جريمة قتل وتقطيع الصحافي السعودي جمال خاشقجي: عندما تفقد الأخلاق صوتها
حيث أن التحالف الأمريكي السعودي قديم واستراتيجي، وفي استمراره مصلحة للولايات المتحدة الأمريكية، وإسرائيل وحلفاء آخرين في المنطقة، وحيث أن العلاقات السعودية الأمريكية تكتسي أهمية كبيرة خاصة في سياق التوتّر القائم مع إيران، «أكبر داعم للإرهاب»،
وحيث أن المملكة العربية السعودية تقوم، في هذا «العالم الشرّير الشرس» الذي نعيش فيه اليوم، بإنفاق المليارات لمقاومة الإرهاب الإسلامي، وهي مستعدة للانسحاب من اليمن إذا قبل الإيرانيون مغادرته, وحيث أن المملكة أبرمت مع الولايات المتحدة الأمريكية صفقات سلاح تقدّر قيمتها الإجمالية بـ 450 مليار دولار، وستوفّر، لعدّة سنوات، مواطن عمل لمئات آلاف الأمريكيين خاصّة في مجال صناعة الأسلحة، وحيث أنّ إلغاء هذه الصفقات يعدّ «حماقة» لن تفيد سوى روسيا والصين.
حيث أنّ المملكة تتجاوب مع رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في الحفاظ على أسعار النفط في مستوى معقول، وأن مقاطعتها ستكون لها اثار سلبية على الاقتصاد الأمريكي واقتصاد العالم،
فإنّ الرئيس الأمريكي غريب الأطوار دونالد ترامب الذي رفع، منذ حملته الانتخابية شعار «أمريكا أوّلا»، يعتبر أن جريمة قتل وتقطيع الصحافي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول، ليست سوى قضية ثانوية بالمقارنة مع أهميّة العلاقات الأمريكية السعودية، وهو من منطلق جملة الحيثيات التي عدّدناها والتي عبّر عنها بطريقته الفجّة المعتادة، يرجّح كفة مصالح أمريكا الاستراتيجية والاقتصادية على كفّة الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية التي لا تسمن ولا تغني من جوع... وتأسيسا على ذلك، فإنّه يؤيّد تأييدا مطلقا لا لبس فيه وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان الذي يَشْتَبِهُ البعض في أنّه الآمر بتصفية جمال خاشقجي، بل إنّه يغسله من هذه الشبهة بـ«الماء والثلج والبرد» بدعوى أنّ وكالة الاستخبارات الأمريكية نفسها لم تقدّم له أيّ قرينة مباشرة تثبت ارتباطه بهذه الجريمة الشنيعة الفظيعة المغرقة في البشاعة والوحشية والتي نفّذت في بعثة قنصلية في دولة تبقى «شقيقة» وإن كانت العلاقات معها «شبه عدائية» منذ مدّة. وليس هذا فحسب، فهو، إذا صدقت المصادر المطّلعة المقرّبة منه، يسخر في أحاديثه الخاصّة من اهتمام الرأي العام العالمي «الزائد عن الحدّ» بجريمة قتل مجرّد صحافي، في حين لا يهتمّ بالممارسات الوحشية التي تقوم بها دول أخرى مثل الصين التي «سجن رئيسها أكثر من مليون مسلم إيغوري في معسكرات بسبب دينهم»، كما تساءل، بصوت عالٍ أمام بعض مساعديه، عمّا يمكن أن يدعو الولايات المتحدة إلى اتّخاذ موقف من قضية قتل جمال خاشقجي وهو لم يكن مواطنا أمريكيا، وقتله لم يحدث في الأراضي الأمريكية. على أنّه يُلاَحِظُ، ربما لذرّ شيء من الرماد في العيون، أنّ إدارته قرّرت تسليط عقوبات مالية على الـ 17 عنصرا الذين شاركوا في عملية القتل، والغالب على الظنّ أنّها لن تذهب، على الأقلّ في المرحلة الراهنة، إلى أبعد من ذلك في معاقبة المملكة العربية السعودية... ولن يكون مهمّا، بعد ذلك، أن ينتقد مجلس الشيوخ موقف الرئيس والإدارة الامريكية ولا أن يطالبهما، كما فعل يوم الأربعاء 28 نوفمبر 2018، بمعاقبة الرياض، ولا أن يلوّح بإصدار قرار يقضي بقطع المعونة العسكرية عنها في الحرب الضارية التي ما انفكّت تقودها في اليمن منذ أكثر من ثلاث سنوات ونصف، والتي أفرزت «وضعا لا إنسانيا» لم يسبق للمنطقة أن عرفت مثله.
كما لن يكون مهمّا أن تواصل بعض الصحف الأمريكية، استهجانها لسلوك الرئيس دونالد ترامب الذي غلّب علاقاته الشخصية ومصالحه التجارية على مصالح الولايات المتحدة وهو ما يشكّل في نظر صحيفة الـ»واشنطن بوست» «خيانة للقيم العريقة التي تدافع عنها الولايات المتحدة من أجل حقوق الإنسان». وأمّا ما تواصل تركيا التي ارتُكِبَتْ الجريمة على أرضها القيام به من «مناورات ومداورات» فإنّه لن يفلح في تغيير مآلها، لعدّة أسباب، أوّلها أن النظام التركي لم يعرف، في يوم من الأيام، باحترامه لحقوق الانسان فضلا عن أن يكون أحد رعاتها، وثانيها أنّ موقفه لا يمكن أن يعتدّ به لأنّه غير محايد باعتبار أنّه «غريم» للنظام السعودي في عدّة ملفّات إقليمية وخاصّة في ملفّ الأزمة القائمة منذ سنة ونصف بين الرباعي الخليجي المصري وبين دولة قطر، وثالثها، وهو الأهمّ، أنّه تعامل مع الجريمة بأسلوب فيه الكثير من المخاتلة والمراوغة، مما يوحي بأنّه يريد استغلالها في نيل بعض المكاسب السياسية والماديّة أكثر ممّا يريد معاقبة مرتكبيها، وليس أدلّ على ذلك من أنّه استخدم أسلوب «القطرة قطرة» في تسريب ما يتوفّر عليه من معلومات، ممّا يوحي بأنّه يريد مقايضة كتمانها، أو كتمان بعضها، بتلبية بعض مطالبه من الرياض... ومع أنّ تركيا تردّد أنّها على عكس الولايات المتحدة ورئيسها غريب الأطوار دونالد ترامب «لن تسمح بالتغطية على جريمة قتل جمال خاشقجي»، وستمضي في الكشف عن ملابساتها، وأنّها إذا وصلت إلى طريق مسدود مع الرياض، ستعمل على إجراء تحقيق دوّلي تقوده الأمم المتحدة في الجريمة، فإنّها في المقابل، تؤكّد، كما جاء على لسان وزير شؤونها الخارجية أنّها «لا ترغب في تخريب علاقاتها مع الرياض»، وأنّها «لا يمكن أن تربط العلاقات التركية السعودية بشخص واحد».
وأمّا عن مواقف بقيّة الدول الغربية على غرار كندا وفرنسا وألمانيا (ومعهما الاتحاد الأوروبي)، فإنّها تبقى شكلية وغير جديّة وبالتالي محدودة الفعالية خاصّة وأنّها تتقاطع مع الموقف الأمريكي في مزجها بين المصالح والمبادئ، فهذه الدول لا تريد أن تصطدم مع الرياض، ولا أن تحرم نفسها من مليارات الدولارات التي يمكن للسلطات السعودية أن تحرّكها لتجاوز جريمة قتل جمال خاشقجي، غير أنّها أمام انفراد الولايات المتحدة بالاستفادة من هذه المليارات، تميل الى سلوك مسلك ذي مسحة «أخلاقية»، كوسيلة للتعبير عن انزعاجها من خيار الرياض، وللظهور بمظهر يميّزها عن «لا أخلاقية» ربّ البيت الأبيض... وقد تجلّى ذلك مثلا في موقف كلّ من فرنسا وألمانيا اللتين اكتفيتا بحظر الدخول الى أراضيهما على المشتبه في ضلوعهم في جريمة قتل جمال خاشقجي، كما لوّحتا بالعمل على وقف مبيعات الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية.
ولعل أخشى ما يُخشى في جملة هـــذه المواقف التــي لا تخفى «ماكيافيليتها»، أنها ستخيّب ظنّ الذين توقّعوا أن تساعد بارقة الأمل التي لاحت في الأفق، إثر جريمة قتل جمال خاشقجي، على تقريب ساعة الخلاص من «جريمة» الحرب في اليمن وعليه، وعلى تفريج الأزمة بين الرباعي الخليجي ودولة قطر، بل إنّها، على العكس من ذلك وعلى ما يبدو، شجّعت ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الذي كان قال في مقابلة أجراها في أفريل 2017 مع صحيفة الـ»واشنطن بوست» إنّ «السماء هي الحدّ الأقصى لطموحاته»، على التمادي في حربه على اليمن، بل على تصعيدها من خلال محاولة السيطرة على ميناء «الحديدة» الذي يشكّل بوّابة دخول قرابة 80 % من المساعدات التي تصل إلى اليمن، وكأنّه بذلك يريد الانتقام من «الرجّة» التي سبّبتها له جريمة قتل جمال خاشقجي، بصبّ جام غضبه على اليمن واليمنيين. وعلى كلّ وفي انتظار ما ستحمله الأيّام القادمة من تطوّرات، فإنّ ما يمكن استخلاصه من مواقف الولايات المتحدة والدول الغربية وبقية دول العالم بصفة عامّة، هي أنّ الذّود عن الكرامة البشرية وحقوق الانسان ليس سوى «شعار» لا يصمد أمام إغراءات المال، وأنّ الأخلاق والمبادئ والقيم تفقد صوتها أمام المصالح والصفقات المربحة...
وربّما لا تكون سلسلة اللقاءات التي عقدها ولي العهد السعودي مع قادة الدول المشاركين في قمّة مجموعة العشرين في بيونيس إيرس بالأرجنتين، وكذلك سلسلة الزيارات التي قام بها الى عدد من البلدان ومنها تونس، وهو في طريقه الى القمّة ثمّ وهو عائد منها، إلا دليلا على الشروع في طيّ سجلّ هذه الجريمة النكراء، ولو إلى حين... أكتوبر.
غير أنّ ما ينبغي التنبّه والتنبيه إليه، في الختام، هو أنّ صورة المملكة العربية السعودية قبل الثاني من أكتوبر 2018 (تاريخ قتل جمال خاشقجي)، لن تكون أبدا نفس الصورة بعده، ومهما استخدمت المملكة من الأموال لإغراء الدول بالاصطفاف الى جانبها، وبغضّ النظر عن الجريمة المقترفة، فإنّها لن تفلح، على المدى الطويل، في غسل ما علق بصورتها من عَفَنٍة.
محمّد ابراهيم الحصايري
- اكتب تعليق
- تعليق