هل فهم السّاسة الجدد درس التاريخ؟
نجمت أحداث 2011 عن أزمة استفحلت منذ عقود ولم تستطع الأنظمة المعنية العربية إدراك عمقها ولا كيفيّة مواجهاتها بطريقة تجنّبها دوّامة العنف والفوضى. ويبدو أنّ الحكومات الجديدة اتجهت أمام الفراغ السياسي والأمني الحاصل، إلى السير على النهج الذي اتبعه أسلافهم لتُدخل دولها من جديد في أزمات يتواصل معها دوران الحلقات المُفرغة.
لازال المشهد السياسي يؤكد يوما بعد يوم اتساع الفجوة بين المواطنين والحكومات المتعاقبة. ولا شك أنّ أبرز الأسباب هو الابتعاد عن القرار الحاسم وتشتّت السلطة.
التداول على السلطة
أعتقد أنّ جوهر السياسة الجارية - شئنا أم أبينا- هو الصراع من أجل الحكم، فهو الهدف القريب والعاجل مهما كانت أهدافه النهائية. إنّ البحث في الواقع الراهن يجب أن يتأسّس على الحقائق التاريخية وليس على الأوضاع الظرفية.
لقد كان انتفاء المعايير السياسية وترابطه بقضايا التداول على السلطة بارزا في مفاصل التاريخ الإنساني وفي تاريخ الدولة الواحدة وحتى لدينا، حيث اتجه تفكير الحكام إلى تفكيك تحالفات خصومهم وإرباك صفوفهم ليتسنى لهم الاحتفاظ بالسلطة وتوسيع دائرة حكم الأسرة. لقد شكّلت هذه الظاهرة قاعدة للحكم في عديد الدول منذ تاريخ بعيد واستمرت بدرجات متفاوتة حتى عصرنا هذا، رغم القناعات والأطروحات الجديدة المنادية بالمواطنة المتساوية والمجتمع المدني الحديث.
إنّ التداول على السلطة أمر مشروع، ولكنه مهدّد بأن يتحول في ظل تراجع ثقافة الشعوب وانحسار الوعي الديمقراطي إلى قوّة شدّ للتقدم أو هدم للدول، أو يصبح جزءا من منظومة الاختراقات الغربية الفاعلة على صعيد الحكومات والمنظمات والمؤسسات.
من الصعب في هذا السياق قبول فكرة أن الإرباك تسلّل إلى بُنية الدولة لدينا، وأنّها تشهد تقهقرا وتراجعا ملحوظا. لا نكاد نصدّق ما يحدث في المؤسسات الرسمية من ممارسات وما يجري لدى الأحزاب السياسية من انشقاقات وتحالفات والدخول في متاهات وإرهاصات، وكأنّ كثرة الأحزاب التي من المفروض أن تدفع عجلة الديمقراطية إلى الأمام زادت في اضطراب النظام ليفرز انحرافات وتشوّهات.
آمل أن لا تكون النخب السياسية لدينا تعيش هَوسَ الحكم وتتقاسم التّضليل السياسي لصناعة الرأي العام وتغيير الحقائق وتزوير التاريخ، وتصوير البطولة خيانة، والخيانة عملا وطنيا، وتحت وطأة هذه الظروف يهتف المواطن العادي للخيانة كما كان يهتف للإخلاص والشهادة.
ليس في هذا الرأي ميلان إلى أي حالة من التشاؤم أو التفاؤل، ولكن أُدرك بالقياس على التجارب والتاريخ أنّ السياسة لم تنجح لدينا في تقديم رؤية متّسقة لقضايا التداول على السلطة وتدبير الاختلاف في إطار من الضوابط الأخلاقية والقانونية. الجميع يدعي تغيير البلاد ولا أحد يفكّر في تغيير نفسه.
الإسلام السياسي
لم يفاجئ صعود قوى الإسلام السياسي في العالم العربي بعد الثورات الكثير من المحلّلين والمراقبين، فالأمر كان متوقّعا في ظل فشل الأنظمة السابقة في إدارة الحكم وتحقيق التنمية الشاملة.
وبصرف النظر عن استثمار هذه القوى للثورات العربية وتحويلها كأداة لتحقيق مكاسب سياسية فإنّ السياق الدولي ساهم بشكل كبير في بروزها وإدماجها والتمكين لها. إنّ الاهتمام بظاهرة الإسلام السياسي على المستوى الدولي ليست مسألة حديثة، فتاريخها يعود إلى انخراط هذه الحركات في الصراع الدولي الاقليمي في ظلّ الحرب الباردة لصالح المشروع الرأسمالي الغربي.
قد يحصل الكثير من التزييف لتاريخها ودورها ونفوذها، ولكن بعض القراءات التحليلية الموضوعية تشير إلى أن دخول هذه الحركات معتركات السياسة وانخراطها في الشأن العام بعد 2011، كشف تواجد أزمات حقيقية لديها، تتعلق ببرامجها التي يكتنفها الغموض، وبطبيعة رؤيتها لقضايا العصر.
وتُبرز نفس الدراسات مآخذ كبرى، تتعلق بتعاملها مع الديمقراطية من منطق لا يدل على التزام حقيقي بالقيم الملازمة للديمقراطية الليبرالية أو قبول نتائجها، وإن كانت بعضها قد قطعت خطوات على صعيد التكيّف والقبول بآليات الديمقراطية المتعلّقة بطريقة الوصول إلى السلطة، وإمكانية تداولها سلميا.
وتضيف بعض الأدبيات الحديثة، أنّ هذه التنظيمات رغم قدرتها على تجميع الجماهير وتنظيم هيكلتها الداخلية السرية والمعلنة، فإنها لم تستطع أنّ تضع مشروعها السياسي وفق نظرة معرفية سياسية تقوم على البعد الوطني والإلمام بالواقع لتحقيق أهداف إصلاحية وبناء الفرد في أنشطته الحياتية اليومية وتطلعاته المستقبلية.
وطبيعي أمام هذه الثغرات أن تعتبر هذه التيارات ظاهرة صعودها فرصة لا ينبغي إهدارها والعمل على ترسيخها ليصبح حضورها ثابتا نسبيا، في انتظار ساحة الحسم لقيادة عملية تغيير واسعة النطاق. ولئن يبقى هذا الإحتمال مستبعدا، فإنّ غضب المجتمعات يأتي بمفاجئات قد يدفعها لقبول الخيار المضاد، والميل نحو التطرف في المعالجات السريعة والحادة.
أحترم كثيرا المبادرات العلمية المهتمة بظاهرة صعود الاسلام السياسي وفهمه على ضوء فقه الواقع وفقه التاريخ. فالفهم ضروري لتحديد الأهداف التي يتعيّن على الدول أن تلعبها لتأطير هذه الحركات بما يتماشى والتحديات القادمة.
لقد انتقلت الخارطة الإسلامية الجديدة من التركيز على الجماعات إلى التركيز على المجتمعات، ومن العمل الحركي الهرمي إلى النظام الشبكي التعاوني، ليصبح الرهان الجديد هو كسب المجتمعات من خلال مؤسسات مدنية تواجه السلطات الرسمية والمؤسسات التابعة لها.
أشاطر الرأي القائل بأنّ مواجهة ظاهرة الإسلام السياسي لا تكون على مستواها البنيوي الخاص باعتبارها حركات دينية مُسيَّسة، من خلال النقد والتفنيد، أو باعتماد سياسة المُهادنة التي ترتّبت عنها نتائج عسكية وثّقها بعناية التاريخ، بل يجب التأسيس لعمل مؤسسي يقوم على سماحة الإسلام ونقاء عقيدته، عمل يجمع بين اجتهادات التجديد والثقافة العربية الإسلامية السائدة عبر مسارها التاريخي الممتد.
هناك إدراك أكثر من أيّ وقت مضى بضرورة نشر بديل ثقافي عصري يقوم على الإنسانية والعقلانية والعلم، فالسيطرة على الشعوب لا تعود فقط إلى الحكم المباشر وإنما تُردّ إلى الهيمنة الثقافية لإشاعة الرضاء بالتبعية واعتبارها أمرا مشروعا.
لقد كان نشر الثقافات المتطرّفة والأصولية مواكبا للسيطرة المادية. لذلك، وتحسّبا من ترسيخ أيّ استتباع، يجب على الحركات الإسلامية الناشطة في المشهد السياسي أن تعتمد أعلى درجة ممكنة من الوضوح لرسم الفواصل التي تميّزها عن الجماعات التكفيرية والإرهاب.
لم يعد ممكنا ولا مقبولا تواصل التوظيف السياسي للدين وتحويله إلى ايديولوجيا راديكالية تناهض الحداثة والنظم السياسية، فالدولة كمؤسسة إنسانية هي الأداة المثلى لتنظيم وإدارة الشأن العام وفق ضوابط محددة تقوم على مبادئ الديمقراطية ومقتضيات المصلحة العامة والقانون.
محسن بن عيسى
عقيد متقاعد من سلك الحرس الوطني
- اكتب تعليق
- تعليق