منجي الزيدي: نـوســتـالـجــيـا!
الحنين إلى الماضي أو ما يسمّيه البعض «نوستالجيا» شعور منتشر لدى عدد كبير من النّاس. ونحن نلاحظ استخداما واسعا لعبارات من قبيل: العصر الذّهبي والجيل الذّهبي والزّمن الجميل... و تَنهُّدًا جماعيا بعبارة يا «حسرة يا زمان «، ونشهد إقبالا على تداول الصّور القديمة لأماكن وأشخاص من الماضي، وأغانٍ ومقاطع فيديو وصوّرا بالأبيض والأسود تشدّ عددا لا يُستهان به من مستخدمي شبكات التّواصل الاجتماعيّ... ونتابع مقارنات لا تنتهي بين الأمس التّليد الزّاهر والحاضر البائس. فكيف يمكن أن نفهم هذه الظاهرة اجتماعيا ونفسيا؟
الحنين هو الشّعور بالرغبة في العودة إلى الماضي أو استعادة شيء منه. وهو شعور طبيعي يختلف من شخص إلى آخر باعتباره يرتبط بالتّاريخ الشخصيّ. ولكنّه يكتسب بعدا جماعيا عندما يشترك أكثر من شخص في الحنين إلى فترات أو أمكنة معيّنة بحكم انتمائهم إلى نفس الجيل أو الموطن أو الثّقافة... وقد ارتبطت عبارة Nostalgie بالمعـــاناة (NOSTOS تعــني العـــودة وALGOS تعني المعاناة) وهو ذات المعنى تقريبا الذي تتداوله الثّقافات المختلفة حيث يبدو الحنين كرغبة جامحة في العودة إلى شيء مضى أو مكان مفقود.
والواقع أنّ الحضارة الإنسانيّة أولت مكانة هامّة للحنين. ذلك بأنّه موضوع حاضر في الأساطير والمعتقدات القديمة والفنون والآداب، فضلا عن الفلسفة والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة. ولقد صنّف المؤرّخون الحقب التاريخيّة بناء على قيمة المعادن، فكان عصر البدايات عصرا ذهبيا تلاه عصر فضّي فعصر من نّحاس وصولا إلى عصر من حديد... هكذا تتابعت العصور فكان الماضي دائما من ذهب. وكانت الأساطير والمعتقدات تُعلي دائما من شأن الأصول الأولى أي العصر الذي أعقب خلق الإنسان واعتبرته «ربيعا أبديا» تتوق النفس البشرية لاستعادته لأنّه عصر السّلام والعدل والطمأنينة. واعتقد البعض أنّ حركة الزمن إنّما هي عود على بدء و رجوع أبدي...
ولقد كانت الهجرة والمنافي والحروب محاور تغذّي الحنين. فتغنّى الشّعراء بالأوطان وآثار الماضي ووقف البعض منهم يبكي من ذكرى حبيب ومنزل، والبعض الآخر يبكي على رسم دَرَس.
الفلاسفة بداية مع «كانط» و«روسو» ربطوا الحنين بالزمن. والرومانسيون عشقوا الطفولة، فاعتبرها «أبو القاسم الشابي» حلم الحياة، وافتقد فيها «بدر شاكر السياب» زمنا حرّا بلا حدود فتساءل حائرا: «طفولتي صباي، أين...أين كلّ ذاك؟ أين حياة لا يحدّ من طريقها الطويل سور؟». وفي مناخات أخرى بحث «مارسيل بروست» عن الزّمن الضّائع. واعتبر «فرويد» أنّ الحنين هو رغبة لاواعية في العودة إلى رحم الأم أي المرحلة الجنينية Etat Fœtal. ذلك أنّ الإنسان وهو يصارع إكراهات الحاضر ويقف حائرا أمام المستقبل الغامض قلقا منزعجا ممّا قد تخبئه الأقدار من نوائب وأحزان، يجد في زمن البدايات راحة وشعورا بالأمان حيث لا مسؤوليات ولا ضغوطات ولا حاجة ولا رغبات مكبوتة...
يندرج الحنين في سياق زمني ثلاثي الأبعاد، ماض جميل وحاضر أليم ومستقبل غامض. ويتجلّى كشعور بالغربة في الزمان يبحث الإنسان عن التخفيف منه بالرجوع إلى الأصل الثابت والمهد الآمن. وإذا كان الحنين إلى المكان معاناة قابلة للعلاج بالعودة، فإنّ الحنين إلى الزمان يصعب شفاؤه، باعتبار أنّ ذلك الزمن قد ولّى وانقضى ولن يعود، ولا يمكن أن يُعاش مرّة أخرى. وذلك هو مبعث الشعور بالحسرة وأحيانا بالندم.
والحنين مرتبط بالذاكرة. والذاكرة لها بعدان بعد فردي وآخر جماعي. وهي تتأثّر بالأطر الاجتماعية التي تنتمي إليها. وهي من وجهة تحليل علم الاجتماع انتقائية فهي تجنح إلى إخفاء بعض الأحداث الأليمة أو المخجلة وتركّز على أخرى أكثر إشراقا و إيجابية، وذلك ما عبّر عنه بعض علماء الاجتماع «بفقدان الذاكرة الانتقائي» Amnésie sélective. من هذه الوجهة يمكن أن نفهم أنّ الاحتفاء بأحداث أو رموز من الماضي هو في الواقع محاولة لإثبات الهوية الجماعية على نحو مثالي.
والحنين مرتبط بالسنّ. وكثيرا ما يُنظر إليه كخاصية من خاصيات الشخص المسنّ الذي يعيش على ذكريات الماضي، ولا يكفّ عن انتقاد الحاضر والحسرة على ما فات. كما يُنظر إليه كسلوك جيلي، ذلك أنّ الجيل السّابق وهو يواجه تحديّات فقدان المكانة ويستشعر منافسة الجيل الجديد يستنجد بالذاكرة في محاولة لإثبات جدارة وعراقة وكفاءة يتفوّق بها على هؤلاء القادمين الجدد.
ويمكن فهم الحنين اليوم في ضوء نظرية التسارع Accélération التي صاغها حديثا عالم الاجتماع الألماني Hartmut Rosa والتي بيّن من خلالها عجز الإنسان عن مواكبة تسارع التغيّرات في مجتمعات الحداثة واستيعابها، هذه الحداثة التي نعتها عالم الاجتماع البريطاني Giddens بالشاحنة المجنونة وشبّهها Sygmunt Bauman بطائرة دون طيار. هذا العجز أمام سرعة التحوّلات وغموض المستقبل قد يفسّر اللجوء إلى النقاط المشرقة في الذاكرة الانتقائية حيث يغيب الحاضر بصعوباته وآلامه ويسود الماضي بجماله ونعومته وسكينته.
الحنين مصدر إلهام و إبداع وهو شعور جميل يخفّف من وطأة الحاضر. ولا بأس من الماضي إذا كان يدفع إلى مغالبة صعاب الحاضر والتقدّم نحو المستقبل، ذلك أنّه لا يمكن المُضيّ إلى الأمام مع إطالة النظر في المرآة العاكسة إلى الخلف.
منجي الزيدي
أستاذ تعليم عال بجامعة تونس
- اكتب تعليق
- تعليق