أخبار - 2019.02.18

كيف للأحزاب أن تقود مسارا انتقاليـا وهي بعيدة عن الشفافية؟

كيف للأحزاب أن تقود مسارا انتقاليـا وهي بعيدة عن الشفافية؟

الأحزاب هي حجر الزاوية في المجتمعات الديمقراطية، فهي التي تقود أنصارها لكسب المعارك الانتخابية والارتقاء إلى سدة الحكم. أما في تونس فإن التشوُهات التي لحقت البُنية الحزبية في ظل النظام السابق، ما لبثت أن طفت على السطح بعد 14 جانفي 2011 لسببين رئيسيين، أولهما تعثر التجارب الحزبية السابقة جراء الحصار الأمني، وثانيهما الانفلات في تكوين الأحزاب بعد الثورة، من دون حيازة أية خبرة في هذا المجال، ولا تقديم برامج واستراتيجيات تشكل فعلا إضافة أصيلة للمشهد السياسي. وبالرغم من أن الاستحقاقات الانتخابية الأربعة (2011 - 2018) منحت فرصة فريدة للأحزاب لبناء قوة شعبية، للمرة الأولى منذ مطلع القرن الماضي، فإن الخط البياني يُظهر تقهقرا في شعبية الأحزاب المتنافسة من انتخابات إلى أخرى. وما بروز المستقلين في الانتخابات البلدية التي أجريت في 6 ماي الماضي سوى أحد تجليات ذلك التراجع، والذي يعكس بدوره أزمة الكيانات الحزبية، مع أن النتائج البلدية بوأت «حزب النهضة» المركز الأول بين تلك الكيانات.

ثقة مفقودة

من العناصر التي عمقت أزمة الأحزاب تلك الظاهرة التي يُطلق عليها «السياحة الحزبية»، والتي جعلت الناخب، والمواطن عمومـا، لا يُميّزُ بين الأحزاب والألوان والشعارات، أولا بسبب تشابه مضامينها، وبخاصة في باب الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، وثانيا بسبب كثرة تنقُل الأشخاص من تشكيلة إلى أخرى، حتى أن رئيس حزب برلماني لم ير غضاضة في تصفية حزبه والرحيل إلى حزب برلماني يُفترض أنه منافسٌ لحزبه، تبوأ فيه منصب الأمين العام. ومع فقدان الثقة التدريجي في الأحزاب، تمكنت القائمات المستقلة في الانتخابات البلدية من الاستئثار بنحو 33 في المئة من الأصوات، مُتقدمة على حزبي «النهضة» (30 في المئة) و»النداء» (22.7 في المئة). صحيح أن كثيرا من القائمات المستقلة كان مُوجها من الأحزاب، وخاصة من الحزبين الأولين، لكن لا يمكن ألا يُسجل المرء دلالات خسارة ذينك الحزبين قرابة مليون صوت من انتخابات إلى أخرى.

ثلاثة شروط

من هنا فإنّ تواتر الحديث عن دور المستقلين، وعودة هذا الحديث مُجددا هذه الأيام، بمناسبة اقتراب موعدي الاستحقاقين البرلماني والرئاسي، يُبرهنان على  إخفاق الأحزاب، حتى القوية منها، في استقطاب ثقة الناخبين. ويتطلب الفوز بتلك الثقة توافر ثلاثة شروط كي تتمكن الأحزاب من لعب دور محوري في مسار الانتقال الديمقراطي، أسوة بما نلاحظه في التجارب المماثلة التي عرفتها أمريكا اللاتينية وأوروبا الوسطى والشرقية بعد انهيار جدار برلين. والشروط الثلاثة هي الرؤية والمصداقية ومصادر التمويل. فالكيان السياسي الذي لا يملك رؤية للمستقبل، ولا حلما يُطعمه للشباب الطامح إلى المُثُل العليا، سيبقى يدور في حلقة مُفرغة. كما أن الحزب الذي لا يملك المصداقية الكافية يصعب عليه أن يصبح حزبا جماهيريا، مهما بلغ مضاءُ آلته الانتخابية. أما المال، قوَامُ الأعمال، فهو عصب المعارك الانتخابية، ومن لا يملكه كمثل من لا يملك سيفا وهو مُقبل على مبارزة.

غير أن مسارات الانتخابات السابقة كشفت في مجال التمويل عن ظاهرة سمَمت الحياة السياسية، وهي زواج البزنس والأحزاب، واستطرادا زواج البزنس والإعلام، فإلى جانب مصادر التمويل الداخلية والخارجية التي يلفُها الكثير من الغموض، استطاب بعض أصحاب المال والأعمال امتطاء صهوة السياسة، والعكس صحيحٌ أيضا، إذ استلذ بعض السياسيين الانتقال إلى عالم البزنس. مع ذلك تبقى مسألة شفافية التمويل عنصرا محددا في استقرار أية تجربة انتقالية نحو الديمقراطية. فهذه العوالم ظلت بعيدة عن دائرة الضوء لمدة طويلة، وقد أقرَ قيادي بارز في أحد الأحزاب بذلك قائلا «لنصارح أنفسنا بأننا لم نتعرض لهذه المسألة بالجرأة الكافية في انتخابات 2011 و2014، ورأينا ممارسات لا تليق وأغمضنا أعيننا على وضعيات خطرة، وكان الخطاب السائد «نعم هناك تجاوزات لكنها لم تبلغ درجة التأثير في النتائج الإجمالية». ومضى القيادي شارحا «أثر المال السياسي في كل نتائج الانتخابات، في شراء الذمم وفي تمكين بعض الأحزاب من إمكانات تفوق المتفق عليه قانونا، والأخطر من كل ذلك أننا قبلنا أن نتعامل مع مجموعات وأشخاص كانت تمويلاتهم (تأتي) من خارج البلاد، ولم تستعمل الدولة إمكاناتها لمتابعة تلك التمويلات، حتى أن هيأة الرقابة أقرت بالحجج بأن مرشحا للرئاسية تحصل على تمويل أجنبي هام، ولم تقع أية متابعة للموضوع، أو بأن حزبا سياسيا له مُمول واحد فاقت مصاريفه السقف بعشرات المرات» (فوزي عبد الرحمان).

أين المحاسبة؟

حاولت دائرة المحاسبات تدارك الأمر بتوجيه رسالة إلى محافظ البنك المركزي في أواخر ديسمبر الماضي، في إطار أعمالها الخاصة بالرقابة على تمويل الحملة الانتخابية البلدية لسنة 2018، وهو إجراء يشمل جميع الأحزاب والقائمات الفائزة بمقاعد في المجالس البلدية. ولا يُعرف حتى الساعة مصير تلك المراسلة، لكن الأرجح أن التجاوزات المسجلة في انتخابات 2011 و2014 سيطويها النسيان، كما أن الشبهات المحيطة باستخدام المال السياسي في السير اليومي للأحزاب ستبقى محفوفة بالغموض.

ولابد من التذكير هنا بأن المرسوم المؤرخ في 24 سبتمبر 2011 (الذي عوض قانون الأحزاب 1988) يمنع أي تمول من جهة أجنبية بصفة مباشرة أو غير مباشرة، وكذلك الإعانات أو الهبات المتأتية من أشخاص اعتباريين، باستثناء تمويل الدولة (من كتاب «الأحزاب السياسية في تونس» الصادر عن كلية الحقوق والعلوم السياسية بسوسة 2019). ويُفترض أن الأحزاب الوطنية تملك وازعا ذاتيا يجعلها في غير حاجة إلى الردع والمحاسبة القانونية في هذه المسائل الدقيقة، فهي في الأصل المثل الذي يُحتـــذى به. وفي هـذا الصـدد أوضـح المفكــر السيــاسي الايـــطالي أنتونيو غـــرامــشي (1891 – 1937) أن الحزب بحكم دوره التثقيفي والتوعوي، هو الأمير الجديد. والأمير هنا إنما هو «المثقف الجماعي» الذي يعمل على تركيز نظام اجتماعي جديد. ولذلك يُشددُ غرامشي على تعريف الحزب بكونه «حزبا ثوريا». بهذا المعنى يعتقد غرامشي أن إنجاز الثورة يمُرُ عبر عدة مراحل من بينها الثورة الديمقراطية والمرحلة الانتقالية، التي تُفضي تدريجيا إلى الحلقة الأخيرة، التي يُقام فيها نظام اجتماعي جديد يعتمد على التعادُلية. لكن لا يمكن لأحزاب تنقصها الشفافية والصدقية أن تقود مسارا انتقاليا مُؤسسا، ولذا فإن المراقبة والمحاسبة ضرورتان ولا مندوحة عنهما. أكثر من ذلك من الوجاهة بمكان أن يدعو أهل الاختصاص إلى مراجعة الأحكام الجديدة (بعد الثورة) الخاصة بتمويل الأحزاب، في ضوء ما مرت به البلاد من محطات انتخابية و»ما رافق مسألة التمويل من إخلالات وتجاوزات ظل مسكوتا عنها إلى اليوم» (كتاب «الأحزاب السياسية في تونس»)..

رشيد خشانة

 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.