مختار اللواتي: حتى يليق بنا الاحتفال بعيد الشغل
كم هو شاقٌ ومُضنٍ أن تصدع ولو ببعضٍ من حقيقة في ضوضاء الشارع السياسي لبلدنا.. الصياح يطبق على الآفاق... والصمم يسد الآذان.. وطواحين الهواء دائمة الدوران، فيما الأشرار والأغبياء، معا، يمضون في هدمٍ منهجي لأسس الدولة، أيا كانت صفتها ونعتها، وتفقيرٍ حثيث لشعبها من أجل تسليم مفاتيحها، بالكامل في النهاية، للسماسرة والقوادين لبيع أصولها لأول المشترين..
فهل في مثل هكذا أجواء يحلو الاحتفال بالأعياد، أيا كان نوع الأعياد ومسمياتها؟! أم إن المفروض أن تكون مواعيد أعيادنا فرصا للتأمل، بعقل وروية، ولإعلاء صوت الحكمة بشجاعة وهدوء، علّ العقول تثوب إلى رشدها، والأناوات تتراجع عن تطاوسها ونفش ريشها، والآذان تنفتح للإصغاء، والألسن تكف عن المهاترات؟
هو مسلك شائك ما في ذلك شك، ولكن لامفر من دخوله عسى يأخذنا إلى طريق معبدة آمنة. ونون الجمع هنا تعود على الوطنيات والوطنيين مهما اختلفت رؤاهم ومشاربهم..
وبما إننا اليوم إزاء واحد من هذه الأعياد هو من بين أعمقها دلالة وقيمة، ونعني به العيد العالمي للشغل، او للعمال، بحسب مادأب عليه كل شعب في تسمية هذا العيد، فماعسانا نقول ونفعل احتفاءً بقدومه؟
بدءً، لاجدال في أن الجميع يقر بأن الشغل قيمة أساسية في حياة الإنسان، تجمع بين الحق والواجب! وإذا كان هذا الحق تكفله الدولة لمواطناتها ومواطنيها، فإن الواجب المكمل للمعادلة، يعود إلى هؤلاء المواطنين والمواطنات بعدم التقاعس عن طلب حقهم فيه، وعن حسن أدائه بهمة وضمير عند الظفر به بعد ذلك. وإلى أصحاب العمل، مؤسسات دولة كانوا أو قطاعا خاصا، باحترام التشريعات والقوانين الضابطة للعلاقة بين الجانبين ولحقوق الطرفين وواجباتهما.
ولكن هل إن توفير الشغل لذاته شرط بقدر وجوبه، هو كافٍ؟ طبعا لا! فالشغل الذي لا يحفظ كرامة الإنسان، ولا يقوم على المساواة بين طالباته وطالبيه، في الفرص وفي الأجر، بما يؤمّن لهم جميعا حياة كريمة، وظروف عمل لائقة، ينقلب إلى كابوس يقضّ مضاجع الشغالات والشغالين وعائلاتهم سواء بسواء!
ومن أجل تأمين تحقيق هذه الشروط وتقنينها خاض الشغالون بدءً بالبلدان الغربية في منتصف القرن التاسع عشر، مثل أستراليا وإنجلترا وأمريكا، نضالات مريرة تنظموا في خضمّها في نقابات واتحادات نقابية محلية وإقليمية وعالمية، تسهر على تأطير نضالاتهم وتوحيد صفوفهم. فقررت جعل اليوم الأول من هذا الشهر، ماي، يوم عيد عالميا لإحياء ذكرى سقوط عدد من العمال ومن رجال البوليس أيضا في الأول من ماي من عام 1886 في مدينة شيكاغو الأمريكية صرعى رصاص الشرطة والجيش وانفجار قنبلة اتضح أن أحد عناصر المخابرات هو من ألقاها لتشويه نضال ومطالب العمال بإعادة تقسيم ساعات اليوم بين "ثمانٍ للعمل وثمانٍ للنوم و ثماني ساعات فراغ للراحة والاستمتاع" مثلما جاءت في شعاراتهم. كما تم اعتقال جمع من العمال المشاركين في تلك التظاهرة المرافقة لإضراب عالي المشاركة قُدر عدد منفذيه مابين 350 ألف و400 ألف عامل. وقد أصدرت المحكمة حينها حكم الإعدام على أربعة منهم!
بعد ذلك شهد العمل النقابي توسعا وتعمقا في المفهوم وعلى مر السنين، وخاصة في البلدان المستعمَرة التي خاضت نضالات متعددة الأوجه والأساليب من أجل التحرر من ربقة الاستعمار واسترجاع سيادتها على أراضيها. وكانت تونس من بين تلك الشعوب التي لم تستسلم للأمر الاستعماري الواقع. فنشأت بها حركة نقابية بالتوازي مع ميلاد حركات سياسية ذات أهداف تحررية، اجتماعيا وسياديا، منذ الربع الأول من القرن العشرين منذ بعث جامعة عموم العملة وتأسيس الحزب الشيوعي التونسي والحزب الحر الدستوري التونسي في 1920، مرورا بتأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل في 1946 وبعث الحزب الحر الدستوري الجديد، منشقا عن الحزب القديم، في 1932.
وقد كان البعد الوطني في نضال المنظمة الشغيلة التونسية لصيقا للبعد الاجتماعي. كما كان الاهتمام بوجوب الدفاع عن مطالب وحقوق عموم الفئات الشعبية في جوهر خطها النضالي. وماكان اغتيال الزعيم فرحات حشاد يوم 5 ديسمبر من عام 1952 إلا عقابا على جمعه بين قيادة النضال النقابي والنضال الوطني ضد المستعمر في فترة من أدق وأخطر فترات النضال التحرري الوطني في مطلع الخمسينات من القرن العشرين! وما التفاف الفئات الشعبية حول الإتحاد العام التونسي للشغل في مختلف المحطات النضالية الشعبية عبر التاريخ الحديث للبلاد التونسية، إلا ثمرة الإستراتيجية التي رسمها من البداية وبقي وفيا لها بجعل البعد الوطني للعمل أو النضال النقابي هو بوصلة المنظمة النقابية التونسية. وبذلك لم تكن المطلبية التقليدية التي تقف عند الزيادة في الأجور ومساواتها بين النساء والرجال. إلى جانب مختلف القضايا والمسائل النقابية العمالية للمؤجَّرين، هي فقط محط اهتمام الهياكل والقيادات النقابية. وليس من باب الصدفة أن تستنجد حكومة الاستقلال الأولى، وحكومات بعدها بقيادة الزعيم الحبيب بورقيبة، ببرنامج اقتصادي واجتماعي أعده الإتحاد العام التونسي للشغل لإقامة دولة الإستقلال، وبكوادر قيادية في المنظمة الشغيلة لإدارة وزارات عظيمة الشأن مثل الإقتصاد والتربية والتعليم والثقافة وغيرها، من نوع محمود المسعدي وأحمد بن صالح، والشاذلي القليبي ومحمد كريم والحبيب الشطي وغيرهم.. ولعل الزخم الجماهيري الذي بلغته احداث 26 جانفي من عام 1978 وأحداث الخبز في 3 جانفي 1984، وصولا إلى غضبة الجماهير الكبرى، ديسمبر 2010/ 14 جانفي 2011. أكبر دليل على إيمان كل شرائح الشعب بخطة واستراتيجية نضال الاتحاد العام التونسي للشغل تلك.
غير إنّ الحفاظ على هذا الزخم الجماهيري باستمرار التفاف الشعب حول المنظمة الشغيلة يقتضي منها الثبات على استراتيجيتها التي رسمتها منذ بعثها، ألا وهي خدمة القضايا الوطنية بالتساوي مع الدفاع عن حقوق ومطالب الشغالين.. وهذا الثبات على نفس المبدأ يقتضي هو الآخر من القيادة النقابية الحذر من الوقوع في بعض المطبات التي يمكن أن تحيد بها عن مسارها فتفرق الصفوف من حولها. ومن هذه المطبات نذكر الاتي:
- أن يكون للمنظمة الشغيلة حق وواجب امتلاك وعرض مشروع سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي يدافع فيه عن سيادة الوطن وعن حقوق الفئات والمناطق الضعيفة المهمشة وعن التنمية الشاملة والعادلة وعن علوية القانون وعن المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين والمواطنين، لايعني مشاركتها المباشرة في أي منظومة حكم. وهو ماحصل فعلا لدى انضمامها إلى وثيقة قرطاج. التي بعثها الرئيس الباجي قايد السبسي لتكون جناحا للحكم توسع من صلاحياته وتحد من دور مجلس نواب الشعب. وقد ترتب عن هذا الإنخراط في ذلك المشروع السياسي، أن تقمص اتحاد الشغل، ممثلا في أمينه العام، وفي أعضاء من مكتبه التنفيذي، دور المفاوض نيابة عن الحكومة، مع ممثلي الإحتجاجات التي شهدتها مناطق الكامور وقبلي ومناجم الفوسفاط في الرديف وغيرها، فوقع الاتحاد بذلك في فخ مناورات الحكومة من ناحية وخرج باهتزاز ثقة المحتجين في هذه المناطق من جهة أخرى. وحتى عندما انسحب اتحاد الشغل من تلك الوثيقة وحلها رئيس الدولة، ظلت بعض قيادات فيه فاقدة لبوصلة الطريق، مثل الموقف الذي أصر الاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس على مواصلة المضي فيه بضدية صارخة لموقف مجمل سكان صفاقس ومنظمات المجتمع المدني فيها من قضية التلوث ومطلب إزالة معمل السياب منها. وهو الموقف الذي مس بشكل كبير من صدقية مناصرة المنظمة الشغيلة لقضايا ومطالب الجماهير الشعبية الواسعة في العيش الكريم الآمن والنقي.
- اعتماد المنظمة الشغيلة الطرق التقليدية في النضال بالمطالبة بالزيادة في الأجور إزاء غلاء الأسعار وتدهور المقدرة الشرائية، بان عدم جدواها وعدم احتكامها إلى تحليل معمق للأزمة الخطيرة التي تمر بها البلاد على مختلف الأصعدة، الاقتصادية والسياسية بالأساس. فكانت كل زيادة يحصل عليها الشغالون في أجورهم تعقبها مباشرة زيادة إضافية عشوائية في الأسعار أضعاف ماحصلوا عليه من زيادة في أجورهم، مع مايترتب عن ذلك من زيادة في حجم التضخم. وقد أدارت القيادة النقابية ظهرها لكل الناصحين بعدم المضي في هذه السياسة المطلبية، والاستعاضة عنها بحشد شعبي واسع من أجل الضغط على الأسعار ومحاربة المضاربين ولوبيات الفساد. وهو تمشٍ نضالي لو تم التركيز عليه، لوضع منظومة الحكم في الزاوية ولضمن للمنظمة الشغيلة تمتين اللحمة الشعبية من جديد من حوله.
- ترك القيادة النقابية العنان لنقابات بعض القطاعات الحساسة، مثل التعليم والصحة أن تقوم بتجاوزات تخرج بالنضال النقابي عن إطاره وأهدافه لتقحم في تبعاته أطرافا اجتماعية انقسمت مواقفها بشأن عدالة ومشروعية مطالب تلك القطاعات، بين مؤيد ومعارض انعكست على الموقف من الاتحاد العام التونسي للشغل ككل، بدل أن تكون تلك الشرائح الإجتماعية الواسعة الحزام الشعبي الداعم والمساند له مثل سابق محطاته النضالية التي كنا أشرنا إليها في فقرات سابقة. خاصة وأن الشعب على بينة من التمشي الذي اختاره حراك السترات الصفراء في فرنسا حيث كانت مواعيد الاحتجاجات مقتصرة على أيام السبت التي هي أيام راحة عادية من العمل.
- فقدان المنظمة الشغيلة لوضوح ودقة الرؤية، على الأقل على مستوى خطاب قيادتها العلني، إزاء عدد من القضايا والمسائل. مثل خطورة التفويت في المؤسسات العمومية، وكيفية التعاطي مع الاستحقاقات الانتخابية القادمة. فلا هي طرحت تصورا مفصلا على الرأي العام لمخاطر التفويت في المؤسسات العمومية، وخطة عملية لإصلاحها وإنقاذها من التدهور السائرة فيه. ولاهي أعلنت عن خطة عملية وصريحة عن كيفية تعاطيها ذاك مع الإنتخابات القادمة!
الخلاصة أن الاتحاد العام التونسي للشغل مدعو الآن وقبل فوات الأوان إلى مراجعة عدد من جوانب سياسته في الحقلين الاجتماعي والسياسي الكبيرين، لاسترجاع ثقة الشرائح الاجتماعية التي رأت في مواقف ومسلكيات قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل، العامة والقطاعية، خروجا عن ثوابت الإتحاد. وأن يعلن صراحة عن وقوفه إلى جانب المبادرات المواطنية والأحزاب السياسية التي تشترك معها في التوجه الديمقراطي الاجتماعي والتقدمي لدعمها بكل الوسائل حتى تواجه الحيتان الكبيرة من الأحزاب السياسية، وخاصة تلك اليمينية، ذات التوجه الديني السياسي، والليبرالية الجامعة لمختلف مكونات منظومة الحكم القديمة كي لاتعود إلى التحكم في سدة الحكم مجددا. فيسترجع فعلا موقعه الطليعي الجماهيري في خدمة قضايا الشعب والذود حقيقةً عن سيادته من أجل إنقاذ البلاد مما يتهددها من مخاطر جمة.
مختار اللواتي
- اكتب تعليق
- تعليق