أخبار - 2019.04.01

الطّاهر ڤيـڤـة (1922 – 1993): من أساطين الثّقافة التّونسيّة الـمُــعــاصـرة

الطّاهر ڤيـڤـة (1922 – 1993): من أساطين الثّقافة التّونسيّة الـمُــعــاصـرة

سبعون توزّعتها التّربية والتّعليم والثّقافة والفنون، تلك هي حياة الأستاذ الطّاهر قيقة ذاك الرّكن النّيّر من أركان النّهضة الثّقافيّة في تونس المعاصرة، فلم يكن يترك المعرفة والتّدريس إلّا ليخوض لجج الأدب والثّقافة ولا يغادر رحاب الإبداع والفنون إلّا ليعود إلى حقل التّربية والعلوم، فما أمتعها رحلة لا تُتاح إلّا لذي عقل اختار أن «يشقى في النّعيم بعقله»!

كان للوسط العائليّ أثر بالغ في توجيهه هذه الوجهة الفكريّة الخالصة، فقد وُلد الأستاذ الطّاهر قيقة في بيت أدب وعلمٍ وتعليم، إذ أنّ والده عبد الرّحمان قيقة كان مُدرّسا وُمثقّفا وأديبا عاشر المستشرقين وعمل معهم طويلا وترك لنا وللثّقافة التّونسيّة «ملحمة بني هلال» الشّهيرة التّي سيُحقّقها ويُنشرها الابن برّا بوالده وحفظا لذاكرة شعبه وخدمةً لثقافة وطنه. وحرص ذاك الوالد على أن ينال ابنه أوفر نصيب من التّعليم العصريّ فأدخله مدرسة «رحبــة الغنم» حيث كان يعمل مدرّسا ليُشرف بنفسه على تعليمه الأوّل، ثمّ أرسله إلى الصّادقيّة وبعدها إلى معهد كارنو فتتلمذ هناك على كبار الأساتذة من أمثال محمود المسعدي وعبد الوهاب بكير.  وما إن أحرز شهادة الباكالوريا (1941) حتّى سافر إلى الجزائر والتحق بكليّة الآداب هناك ليتخرّج منها بدرجة الإجازة في اللّغة والآداب العربيّة ثمّ يحصل بعد ذلك على الدّيبلوم العالي للّغات والآداب اليونانيّة واللّاتينيّة والفرنسيّة. وانتسـب في مرحلــة موالية إلى جامعة السّربون بباريس آملا الحصول على التّبريز إلّا أنّ ظروف ما بعد الحرب العالميّة الثّانية حالت بينه وبين تلك الشّهادة.

انظمّ – لدى عودته إلى تونس سنة 1949 – إلى زملائه الأساتذة التّونسيّين المدرّسين بالمعاهد الثّانويّة في تونس ما قبل الاستقلال، وكانوا قلّة، فأسهم في تلك السّنوات الحاسمة من تاريخ البلاد في نشر الوعي الوطنيّ في نفوس شبابها اليافع وفي التّبصير بمكانة العلوم والمعارف في يقظة الشّعوب وسيرها إلى التّحرّر والتّرقّي، وأشرف على إعداد أجيال ظلّت تدين له بالفضل، وساهمت بعد ذلك في بناء تونس المستقلّة ولمع بعض أفرادها في عالم الثّقافة والآداب من أمثال الشّاعر نور الدّين صمّود والأديب مصطفى الفارسي. كان للمسرح في حياته منزلة رفيعة، وتلك سمة من سمات كلّ مثقّف أصيل، فقد دُعي إلى التّدريس بمدرسة المسرح منذ 1951 فواكب مختلف مراحل تطوّرها وزامل هناك كبار أساطين المسرح التّونسيّ على غرار حسن الزّمرلي وعبد العزيز العقربي ومحمّد الحبيب وعثمان الكعّاك، وساعدته معرفته العميقة بالآداب اليونانيّة والأوروبيّة على التّألّق في تدريس المسرح اليونانيّ ومسرح شكسبير والمسرح الكلاسيكي الفرنسيّ. وتخرّجت على يديه نخبة من ألمع نجوم المسرح في تونس، في مقدّمتهم علي بن عيّاد والمنصف السّويسي ومحمّد رجاء فرحات وعمر خلفة ومحمّد إدريس ومنى نور الدّين. وعندما شرعت حكومة الاستقلال في وضع الأسس الصّلبة لبرنامج تعليميّ تربويّ شامل رأت في ما راكمه الأستاذ الطّاهر قيقة من تجربة وخبرة ودراية بقضايا التّعليم سببا لدعوته إلى وضع خطّة وطنيّة لمقاومة أحد أبرز عوائق التّنمية البشريّة في تلك الفترة ألا وهو الأميّة، فعُيّن رئيسا للمصلحة الاجتماعيّة بكتابة الدّولة للتّربية القوميّة.

وأصاب البرنامج نجاحا واسعا وتناهت أصداؤه إلى أقطار حديثة العهد بالاستقلال فأرسلت في طلبه الحكومة الجزائريّة مستشارا في شؤون إدارة التّعليم والتّخطيط التّربوي لدى وزارة التّربيّة الوطنيّة بالجزائر. وسرعان ما اعتُمد خبيرا لدى منظّمة اليونسكو في الجزائر، ثمّ خبيرا لدى المنظّمة نفسها في مقرّها الأممي بباريس مكلّفا ببرنامج اليونسكو لمكافحة الأميّة. وما فتئ أن استعادته تونس بعد أن أدّى مهامّه الأمميّة على أفضل الوجوه ليُنصّب على رأس إدارة التّعليم الثّانويّ والتّقنيّ في تلك السّنوات التّي كان ما يُعرف بمشروع المسعدي في تعميم التّعليم وتعصيره ورفع مستواه يعيش أزهى فتراته. ومن التّربية تلقّته الثّقافة مجدّدا أو انتزعته انتزاعا لتستأثر به مكتمل النّضج واسع التّجربة بعيد الرّؤية، كأنّه عاد ليُرافق ذاك الجيل الذّي درّس له منذ سنوات فيشرف حينئذ على إتمام تكوينه وإغناء زاده وتوسيع آفاقه وتعميق وعيه.

وهكذا عُيّن أوّلا رئيسا للنّادي الثّقافي أبو القاسم الشّابّي بالورديّة الذّي سيُصدر مجلّة «قصص»، وهو النّادي ذائع الصّيت بعيد الإشعاع فقد كان يرتاده كبار الأدباء والمثقّفين ويختلف إليه مشاهير الكتّاب (البشير خريّف – محمّد العروسي المطوي – مصطفى الفارسي وغيرهم كثير). ثمّ عُيّن مديرا للمركز الثّقافي الدّولي بالحمّامات، فكانت مدّة إدارته، وقد دامت أكثر من عشر سنوات ، العصر الذّهبيّ للمركز، إذ شهد في تلك المرحلة حركيّة ممتازة وأرسيت فيه تقاليد حميدة ما يزال بعضها متواصلا إلى اليوم فانتظمت فيه ندوات وطنيّة ودوليّة علميّة وأدبيّة وفنيّة، وشهد مهرجان الحمّامات الدّوليّ نقلة نوعيّة بارزة وبات من تقاليده تخصيص عرض الافتتاح لمسرحيّة تونسيّة نصّا وإخراجا وتمثيلا فوُلدت على ركح مسرح الحمّامات أعمال تونسيّة خالدة مثل «ثورة الزّنج» و«الطّوفان» و«محمّد علي الحامّي» وغيرها.

وتتالت المسؤوليّات بعد النّجاح الكبير في إدارة المركز الثّقافي الدّوليّ بالحمامات، فمن المركز إلى وزارة الثّقافة مديرا للفنون والآداب، ثمّ مديرا للعلاقات الخارجيّة ، ومن الوزارة إلى المنظّمة العربيّة للتّربية والثّقافة والعلوم «الألكسو» مديرا عامّا مساعدا مسؤولا عن الثّقافة. مسيرة من الإشعاع والنّجاح تعضدها سنوات طوال من العمل الدّؤوب أورثت الرّجل حنكة في التّسيير وحصافة في الرّأي ورجاحة في مباشرة جليل الأمور. وكانت خاتمة المطاف تعيينه على رأس اللّجنة الثّقافيّة الوطنيّة في جانفي 1993، ولكنّ القدر أبى ألّا تتواصل المهمّة إلّا لأشهر قلائل فقد باغتته المنيّة في 2 ماي 1993 أثناء إجراء عمليّة جراحيّة بمستشفى «سان جوزيف» لطبّ القلب والشّرايين في باريس.

وترك رحيله فراغا هائلا في المشهد الثّقافي الوطنيّ، فقد كان الرّجل غزير النّشاط دائب الحركة متعدّد الاهتمامات مزدوج اللّسان، يكتب بالجزالة نفسها في العربيّة والفرنسيّة ويتناول الأدب الشّعبيّ في تونس بالحذق الذّي يتناول به التّراث اليوناني.

وقد أثرى المكتبة التّونسيّة والعربيّة بعدد هامّ من المؤلّفات في القصّة وأدب الرّحلة والدّراسة التّاريخيّة والتّرجمة ، فأعماله قائمة بيننا تُحدّث بذكره وتُخلّد أثره وتجعله حيّا على الدّوام وإن كان غائبا عن الأنظار. ألم يقل الشّاعر قديما:

لَمْ يُخلَق الخَلْقُ إلّا للفنَاء، مَعًا * * * نَمُوتُ وتبقى أحاديثٌ وَأَسماء.

الحبيب الدريدي

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.