أخبار - 2019.01.02

خميّس الشّمّاري ومختار الطّريفي : الجيل الأوّل (ألبوم صور)

خميّس الشّمّاري ومختار الطّريفي : الجيل الأوّل

بقلم: إدريس اليازامي وكمال الجندوبي - تبدو المُثُل التّي نادى بها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان - ونحن نُحيي ذكراه السّبعين- أمرا مُكتسَبا اليوم في بلدان الجنوب. ففضلا عن أنّ الدّساتير تنصّ على تلك المُثُل فهي تُـتَقاسم صلب مختلِف الطّبقات الاجتماعيّة وتُلهم تحرّك آلاف الفاعلين في المجتمع المدنيّ. ويتراءى هذا الانخراط اليوم أمرا بديهيّا وواضحا. ومع ذلك، فهو في جانب كبير منه نتاج عمل جيل من مناضلي ومناضلات حقوق الإنسان من بينهم خميّس الشّمّاري المولود سنة 1940، ومختار الطّريفي الذّي وُلد بعده بعشر سنوات. وهما من الوجوه الرّمزيّة في تونس بكلّ تأكيد ، ولكن في أفق أكثر اتّساعا أيضا.

يبدو المساران، بادئ الأمر، متباينين، فبينهما في حساب الزّمن مسافة عشر سنوات، وهذا ابن مدينة تونس من جهة وذاك وُلد بقرية حاجب العيون من جهة مقابلة. زاول الأوّل دراسته العليا بالخارج في حين لم يُغادر الثّاني مقاعد الجامعة التّونسيّة إلّا تحت إكراه السّلطات التّي قدّرت فيه منذئذ الطّالبَ المثير للشّغب. ولكنّ الاختلافات لا تتجاوز هذا الحدّ فأوجه التّشابه هي بلا جدال أكثر وأوفر.

ينتمي خميّس ومختار كلاهما إلى ذاك الجيل الذّي يُمكن أن نصفه بجيل ما بعد الحركة الوطنيّة، جيل كان بين الطّفولة والمراهقة حينما بلغت حركة المقاومة الوطنيّة أوجها، وعند نيل الاستقلال اكتشف السّياسة عبر العمل النّقابيّ الطّلاّبيّ.

وشأنَ بقيّة بلدان المغرب العربيّ (الجزائر والمغرب) كان الاتّحاد العامّ لطلبة تونس في الآن نفسه مرجع الأدلجة الاشتراكيّة السّياسيّة والمظلّة التّي تستعملها مختلف الفصائل الحزبيّة (قوميّة عربيّة – اشتراكيّة – شيوعيّة ثمّ مناضلو أقصى اليسار) لانتداب الأتباع و"تصفية الحسابات".

كانت المعركة بالنّسبة إلى الشّبيبة المناضلة لسنوات 1960 و1970 معركة مزدوجة: مواجهة الأنظمة المتسلّطة التّي قامت بعد الاستقلال من جهة وتزعّم حركات المعارضة من جهة ثانية. وفي حلبة هذه الصّراعات التّي يمثّلها الاتّحاد العامّ لطلبة تونس كانت المعارك الايديولوجيّة والمنافسات الخطابيّة مدارس ممتازة لتلقّن أولى المبادئ.

وتتكفّل – من حين إلى آخر – هراوات قوّات الأمن والسّجون والخدمة العسكريّة التّي تُصادف أوانها بتكملة التّكوين النّظريّ الذّي يُتلقَّى على مقاعد الجامعة وصلب الاتّحاد. ولم يشذّ الطّالبان المناضلان عن هذه القاعدة.

وفي منعطف السّنوات السّبعين التقى هذا الجيل بحقوق الإنسان، وكان هذا الاكتشاف نتاج عديد التّطوّرات. من المرجّح أنّه ثمرة التقاء النّضج الشّخصيّ والوعي بصعوبات العمل الحزبيّ ومآزقه في الآن نفسه. 

ثمّ تأسيس الرّابطة التّونسيّة للدّفاع عن حقوق الإنسان سنة 1976، وكان مؤسّسوها ومناضلوها الأوائل – ومن ضمنهم صاحبانا- قد دخَلوا بَعْدُ الحياة المهنيّة والتهموا في الوقت نفسه الكتب والصّحف التّي تمكّنهم من متابعة مستجدّات الأحداث العالميّة مثل صراعات جنوب شرق آسيا، صعود المسألة الفلسطينيّة، الخلاف الكبير الصّيني السّوفياتي، "الغيفاريّة" ومغامراتها ... ولكنّهم في الوقت ذاته بصدد البحث عن منوال سياسيّ ذي خصوصيّات محليّة يُمكّنهم من تجاوز النّزعة التّسلّطيّة وإرساء نموذج لمجتمع عادل.

انكشف العمل الحزبيّ – إن قليلا أو كثيرا – أشَدَّ عسرا ممّا يُعتَقدُ وأشدّ تعقيدا ممّا يُصوّره الوهم، ولا يعود ذلك إلى القمع الصّارم فحسبُ.

انفصل هذا الجيل تدريجيّا – كما هو الشّأن في البلدان المجاورة – عن العمل الحزبيّ سواء أن كان قانونيّا أم سريّا، ووجد في حقوق الإنسان المنفذ والخطّ الموجّه لأنماط العمل السّياسيّ الجديدة.

كانت الرّابطة التّونسيّة للدّفاع عن حقوق الإنسان، مَثَلُها مَثَـلُ الجمعيّة المغربيّة لحقوق الإنسان والمنظّمة المغربيّة لحقوق الإنسان في المغرب  تستجيب في تركيبة أعضائها المسيّرين إلى توازنات سياسيّة مُتقنة. ولكن طفا على السّطح صنف من المناضلين وهم المستقلّون، ووهنت الصّلات التّي تشدّ الوجوه الأساسيّة لحقوق الإنسان إلى تنظيماتهم السّياسيّة الأصليّة، وتغلّب العمل الحقوقيّ أكثر فأكثر ولاقى صدى دوليّا مُتصاعدا، ولم يعزب هذا الأمر عن السّلطات فكان القمع في الموعد أيضا.

وإنّ اكتشاف حقوق الإنسان من قِبل هذا الجيل لَهُوَ كذلك نتاج تطوّرات عالميّة، فقد دشّن الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان الذّي أُقرّ سنة 1948 مرحلةَ شموليّةَ حقوق الانسان، ولكنّ نسق العولمة والكونيّة تعطّل طيلة سنوات بسبب التّعارض بين المعسكر السّوفياتي والمعسكر الرّأسمالي في الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، وهو تعارض اتّخذ هيئة الجبهات، فأنصار المعسكر السّوفياتي يرون أنّ الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة هي التّي ينبغي أن تحظى بالأولويّة، وأمّا أنصار المعسكر الرّأسمالي فيعتبرون الحقوق المدنيّة والسّياسيّة هي الأَوْلى.

ولم تنفرج هذه العطالة إلّا سنة 1966 عند تبنّي الميثاقين: الميثاق الدّولي المتعلّق بالحقوق المدنيّة والسّياسيّة والميثاق الدّولي المتعلّق بالحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة.

وتسارع نسق إحداث آليّات جديدة للقانون الدّوليّ وأخذت المنظّمات الدّوليّة للمجتمع المدنيّ في البروز، فبُعثت منظّمة العفو الدّوليّة في بداية السّنوات السّتّين، وبدأت هيئات الأمم المتّحدة وآليّاتها في مجال حقوق الإنسان تزدهر .

واستفاد ظهور فضاءات وطنيّة مخصّصة لحقوق الإنسان في تونس وجلّ بلدان الجنوب من هذه الدّيناميكيّة العالميّة الجديدة، فقد اغتنى منها ووجد فيها دعما وسندا.

وعلى هذا النّحو سيلتقي الشّمّاري أوّلا ثمّ الطّريفي فيما بعد المنظّمات الجديدة الصّاعدة مثل الجامعة الدّوليّة لرابطات حقوق الإنسان التّي تأسّست سنة 1922 غير أنّها ظلّت إلى ذلك الحين منغلقة على العالم الأوروبّي دون غيره، والخدمة المدنيّة الدّوليّة، والمنظّمة العالميّة لمناهضة التّعذيب ... ولعب خميّس الشّمّاري خاصّة (مع صديقه وشريكه سعد الدّين الزّمرلي) دورا أساسيّا لدى هذه المنظّمات، فقد ساعدها على اكتشاف عوالم الدّيمقراطيّة الجديدة في جنوب المتوسّط وفهمها. كما لعب الدّور نفسه لدى المناضلين الأصغر سنّا من بينهم مؤلّفا هذه المساهمة، فكان خميّس حينئذ مُمهِّدَ السّبيل وهمزة الوصل يمدُّ معابر مستحدثة بين عوالم كان بعضها – إلى ذلك الوقت – يجهل البعض الآخر.

وقد أناط المناضلون التّونسيّون – مع أصدقائهم من بقيّة بلدان المغرب العربيّ – بالعمل الحقوقيّ تحقيق الحلم القديم المتمثّل في بناء فضاء مغاربيّ مشترك ، وأوكل تجسيمه هذه المرّة إلى حقوق الإنسان. وهو مسعى كان قد بدأ في الحقيقة منذ السّنوات العشرين عند بعث جمعيّة الطّلبة المسلمين لشمال إفريقيا بفرنسا (في باريس) ، ثمّ استُؤنف مع دعوة طنجة في أفريل 1958.

وتهيّأت المرحلة المغاربيّة الجديدة بفضل تعاقب بعث جمعيّات مستحدثة أخذت على عاتقها حماية القيم الكونيّة وتطويرها: الرّابطة المغربيّة لحقوق الإنسان منذ 1973 والجمعيّة المغربيّة لحقوق الإنسان 1979 والرّابطة الجزائريّة للدّفاع عن حقوق الإنسان 1985 والمنظّمة المغربيّة لحقوق الانسان 1988 ... وكانت قد نشأت بين طيف من مسؤولي المنظّمات الجديدة معرفةٌ سابقة ولا سيّما أولئك الذّين كانوا قد ناضلوا سويّا صلب جمعيّة الطّلبة المسلمين لشمال إفريقيا في باريس واختلفوا في الوقت نفسه إلى مقرّاتها بشارع سان-ميشال ، والشّمّاري هو أحد هؤلاء. أمّا البقيّة فقد التقوا ضمن شبكات أخرى .

وفيما يتعلّق بالطّريفي – وقد كان صحفيّا في بداياته قبل أن يختار مهنة المحاماة – فهو ينتمي إلى تلك الفئة الثّانية. ولكن، مهما يكن من أمر فإنّ الرّجلين ينتسبان إلى النّواة الأولى التّي حاولت إنشاء المنتدى المغاربي لحقوق الإنسان وتجنّدت في أيّام العسر في صفّ منظّمات أخرى ولم تتخلّف عن ذلك ما دامت الحكومات القائمة تنظر بعين السّخط إلى صعود هؤلاء المعارضين الجدد لأسلوب الحكم المتصلّب .

وعلى هذا النّحو راقبت الرّابطة التّونسيّة للدّفاع عن حقوق الإنسان إلى جانب الجامعة الدّوليّة لرابطات حقوق الإنسان ومنظّمة العفو الدّوليّة المحاكمة التّي أُقيمت في ديسمبر 1985 بـمدينة "المدية" في الجزائر لمحمّد علي يحيى عبد النّور وأصدقائه مؤسّسي الرّابطة الجزائريّة للدّفاع عن حقوق الإنسان.

أمّا سنوات 1990 والعشريّة الأولى من هذا القرن فكانت أشدّ عسرا على صديقينا اللّذين وُجدا مع لفيف من المناضلين والمناضلات على جبهة المواجهة ضدّ نظام بن علي، فمن أكتوبر 2000 إلى سبتمبر 2001 كان الطّريفي رئيسا لرابطةٍ مُقاوِمَةٍ وملاحَقَةٍ من قبل شرطة النّظام.

وأمّا الشّمّاري الذّي كان كاتبا عامّا ونائبا لرئيس الرّابطة إبّان تأسيسها فبات هو أيضا تحت المجهر: تفتيشات مُشدّدة في المطار عند كلّ سفر، حملات تشويه وتشنيع من قِبل صحافة المجاري، مراقبة عالية الدّقّة لمقرّ سكناه، قضايا عدليّة، هرسلة لأفراد عائلته.

ولكنّ تلك السّنوات كانت أيضا سنوات فضح النّظام تدريجيّا. ففي الدّاخل وفي الخارج ما فتئت المقاومة العنيدة والشّجاعة لمناضلي ومناضلات حقوق الإنسان التّونسيّين – وكانوا في الحقيقة مجموعة قليلة العدد – تكتسب صدًى واسعا، فكان مختار داخل البلاد وخميّس الذّي دُفع إلى الهجرة يُعدّان العدّة للرّبيع القادم .

وربّما بدت أعمال المقاومة أحيانا على قدر كبير من قلّة البأس إزاء قوّة النّظام: كأنْ يُوزَّعَ منشور هنا ويُدلى بتصريح هناك ، ويُعقد اجتماع صغير يوما من الأيّام ويُضبَطَ موعد لقاء مع نائب أوروبّي يوما آخر. ليست هي إلّا خطوات قريبة، ولكن تصدر في كلّ مرّة ردود فعل خرقاء عن السّلطات التّي تزداد فزعا وعُنفا وتسقط دون وعي في المغالاة وإثارة السّخرية. إنّها قويّة في ظاهر الأمر ولكنّها قد غُلبت بَعدُ بشجاعة الجيل الأوّل.

بقلم: إدريس اليازامي رئيس المؤسّسة الأورومتوسّطيّة لمساندة المدافعين عن حقوق الانسان

وكمال الجندوبي الرّئيس الشّرفي للشبكة الأوروبية المتوسطية لحقوق الإنسان

تعريب : د. الحبيب الدّريدي

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.