عبد الحفيظ الهرڤام: قمّة تونس وأمل الصحوة العربية
ترسخ في المخيال الجمعي العربي منذ سنين طويلة انطباع سلبيّ عن القمم العربية، فهي في نظر الشارع، من المحيط إلى الخليج العربي، لا تعدو أن تكون اجتماعات شكليّة يغلب عليها الطابع البروتوكولي.. تنعقد بمن حضر وتنتهي بإصدار بيانات منمّقة هي أقرب إلى الإنشاء وتفضي إلى قرارات فضفاضة لا تغني ولا تسمن من جوع، سرعان ما تأخذ طريقها إلى النسيان، ما إن ينفضّ الجمع ويقفل كلّ قائد عربي أو من يمثّله راجعا إلى بلاده. فهل ستقوى القمّة العادية الثلاثون التي تحتضنها تونس في موفّى شهر مارس الجاري على كسر هذه الصورة النمطيّة أم إنّها ستكون كالعديد من سابقاتها مجرّد رقم في سجلّ الاجتماعات العربية؟ وما عسى أن يتمخّض عنها من مخرجات عملية تنعكس على أرض الواقع، في ضوء الأوضاع الإقليمية والدولية الراهنة؟ وأيّ مساهمة يمكن أن تقدّمها تونس خلال القمّة في سبيل الدفع نحو اعتماد أنجع المقاربات للمسائل المطروحة على جدول أعمالها؟
غير خاف على الجميع أنّ المشهد العربي الحالي قاتم في العديد من جوانبه ولعلّه الأسوأ منذ نشأة جامعة الدول العربية في مارس 1945. فها هو العالم العربي قد استسلم للهيمنة الأجنبية بعد أن أضحت واشنطن بالخصوص مركز القرار في قضاياه المصيرية بالتحالف مع إسرائيل التي سارعت دول عربية إلى التصالح معها في السرّ والعلن وصار هاجس عديد الحكّام فيه منصبّا أساسا على بقائهم في السلطة وضمان ديمومة أنظمتهم.
وها هي القضية الفلسطينية قد خفت بريقها وضاعت في ثنايا انقسامات العرب وانغماسهم في أوضاعهم الداخلية .. وها هو العراق يعاني من مخلّفات الاحتلال الأمريكي، يحكمه المنطق الطائفي والفئوي بعد أن انفرط عقد وحدته الوطنية..وها هي سوريا قد دمّرتها الحرب فيها وعليها منذ حلول «الربيع العربي» ومصيرها بات رهين التوافقات بين روسيا التي هبّت إلى نجدة نظام الأسد وبطلب منه من جهة وإيران وتركيا اللتين تنامى نفوذهما في الإقليم والولايات المتحدة الأمريكية والقوى الفاعلة الأخرى في الساحة الدولية من جهة أخرى.
وها هو لبنان يعيش أزمة حكم محتدمة في ظلّ التجاذبات الطائفية الداخلية حول تقاسم السلطة والموارد، زادها تعقيدا توتّر العلاقة بين الرياض وطهران صاحبة التأثير القوي في هذا البلد، ممّا حال إلى الآن دون تشكيل حكومة وحدة وطنية. وها هو اليمن ينزف دما جرّاء حرب عبثية زرعت في أرجائه الموت والخراب..
وها هي ليبيا اليوم غارقة في فوضى عارمة تتوزّع السلطة فيها بين أطراف سياسية وعسكرية متناحرة تبحث عن الشرعية وتدّعيها، مدعومة من جهات أجنبية مختلفة تريد التموقع في هذا البلد الغنيّ بالثروات البترولية والغازية.
ما من شكّ في أنّ تونس وهي مقبلة على احتضان القمّة العربية تدرك تماما دقّة الأوضاع الراهنة وهامش التحرّك المتاح للإصداع بمواقفها تجاه القضايا التي ترى أنّها من أوكد الأولويات التي يتعيّن التركيز عليها في هذه المرحلة بالذات وذلك من خلال خطاب الرئيس الباجي قايد السبسي وبيان القمّة. وتأتي في صدارة هذه الأولويات القضية الفلسطينية التي بات من الضروري إعادة تحريك مسارها وإخراجها من جديد إلى دائرة الضوء على الصعيد الدولي، وذلك ما تتمنّاه القيادة الفلسطينية التي حرصت على تأكيده أكثر من مرّة لقايد السبسي الذي سيرأس أعمال القمّة، معوّلة في ذلك على حنكته السياسية ودرايته الواسعة بالشؤون العربية والإقليمية والدولية.
وحسب مصدر دبلوماسي فلسطيني فإنّ المؤمّل هو أن تُطلق من أرض تونس بما لها من مرجعية رمزية في غاية الأهمية في مجال ترسيخ الديمقراطية وحقوق الإنسان رسالة سلام إلى العالم مفادها أنّ إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس على أساس قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية هي المدخل الحقيقي لإحلال السلم والاستقرار وتحقيق التنمية ومحاصرة التطرّف والإرهاب ليس في منطقة الشرق الأوسط فحسب بل في العالم بأسره وأنّ تمكين الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة هو عنوان للحلّ وليس للمشكل في المستوى الدولي.
وإذ نقدّر أنّ تونس مقّرة العزم على العمل على حشد الجهود العربية من أجل مزيد دعم القضيّة الفلسطينية فإنّها ستغتنم، في رأينا، فرصة ترؤّسها القمّة لإبداء رؤاها بشأن أقوم المسالك لمعالجة الأوضاع في بؤر التوتّر في الوطني العربي ولا سيّما في البلد الجار ليبيا الذي لم تتوان في الإسهام في إيجاد تسوية سياسية لأزمته المستفحلة في إطار مبادرة تشترك فيها مع الجزائر ومصر على أساس الحوار الشامل والتوافق بين أطراف الأزمة لإنجاز المرحلة الانتقالية إلى حين إتمام الاستحقاقات الانتخابية مع تجديد التعبير عن رفض كلّ أشكال التدخّل الأجنبي الذي يؤدّي إلى مزيد تعقيد الأزمة ومساندة مساعي بعثة الأمم للدعم في ليبيا.
كما ننتظر أن تبادر تونس التي تحتضن خمس منظمات عربية متخصّصة، فضلا عن مركز للجامعة العربية، إلى عرض تصوّراتها بشأن إعادة بناء منظومة العمل العربي المشترك على قاعدة توثيق الروابط الحضارية بين الدول العربية وتعزيز أسباب التكامل الاقتصادي بينها.
إنّ التحلّي بالواقعية يدعو إلى أن لا نرفع سقف الانتظارات من هذه القمّة في ضوء الأوضاع الراهنة، غير أنّنا لا نملك سوى التعبير عن الأمل في أن تضع علامات على طريق صحوة تعيد التوازن للنظام العربي بعد سنوات مؤلمة وتخرج الشعوب العربية من حالة الإحباط التي تعيشها إلى حدّ الآن.
عبد الحفيظ الهرڤام
- اكتب تعليق
- تعليق