مهاترات سياسوية تؤجل مواجـهة التحديــات الحارقة
تعيش البلاد على وقع أزمة سياسية متعدّدة المحاور والأبعاد، ممّا جعل المشهد السياسي مُعقّدا ومُتشظيا. يكفي أن نستعرض بعض قسماته البارزة لندرك حراجة اللحظة التاريخية التي نمرُّ بها: إقرار ميزانية المحكمة الدستورية دون تشكيل المحكمة نفسها، انتخابات تشريعية ورئاسية بلا هيأة عليا مُهيكلة تشرف على تلك الانتخابات، وخاصّة بلا رئيس حتّى اليوم، صراع مفتوح بين الرئاستين وإنهاء التوافق بين الحزبين الكبيرين المُشكّلين للحكومة، حسمُ مسار العدالة الانتقالية قانونيا بالتصويت، مع استمرار التجاذب الشديد على مسألة التعويضات.
الانتخابات في موعدها
كلُّ هذه الظواهر، وغيرُها كثيرٌ، تُلقي ظلالا كثيفة على مستقبل التجربة الانتقالية، وإن كان من المؤكد أنّ الانتخابات، بشقّيها الرئاسي والبرلماني، ستجرى في مواعيدها. لكنّها ستكون انتخابات بنسبة إقبال ضئيلة وغير مسبوقة على الأرجح، نتيجة انهيار مصداقية النخب الحزبية المُتناهشة في نظر الرأي العام.
أكثر من ذلك، يشكّل الخلاف على القانون الانتخابي مصدرا من مصادر التنابذ بين التشكيلات السياسية والكتل البرلمانية، وخاصّة في ما يتعلق بالعتبة، التي تريد الأحزاب الكبرى ترفيعها إلى 5 في المئة كحدّ أدنى لتمثيل الحزب في البرلمان، بينما تتمسّك الأحزاب الصغيرة ومجموعة من مكوّنات المجتمع المدني بالإبقاء على العتبة الحالية أي 3 في المئة. والخلاف على هذه النقطة دقيق وغير بسيط، فالتّمسك بوجود الأحزاب الصغيرة هاجس له ما يُبرّره من أجل ضمان أوسع تمثيلية ممكنة للأحزاب والتيّارات الفكرية الفاعلة في المجتمع، لكن تجارب البرلمانات الفسيفسائية تُظهر أنّ الاستقرار الحكومي قد يظلُّ مهدّدا بسبب تقلّب المواقف وحلّ التحالفات ثم إعادة تشكيلها.
انقسام «النداء»؟
مع دخولنا في العام الجديد تبدو مؤشّرات تكريس انقسام «النداء» إلى جسمين منفصلين بارزة للعيان أكثر من أي وقت مضى. ونلمح تسابقا بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة في أفق الاستحقاق الرئاسي، من خلال تلويح الأوّل بالبدائل الممكنة عن يوسف الشاهد، بسبب غياب شخصية تتمتّع بكاريزما ومواصفات قيادية في «النداء». في المقابل بدأ رئيس الحكومة وأنصاره يُزيلون النقاب تدريجيا عن مشروعهم للانتخابات المقبلة بعدما تكتّموا عليه حتّى اليوم. وبدأ مساعدو الشاهد، وخاصّة من غادروا الحكومة للإسهام في ورشة تأسيس الحزب البديل، يظهرون على السطح، بعدما عملوا حتّى الآن بطريقة الغوّاصين.
ولوحظ أيضا أنّ الصراع بين رئيس الجمهورية و»النهضة» حليف الشاهد، أخذ منعرجا غير مسبوق، إذ أصبح صراعا مفتوحا وعلنيّا، مع اتّخاذ الرئيس سلسلة من الخطوات التي رمت إلى إغاضة «النهضة» وإحراج الشاهد، سواء من خلال استقبال لجنة الدفاع عن شكري بلعيد ومحمد البراهمي أو عرض ملفّ التنظيم الموازي على مجلس الأمن الوطني، أو من خلال استقبال أعضاء لجنة الحريات الفردية والمساواة، وهو ما اعتبره النهضويون «انتقالا من سياسة الاحتواء الانتخابي إلى التحجيم السياسي، عبر الضّغط الإعلامي والنفسي».
من هنا تبدو الساحة السياسية غارقة في لعبة شدّ الحبل التي لم يسلم منها أحد، لا «النداء» المتشظّي، ولا الشاهد الذي يُدير تحالفه مع «النهضة» بالمراوغات، بعدما تعهّد لها بالامتناع عن الترشّح للرئاسة، ولا «النهضة» نفسُها، التي ظهرت على جدارها بدايات التشقّق، خصوصا في علاقة بالسؤال المحوري: من ستُرشح في الانتخابات المقبلة؟ وإن لم يكن لديها مرشحٌ فمن ستُزكي؟
أمّا الأحزاب المتبقية في الجانب الآخر من الخارطة، سواء منها المُشتقّة من «النداء» أم المستنسخة من «النهضة»، أسوة بحزب الرئيس المؤقّت السابق منصف المرزوقي، فأصابها من الوهــن ما جعل وزنها في المعادلة يساوي وزن الريشة. من هنا فالسؤال الكبير لحزبي «النهضة» و«النداء» هو الآتي: من هما حصاناهما في السباق الرئاسي إن لم يؤيّداه، وهذا هو المُرجّح؟ ستحسم الانتخابات هذا الأمر، وستحمل بالتأكيد مفاجآت عديدة.
ثلاث خطوات
مع ذلك، وعلى الرغم من هذا المناخ المشحون والمُغرق في الصراعات السياسوية، المقطوعة عن قضايا الشارع، هناك ثلاث خطوات باتت اليوم أكثر من ضرورية لتنقية المناخ السياسي وتهيئة أجواء طبيعية للانتخابات، وهي انتخابات ستكون حاسمة في نحت ملامح المشهد السياسي، بعد استكمال المرحلة الانتقالية، التي طالت أكثر من اللزوم.
تتعلّق تلك الخطوات الثلاث بسنّ القانون الانتخابي وإنشاء المحكمة الدستورية وانتخاب رئيس للهيأة العليا المستقلّة للانتخابات. على أنّ كل المشتغلين حاليا باللعب في المربّع الحزبي تحضيرا للانتخابات، يتناسون أو يستهينون بخطورة الظرف الاقتصادي الراهن وتداعياته الاجتماعية. وإذا كان هناك من عامل يمكن أن يشكّل في المستقبل المنظور مصدر تهديد للاستقرار، فهو ليس تقلّب التحالفات السياسية، التي لم يعد الرأي العام يُعيرها أيّ اهتمام، وإنّما هو دقة الوضع الاقتصادي وانعكاساته الاجتماعية. صحيح أنّ هناك أطرافا نقابية تعمل على تعفين الأجواء الاجتماعية بمختلف المبرّرات، مساهمة منها في العمل على إسقاط الحكومة (وهي لا تُخفي ذلك)، غير أنّ الأكيد أيضا أنّ التحديات التي تواجهها الحكومة كبيرة، ويصعب احتواؤها بالوسائل التي ما انفكّت تتوخّاها منذ 2014، وخاصّة في ظلّ التدهور المستمر في سعر صرف الدينار وارتفاع نسبة البطالة وتزايد المديونية بنسبة تقارب 17 في المئة سنويا.
في هذا السياق يشير خبراء ومسؤولون اقتصاديون إلى إمكانية تحصيل مداخيل إضافية من المتهرّبين من الضرائب حاليا، بوسائل عـدّة لا يتّسع المجال لاستعراضها. وعلى سبيل المثال قدّر الكاتب العام لوزارة المالية نسبة التهرّب الجبائي بـ20 في المئة، ممّا يعني أنّ الدولة ليست مجرّدة من وسائل تحسين مداخيلها وعقلنة التصرّف فيها وحسن توزيعها. لكنّ العقبة التي حالت دون ذلك هي الانغماس في التجاذبات والمهاترات السياسوية، التي بلغت أقصى عبثيتها مع إعلان الأمين العام المتخلّي لحزب «نداء تونس» عن «مؤامرة» لقلب نظام الحكم، قبل ذهابه إلى الخارج. والمؤكّد أنّ الأحزاب المتنابذة والمتصارعة على موائد الدولة ستكون مفيدة للبلاد لو تبارت في خدمة المصلحة العامة، وتنافست على إيجاد الحلول لتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، لكنّ فاقد الشيء لا يعطيه.
فاروق النجّار
- اكتب تعليق
- تعليق