عادل الأحمر: حليـب الغــولـة... مــن أنــغـــولا!
التقيت صباح اليوم بالعيّاش على قهوة سمراء، اتّفقنا على أن نشربها باكرا في لحظة صفاء، قبل أن يهجم على المقهى جيش الحرفاء، ويعمّ المكان دخان الشّيشة والضوضاء.
وعندما دخلت المقهى وهممت بالسلام، فاجأني صديقي بهذا الكلام: «قل لي الساعة: عندك حليب وزبدة في الدار؟»، فأجبته وأنا أخفي تعجّبي: «ياخي، سي الشباب، لازم تبدا من صباحك تسيّب عليّ في الضمار؟» فردّ عليّ بكل حزم: «ياولدي، أنا قلت لك كلمة وحدة: عندك ولاّ ما عندكش حليب؟ كان لا، خلّي فيسع نبعث نجيب». فقلت، وقد تبدّد تأثير المفاجأة: «سامحني، ياخي حلّيت عطرية، ولاّ وليت مربّي أبقار هولندية؟»...فأجابني: «لا عطرية لا سوبارات، لا معيز ولا بقرات، أما إيـذا تحب حليب عندي حتّى حليب الغولة، وإذا لزم نجيبهولك من أنغولا، شبّيك لبّيك، م الشرق يجيك م الغرب يجيك، وراس عدّوك يتكركب بين ساقيك!».
فقلت له: «لا جنية ولا غولة، ولا الموزمبيق ولا أنغولا !»، هات لي بركة حليب البقر، ويا دار ما دخلك شر... لكن قل لي : من أين لك بالحليب والزبدة، وانا تقطعت ساقيّ وتشوشطت الكبدة، ولم أجد لهما أثرا لا عند عطّار الحومة، ولا في المغازات المذخمة القمقومة؟ وحتّى لمّا أعتقد أنّي بلغت المراد، أجد الحليب العادي قد أتى عليه القوم كالجراد، ولا أعثر إلاّ على بقايا حليب زيرو لا يسمن ولا يغني من جوع، أو حليب كامل الدسم هو -كما قال عبد الحليم حافظ- «خنجر في الضلوع»، لمن انسدّت عروقه مثلي بالشحوم، ولا يحتاج إلى مزيد من السموم، هذا طبعا مع الفارق الكبير في السوم!».
وللردّ على «تيرادتي» والسؤال ، استوى العيّاش على كرسيه ثمّ مال ، ذات اليمين وذات الشمال، وأخيرا قال: «حاصيلو يا صاحبي قدّاكش نيّة ! ياخي تحب تلقى الحليب مطيّش في الثنية؟ ما تعرفش إلّي لبلاد هاذي ما ينفع فيها كان «السيستام D» وديما شوية؟، فقلت: «بربّي اشنوّه هالسيستام؟ نوّرني بالله ومن غير برشة كلام!»، والساعة ، الــــــ «D» هـــاذي شنيـــه؟ ما تقلّيش متاع الديمقراطية، على خاطر هاذيكه لي قاسيناه منها موش شوية، ولا حلّت لنا مشكلة الحليب ولا زادتنا في الشهرية !». فأجاب العيّاش : «ياولدي» لا ديمقراطية ولا كروية ! هاذيكة يا سيدي الــــ «D» متاع دبّر راسك، ودور كمباسك، ودز تخطف، توّه تجيك الدنيا تزحف !».
قلــت : «باهي! الــــ «D» وفهمناها بالكمال والتمام، لكن قل لي: ماهي علاقة الحليب بهذا السيستام؟». وعندما استمع العيّاش إلى هذا السؤال، عاد فاستوى ومال، ذات اليمين وذات الشمال، ثمّ قال: «بالله قداش نقعد نعلّم فيك؟ ياخي ما تعرفش حاجة اسمها التكتيك؟»، فقلت: «ياخي أحنا في مقابلة رياضية، وإلا بالكشي في معركة سياسية؟»، فأجابني على الفور: «لا سياسة ولا كورة، بل حيلة مشهورة، للالتفاف على تحديد الكميّات، المسموح باقتنائها عند ندرة بعض المنتجات». قلت : «وما هذه الحيلة أيّها الرجل العجيب؟ وكيف تُطبّق على الحليب؟».
اندهش صديقي من سؤالي: «لاعاد! ما تقلّيش ما تعرفهاش يا بوهالي؟». وإزاء إنكاري قال لي العيّاش: «ماني نقوم الصباح بكري، ونمشي للسوبار مارشي نسري، ونهز معاي لولاد والمادام، والدنيا مازالت ظلام. وعندما تفتح أبواب المحل، نكون أوّل من إلى رفوف الحليب يصل، فيأخذ كل منّا ستيكة كيف بقية العباد، ويقصد الكاسة على انفراد، ويكون التقاء الجميع في موقف السيارات، ومعنا غنيمة بخمس ستيكات. ونعود بعد ذلك بسرعة لا متناهية، إلى غزوة ثانية، فإن وجدنا ضالّتنا ضربنا الغنيمة في اثنين، وعدنا إلى قواعدنا سالمين، وإلاّ تكون لنا من الغد عودة إلى نفس العملية، وبنفس التكتيك والاستراتيجية...وهكذا دواليك حتّى غدا لنا في البيت مخزون استراتيجي محترم، يجلي عنّا كل هم، ولا نخاف معه من ندرة أو انقطاع، وقد نغيث ببعضه أمثالك ممّن ليس لهم في هذا الأمر باع وذراع».
عندها فهمت لماذا بعد هكذا عمليات تهريب، مايخلطش واحد كيفي على باكو حليب... وعندما صارحت العيّاش بهذا الكلام وأنحيت عليه بالملام، قائلا: «يا صاحبي، هذا سلوك موش حضاري والكلّو قلّة ذوق، والناس لي كيفك هوما سبب انقطاع الحليب م السوق»، فما كان منه إلا أن أجابني: «شوف يا صاحبي، أنا نخمّم في صغاري، وكان نسمع كلامك توه في بقعة الحليب، نشرّبهم سلوك حضاري»... ثمّ قام من كرسيه، واستوى في وقفته، ودون أن ينظر إلى اليمين أو إلى الشمال، غادر المقهى في الحال، وأنا وراءه أنادي ولا مــن مجــيب: «إيه! قل لي عاد: وقتاش نجيك تعطيني ستيكة حليب؟».
عادل الأحمر
- اكتب تعليق
- تعليق