خديجة معلَّى: هل آن الأوان لليسارالتونسي أن يتًّحِد؟

خديجة معلَّى

كثيرا ما يُعاب على التنظيمات اليسارية أوعلى اليساريين بصورة عامة، سواءا كانوا متحزبيين أو مستقلين، إفراطهم في التنظيرومُجانبتهم للواقع المعيشي ومتطلباته اليومية برغم رفع راية الدفاع عن احتياجات الفئات الكادحة بالأساس في المجتمع. كما أنه يتكررالقول بأن العديد منهم يرفضون وجهات النظرالمخالفة لأفكارهم ولا يقبلون أي نقد لمواقفهم وممارساتهم. قد يكون جانب كبير من هذه الانتقادات صحيحا، إلاّ أن الحقيقة تكمن في الواقع في عدم التفطن للسبب الرئيسي الذي خلق هذه الهُوة بين النظرية والتطبيق في الأوساط اليسارية عموما،وهوعدم تفطنهم للعقدة التي تمكنت من أجيال اليسارالأولى كردّة فعل على ما جوبه به منذ الستينيات، الفكرالنقدي للشباب التقدمي من محاكمات قاسية لحاملي هذا الفكر التقدمي اليساري.فترسخت نتيجة تلك الأحكام وذلك الرفض القطعي الصارم من النظام البورقيبي لكل رأى نقدي وفكر مغاير، قناعة بأنّ ما يعتقده الزعيم الحبيب بورقيبة من تفرد بالرأى الواحد وبالحزب الواحد هو خطأ فادح يستدعي المواجهة من أجل التصحيح وإقرار مبدإ الانفتاح على الرّأى المخالف باعتماد منهج ديمقراطي في الحكم.

إلاّ أنه مع تمادي نظام الحكم في التسلط وفي مواجهة كل نَفَسٍ تحرري نقدي بمزيد من الانغلاق ومن تسليط العقاب على المعارضين، تجذرت المعارضة اليسارية من مجرد نقد لأسلوب الحكم التسلُّطي إلى الدعوة والعمل على إنجاز ثورة شعبية تزيح هذا النظام برمته. فكانت ردّة فعل النظام أكثر صرامة من ذي قبل حيث شملت الاعتقالات مئات المناضلين في مطلع السبعينيات بعد إنهاء تجربة التعاضد بشكل مأسوي ومع انتهاج النظام لسياسة اقتصادية ليبيرالية. وهو ما خلّف احتقانا شعبيا واسعا ظلّ مكظوما إلى أن انفجر في جانفي 1978، في تلك المواجهة الحَدِّيّة بين الاتحاد العام التونسي للشغل ونظام الحكم الذي جابههما بقوة السلاح وبمزيد من الاعتقالات وبمحاولة الاستيلاء على المنظمة الشغيلة.

كل تلك الأحداث المتعاقبة، (بقطع النظرعن التفاصيل الشارحة لخلفياتها وخباياها والتي تناولها بالتحليل عدد من الباحثين والمؤرخين، إلى جانب المناضلين اليساريين)، كلها تفاعلت بأشكال مختلفة وبمستويات متنوعة في تعميق الحوارات والنقاشات الداخلية في صفوف اليسارمن داخل السجون وخارجها منذ أواسط السبعينيات والتي وصل البعض منها إلى حدّ الانشطار إلى فصائل اختارت مناهج فكرية مختلفة لمواصلة نضالها ضد النظام القائم بحسب ما أفضت إليه تحاليلها لتجاربها وللواقع ولتطورات الأحداث في المعسكرات الشيوعية واليسارية في العالم.

ومن هنا، وعوض أن يبحث اليسار في كيفية تقوية صفِّه وتفادي الأخطاء السابقة، دخل في نفق التشرذم والانقسام واعتقاد كل فصيل منشقٍ أنه يمتلك الحقيقة بمفرده وأن بقية الفصائل مخطئة، وهوالتجسيد الفعلي للعقدة التي كانت منطلق نقد أسلوب بورقيبة في الحكم. وهذه العقدةما زالت متلبسة بالفكر وبالممارسة في غالب التنظيمات اليسارية التي لم تقدرعلى الخروج من ذلك النفق المظلم. وحتى من أُصيبوا بخيبة الأمل من هذا الانغلاق الفكري الذي انقلب إلى مرض حقيقي، ألقى جانب منهم بنفسه إلى الضفة المقابلة طمعا في إحداث تغيير في المعادلة أو إصلاح ما يمكن إصلاحه، ولكنهم إمَّا تاهوا في الطريق أو أصبحوا من عتاة النظام، فيما اختار جانب آخر مُكرها أن يبقى مستقلا برأيه آملا في انبلاج صبح جديد يعود فيه الرشد الى الفصائل التقدمية الوطنية، فتغلّب مصلحة وخدمة الشعب على التهويمات النظرية أوالمراهنات الحزبية والشخصية الضيقة.

فهل إن قَدَرَ اليسار التونسي أن يستمرَّ في هذا الانحراف الفكري والعملي وهوعلى هذه الحال التي آل إليها من التشتت والهوان؟ أم إنه بالإمكان الجرأة على القيام بمراجعة جذرية للمسببات الحقيقية لهاذا التشرذم وهذا الضعف، والبلد في أشد الحاجة للإنقاذ مما أُبتُلِي به من هوان غير مسبوق؟ نعتقد أن ذلك ليس ممكنا فقط، بل هو سهل التحقيق على عكس ما يراه الكثيرون. إن أولى الأولويات لإنجاز هذه المراجعة تبدأ من:

  • الإيمان بأنّ الحقيقة ليست ملكا لطرف بذاته، والقناعة أن الزعيم الأوحد المنزّه من كلّ الأخطاء ليس خلقا بشريا،
  • القناعة أيضا أنّ خدمة الشعب بالدفاع عن قضاياه تقتضي حتما الالتحام بجميع فئاته في معاناتها اليومية والوفاء لتطلعاتها مهما كانت التضحيات. ولعل مثال الشهيد الرمز شكري بالعيد الذي

طالته يد الغدر في مثل هذه اليوم، فقط لأنّها أدركت أنّه أصاب كبد الحقيقة وحاز على ثقة الجماهير الشعبية،لهو أكبر حافز للقوى التقدمية والديمقراطية الوطنية أن تجعل من ذلك التوجه بوصلتها لتوحيد صفوفها ونبذ عقلية التنافس بمن يملك الخطّ الأسلم والرؤية الأوضح لإيصال الوطن إلى برِّ الأمان.

إنه لو تتم تلك المراجعة بصفة نزيهة وحقيقية ويتم لمُّ شمل كل تلك القوى الوطنية في تيار سياسي تقدمي، ليمكن قطعا تحقيق انتصارات مدوّية لفائدة المواطنين والمواطنات بالرغم من ما قيل عن ضخامة ماكينة أصحاب النفوذ المالي الآتي من كل صوب وحدب بنية خوض المعارك الانتخابية القادمة! زمن المواطنيين الوطنيين قد حلَّ.

خديجة معلَّى

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
1 تعليق
التعليقات
صباح الجاسم - 15-02-2019 15:31

يبدو ان ما تطرقت اليه الكاتبة خديجة معلَّى هي ظاهرة تنسحب على عموم اليسار العربي، الاشكالية تكمن في " انانية" هذه الجهة او تلك لمجرد الاستحواذ على منصب قيادي او تفرّد في الحراك هو اصلا قاصر مهنيا اولا ويفتقر الى متراكم التجارب التي ظلت تطرق على ماسة الشيوعية ذات العمق الثوري المحرّب والبعيد تاريخيا. اما متى يكون هذا الاتحاد فيعتمد على التواضع والحكمة في تصوّر مقدار النتائج المستقبلية في ما لو تحقق مثل هذا الفهم ومفصل ما ذكرته الكاتبة الواعية.

X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.