عبد الحفيظ الهرڤام: تونس بين الحراك الانتخابي وارتدادات الوضع الإقليمي
دخلت تونس بَعْدُ الزمن الانتخابي قبل أقلّ من ستّة أشهر من موعد الانتخابات التشريعية المقرّر إجراؤها في الأسبوع الأوّل من أكتوبر والتي تليها الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية في الأسبوع الثالث من نوفمبر. ومع بداية العدّ التنازلي لهذين الاستحقاقين الهامّين في الداخل والخارج، طفقت عدّة أحزاب تكثّف تحرّكاتها الميدانية في حملات انتخابية مبكّٰرة. وقد تزامن شهر أفريل مع انعقاد مؤتمرات لعدد منها لعلّ من أهمّها المؤتمر الانتخابي الأوّل لنداء تونس الذي تميّزت جلسته الافتتاحية بخطاب القاه مؤسّسه ورئيسه الشرفي الباحي قايد السبسي في محاولة لإصلاح أوضاع الحزب الفائز في انتخابات 2014 بعد أن عصفت به الانشقاقات وقوّضت أركانه خلافات أجنحته المتصارعة ممّا أفقده دوره الفاعل في الساحة السياسية، في حين قرّر حزب تحيا تونس المحسوب على رئيس الحكومة يوسف الشاهد عقد مؤتمره التأسيسي يوم 28 من الشهر الجاري مدفوعا بطموح مؤسّسيه إلى تبوّؤ موقع ذي شأن في المشهد السياسي مستقبلا. ويسعى هذا الحزب الوليد إلى ملء الفضاء الوسطي التقدّمي الديمقراطي الذي استحال إلى الآن تشكّله في ظلّ تشتّت روافده وطغيان نزعة الزعاماتية لدى عدد من رموزه.
وبينما يبدو اهتمام الطبقة السياسية الآن أكثر تركيزا على إعداد العدّة للانتخابات المقبلة وتسجيل النقاط على حساب الخصوم في معارك كلامية محتدمة، تنصرف انشغالات شرائح اجتماعية واسعة سئمت السياسة والسياسيين نحو تدبير شؤونها وقد تفاقمت معاناتها اليومية وازدادت ظروفها المعيشية سوءا بسبب تدهور خدمات المرافق العمومية وتآكل مقدرتها الشرائيّة وهي مقبلة على شهر رمضان الذي عادة ما تلتهب فيه الأسعار أمام ارتفاع حجم الاستهلاك.
ويتجلّى عزوفُ جانب هامّ من التونسيين عن العملية الانتخابية وإحباطُهم المتزايد الناجم عن التجاذباتِ السياسية وعجِز القادة عن تحويل التقدّم الديمقراطي إلى رخاء اجتماعي من خلال نتائج سبر للآراء أجراه مؤخّرا مركز دراسات تابع للمعهد الجمهوري الدولي أثبتت أنّ 55 بالمائة من التونسيين يعتزمون التصويت في الانتخابات المقبلة منهم 24 بالمائة يرجّحون إلى حدّ ما المشاركة فيه.
وبغضّ النظر عن نسبة المشاركة في انتخابات الخريف القادم فإنّ من أهمّ ضمانات نزاهتها وشفافيتها والتزام الجميع بأحكام الدستور والقانون الانتخابي استكمالَ مسار تركيز المؤسّسات الدستورية بتعجيل مجلس نوّاب الشعب بانتخاب ثلاثة من أعضاء المحكمة الدستورية وبتجاوز الكتل البرلمانية الحسابات السياسية الضيّقة حتّى تمارس هذه المؤسّسة الهامّة صلاحياتها في أقرب وقت ممكن باعتبارها إحدى الدعامات الأساسية للنظام الديمقراطي، فضلا عن انتخاب أعضاء هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد وإجراء الانتخابات الجزئية للمجلس الأعلى للقضاء المقرّرة ليوم 17 ماي القادم.
ويتنزّل الحراك الانتخابي المبكّر الذي تعيشه تونس اليوم في سياق متأزّم داخليا وإقليميا.
داخليا، لا تزال البلاد تعاني من ويلات أزمتها الاقتصادية والمالية المستحكمة في مناخ اجتماعي محتقن ومشهد سياسي متشنّج لم تفتر فيه أصوات الشعوبيين الراكبين على موجة الغضب الشعبي ولم تجد الحكومة بدّا لمعالجة عجز الميزانية ودفع نسق النموّ من التعويل على الاقتراض لا سيّما لدى صندوق النقد الدولي الذي أدّى وفد من خبرائه من 27 مارس إلى 9 أفريل 2019 زيارة لتونس للتفاوض بشأن القسط الخامس من القرض البالغ إجماليه 2,8 مليار. وكان من المفروض أن يتمّ صرف هذا القسط في ديسمبر الماضي ولكن أُجِّل بسبب التوتّرات التي سادت آنذاك المفاوضات بين الحكومة واتحاد الشغل حول الزيادة في أجور الوظيفة العمومية. وقد أوضح صندوق النقد الدولي في بيان صادر بواشنطن إثر هذه الزيارة أنّ جهود الحكومة لدعم النمّو والتحكُّم في التضخّم وتثبيت حجم الدين العمومي بدأت تعطي أُكلها غير أنّ الاقتصاد يظلّ هشّا.ولاحظ أنّ السلطات واعية بالمخاطر التي تتهدّد الاقتصاد والتزمت بالحدّ من اختلال توازنات الميزانية في هذه السنة الانتخابية، مشيرا إلى التحديّات الخارجية المستجدّة ولاسيّما عدم استقرار أسعار البترول وانخفاض نسق النمّو في البلدان الشركاء في الاتحاد الأوروبي والتداعيات المحتملة للنزاعات في المنطقة والتي تستوجب تحقيق تقدّم لمواجهتها.
أمّا خارجيا فإنّ التصعيد العسكري الخطِر الذي شهدته ليبيا في الأيّام الماضية يلقي بظلاله على تونس أمنيا واقتصاديا واجتماعيا وهي التي خسرت حسب تقديرات مصطفى كمال النابلي الواردة في كتابه الأخير 0,4 نقطة في نسبة النموّ و1,6 مليار دينار سنويّا في الفترة من 2011 إلى 2018 بسبب الأزمة في هذا البلد الجار. ويخشى أن يؤدّي الوضع المتفجّر في ليبيا إلى نزوح عشرات الآلاف من المدنيين الليبيّين وتسلّل إرهابيين فارّين من أتون الحرب نحو بلادنا، وهو ما دعا قواتنا العسكرية والأمنية إلى ملازمة اليقظة وتكثيف المراقبة على طول حدودنا الجنوبية.
كما أنّ الحراك الشعبي في الجزائر على الرغم من أنّه شأن داخلي له ارتدادات على الصعيد الإقليمي وقد بدّدت سلميّتُه إلى حدّ الآن المخاوفَ من احتمال انزلاق هذا البلد الشقيق نحو العنف والاضطراب والفوضى كما جرى في ليبيا إذ أثبت الشعب الجزائري عزمه على تأمين مسار آمن لانتقاله السياسي.
إزاء هذه الأوضاع المتأزّمة داخليا وخارجيا يظلّ التحدّي المطروح على السياسيين خلال الأشهر القادمة التنافس في تقديم أفضل البرامج والبدائل لمعالجة المشاكل القائمة بعيدا عن الشعارات الفضفاضة والوعود الزائفة لمصالحة التونسيين، وخاصّة الشباب منهم، مع صندوق الاقتراع في انتخابات حاسمة ستحدّد مصير البلاد في السنوات القادمة..
عبد الحفيظ الهرڤام
- اكتب تعليق
- تعليق