم وآثاره السلبية في القدرة الشرائيّة للمواطن ويشدّد على أهميّة التركيز الكامل على منظومات الإنتاج وما يرتبط بها من تسويق وتسعير ومراقبة ومتابعة ودعم وإحاطة وتأطير حتى ينتعش الإنتاج وتتحسّن موارد الدولة.
كما يقترح في الميدان السياسي إنشاء مرصد وطني لمتابعة الشؤون الحزبية والتطوّر الديمقراطي يعنى بنشاط الأحزاب ونوعية برامجها ومبادراتها ومساهماتها في مختلف المجالات وتعديل القانون الانتخابي قصد إصلاح منظومة الحكم في اتّجاه تمكين الحزب الفائز في كلّ دائرة من ربع أو ثلث الأصوات ثمّ اقتسام الأصوات الأخرى بالنسبية. ما يشدّ الانتباه في الكتاب امتلاك مؤلّفه ناصية التحليل العلمي وعقلانية تمشيّه في عرض الإشكالات وطرق معالجتها، فضلا عن إلمامه الواسع بالشأنين السياسي والتنموي. الكتاب جدير بالاهتمام من حيث هو تدقيق صارم في الجذور العميقة للأوضاع القائمة بأسلوب هادئ رصين ومساهمة جادّة في رسم الطريق نحو خلاص البلاد من أزمتها المستفحلة.!
عبد الحفيظ الهرقام
- اكتب تعليق
- تعليق