عبد الحفيظ الهرقام: الخـروج مـن دائـرة الأخـطار الــداهــمة
تتصاعد في تونس يوما بعد يوم موجة الغضب الذي ينبئ بأخطار داهمة تهدِّد الوحدة الوطنية واستقرار البلاد.. غضب متأجّج في مختلف القطاعات والجهات وصلب العديد من الفئات المهنية والاجتماعية، يغذّيه التلاعب بمصالح المجموعة الوطنية ونيران الفرقة السياسية والخلافات الإيديولوجية المحتدمة. ومن بين تجلّيات هذه الخلافات ما قام من جدل حول مشروع القانون المتعلّق بالمساواة في الإرث الذي لئن اكتسى في ظاهره طابعا دينيا عقائديا فهو يحمل في طياته بعدا اقتصاديا إذ من مقاصد مشروع القانون إنصاف المرأة وتنزيلها المنزلة التي تستحق في بلد لا يخلو من مظاهر التمييز بين الجنسين في مجالات شتّى ولا سيّما في مجال الشغل حيث تمثّل الإناث 70 بالمائة من العاطلين عن العمل من بين حاملي الشهائد العليا وتبلغ نسبة الفارق في التأجير بين الرجل والمرأة 20 بالمائة حسب تقرير صادر عن مكتب العمل الدولي في نوفمبر الماضي.
ولا شكّ أنّ من بين أسباب تأجّج غضب التونسيين اليوم تهميش مشاكلهم الحقيقية وعدم إيلاء الاهتمام اللازم لشواغلهم وتطلّعاتهم في غياب رؤية مجتمعية واضحة وبرامج وسياسات عموميّة وفي ظلّ انحصار التحرّك السياسي في المناورات والمناكفات وتبادل التهم وكيل الشتائم للخصوم وارتفاع منسوب العنف اللفظي كما تجلّى ذلك بالخصوص خلال الجلسة الأخيرة لمناقشة مشروع قانون المالية للسنة المقبلة.
ولم يعد خافيا على أحد أنّ همّ الطبقة السياسية غدَا منصبّا منذ أشهر على انتخابات 2019 كأنّ المنافسة الانتخابية ستكون بلسما لعلل البلاد وحلّا سحريّا لقضاياها الجوهريّة، بينما تتفاقم الأزمات وتتوقّف الصناعات الاستخراجية وخاصّة في قطاع الفسفاط عن النشاط وتغيب المشاريع الاستثمارية الكبرى ويتواصل انحدار الدينار الذي فقد 40 بالمائة من قيمته في غضون خمس سنوات ويقاطع الأساتذة الامتحانات ويستفحل التضخّم وتلتهب الأسعار وتتنامى البطالة ويستشري الاقتصاد الموازي ويواصل الموظّفون والعمّال تحمّل ثلثي الأعباء الجبائية في حين يتقاسم الأفراد والمؤسّسات الثلث المتبقّي وتبقي مجلّة الصرف على حالها على الرغم من أنّها تُعتبر عقبة أمام تدفّق الاستثمارات الخارجية ويُثقل كاهل مؤسّسات عموميّة تراكمت خسائرها بالانتدابات وتئنّ تحت وطأة الفقر والخصاصة أعداد وافرة من التونسيين، من بينهم متقاعدون من القطاع الخاصّ ومنهم من تترواح جراياتهم أو منحهم بين 80 و100دينار، علما وأنّ معدّل الجريات في هذا القطاع يبلغ 400 دينار شهريّا.
إنّ ما ذكرناه ليس، في حقيقة الأمر، سوى شذرات من واقع اقتصادي واجتماعي شديد التأزُّم ومن مشهد سياسي يطغى عليه منطق العداوة والتنابذ، انسدّت بسببه سبل الحوار وتعطّل إعمال الرأي المشترك في القضايا التي تتطلّب الدرس والمعالجة لإنقاذ البلاد من الانحدار إلى الهاوية.
نُذر العاصفة نلمسها منذ مدّة ليست بالقصيرة من خلال احتجاجات في الجهات ومطالب قطاعات مهنيّة وإضرابات آخرها الإضراب العامّ في الوظيفة العمومية يوم 22 نوفمير الماضي. ولئن ظلّت هذه الحركات الاجتماعية سلميّة ولم تنزلق إلى المحظور، عكس ما جرى في غرّة ديسمبرالجاري بباريس حيث تحوّلت مظاهرات أصحاب السترات الصفراء إلى أعمال عنف ونهب وتخريب واعتداءات على قوس النصر ونصب الجند المجهول وهما من رموز الجمهورية، فإنّ لا شيء يضمن في قادم الأيّام اجتناب انفجار الأوضاع وانهيار جدار التعقّل وضبط النفس، إذا لم تتوصّل الحكومة وسائر المنظّمات الوطنية ومنها بالخصوص الاتّحاد العام التونسي للشغل إلى توافقات بشأن الملفّات العالقة، خاصّة ونحن مقبلون على شهر جانفي الذي اقترن في المخيال الجمعي باندلاع الانتفاضات الشعبية.
وأمام توتّر الأجواء وتصدّع اللحمة الوطنية جرّاء خطاب سياسي ينقصه الإقناع والبعدان البيداغوجي والمواطني، إذ هدفه الأساسي الاستقطاب وتعبئة الأصوات استعدادا لانتخابات 2019 بدلا من الطاقات تتعالى هذه الأيّام أصوات تدعو الحكومة والأطراف الاجتماعية والطبقة السياسية عموما إلى تعديل البوصلة وتهيئة مناخات هادئة للخروج من دائرة الأخطار الداهمة إلى دائرة الحوار المنقذ. والغاية من ذلك إقامة أرضية مشتركة تسمح بالقيام بمراجعات جذريّة في العديد من المجالات واتّخاذ قرارات صائبة وغير شعبويّة وإن كانت موجعة أحيانا، بعيدا عن منطق الاصطفاف الحزبي والتجييش الانتخابي قصد النهوض بأوضاع البلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا دون إبطاء أو ترقّب لأنّ التأخّر في إنجاز الإصلاحات الضرورية سيكون ثمنه باهضا غدا. فهل من مجيب؟
كـــلّ عــام وأنتــم بخيــــر
عبد الحفيظ الهرقام
- اكتب تعليق
- تعليق
تشخيص صائب ودقيق وصرخة فزع في محلها، فما من عاقل يناقضك في كل هذا، سي عبد الحفيظ. لكن أرى أن الوقوف عند هذا غير كاف إذا ما لم نمرّ إلى التحليل العميق والموضوعي للأسباب والمسببات التي أدّت إلى هذه الأزمة "الرهيبة التي صارت مستفحلة والتي التي تنبؤ ولا شك بالعاصفة لا قدر الله... أرى شخصيا سببيبن قاعديين لهذه الأزمة : 1. سبب اجتماعي هيكلي يتعلّق بطبيعة سيرورة المجتمع التونسي والمجتمعات العربية بصفة عامة في علاقة مع استيعاب وممارسة "الديمقراطية" بمفهومها الحديث المعاصر. 2. سبب سياسي جوهري في تركيبة الطبقة السياسية من ناحية تكوينها ومكوناتها ومؤهلاتها وقد وجدت نفسها أمام "ثورة شعبية" مباغتة لم تتهيأ البتة لاستيعابها ولا لاستثمارها تاريخيا في الشأن الوطني العام فاختلط الحابل بالنابل في صلب تركيبة هذه الطبقة وأصابها الوهن والعجز في ترتيب الأولويات وتنظيم التوجّهات الأساسية والمطالب الهيكلية الحارقة التي من أجلها "اندلعت "شرارة الثورة" ... وللحديث بقية يطول فيها الشرح والسند والمقترح. كل ما نرجوه ونتمناه، أن يتدارك أهل السياسة والمجتمع المدني الوضع في القريب العاجل بأن يضعوا أيديهم على الدمّل السرطاني الذي بدأ بالفعل ينخر جسد البلاد والعباد وأن يسعوا بحكمة وتروّ ونكران ذات وفي أسرع وقت ممكن بمعالجة النظام ككل وليس كأجزاء مشتتة إذا ما عالجت جزءا تداعى الجزء الآخر. جعل الله سنتنا الجديدة التي هي على الأبواب خيرا وأبقى ونهاية سنين عجاف ماضية ...
تحليل للمشهد السياسي في بلادنا تمّيّز بالدقّة و الموضوعية فهو فحص مرفوق بما ينبغي القيام به لتخرج تونس من نفق مظلم يعج بالمطبّت والجباب العميقة.