محسن بن عيسى: المخابرات حلقة أساسية في المنظومة الأمنية

المخابرات حلقة أساسية في المنظومة الأمنية

إذا كان التخصّص وتقسيم العمل أحد القوانين الاجتماعية الأساسية المهيمنة على الحياة الانسانية عبر مراحل التاريخ فمن الطبيعي أن ينعكس ذلك بشكل أو بآخر على الأنشطة الأمنية وهياكلها المؤسّسية. وإذا كانت معطيات الاستعلام والاستخبار ضرورية لهياكل الأمن الداخلي لبناء قدراتها وتحديد أهدافها الوطنية، فإنها تكاد تكون الأساس المعلوماتي التي تُبنى عليه الاستراتيجيات الأمنية والعسكرية والعامة.

لم تدخل البلاد "الفوضى المفتوحة" كما تطرح بعض الآراء المشبوهة بفضل وطنية قواتها المسلحة وهياكلها الأمنية. ويبدو أنه حان الوقت لنُثبت للجميع عبر قانون "أجهزة المخابرات والاستعلامات" أن تونس ستبقى رغم الإرباك دولة مؤسّسات حقيقية.

المنظومة المخابراتية وثقل الموروث

عرفت الأنظمة العربية جدلا واسعا حول انحراف البعض من أجهزتها (مباحث، مخابرات، أمن دولة) عن مهامها الأصلية في حماية الوطن إلى حماية أمن النظام والعمل لصالحه، ومن منظومة مخابراتية إلى منظومة قمعيّة.

ليس هناك وجه واحد للحقيقة في جميع القضايا، فالحقيقة حمّالة للأوجه واختلاف الرأي، لذلك أثار موضوع هذه الشبهة وقرار تجميد البعض منها أو إلغائها استفسارات خاصة حول الفراغ الأمني الممكن أن ينجر عن ذلك ويساعد بصفة مباشرة أو غير مباشرة على اتساع نطاق التهديدات وارتفاع درجة خطورتها.

لم تكن المفاهيم  الأمنية متطابقة بين الأنظمة السياسية والقوى الاجتماعية، ولم يكن هناك أيّ توافق على ثوابت مشتركة تضمن للسياسات الاستمرار والاستقرار دون تغيير في جوهرها على اختلاف الأوقات وتحت حكم أيّ طرف منها. كان من المفروض لو ارتقى الحسّ الوطني أن تكون الاختلافات حول التفاصيل ولا تمسّ الثوابت العامة للأمن في أي دولة منها.

من الممكن أن تنحرف هذه الأجهزة عن أهدافها في ظلّ متاهات الأنظمة الاستبدادية المزيّفة، ولكن.. لا غنى عن أجهزة الاستعلامات العامة والمخابرات في الحياة الوطنية شريطة أن يكون النظام ديمقراطيا وتداول السلطة منتظما وولاء الشعب للدولة وليس للحاكم.

تساؤلات عديدة لازالت تُطرح حول التسرّع في إلغاء هذه الأجهزة بعد 2011 وما انطوى عليه من خلفيات لتفكيك الدول وإضعاف جيوشها ومؤسّساتها الأمنية للانقضاض عليها. فالأمن رغم تعدّد صيغه وتنوع تطبيقاته العملية هو مرادف لبقاء الدولة وسلامة أركانها ومقوّماتها، وحماية قيمها ومصالحها. ومهما كانت طبيعة الدولة وظروفها فإنّ حماية وجودها وضمان استمرارها يمثلان أوّل احتياجاتها وأهدافها ويتقدمان على كل اعتبار.

الأمن القومي والتحدّيات الراهنة

لقد استعادت قضايا الأمن ومقتضياته موقع الصدارة من جديد بفعل الأحداث المُسجلة والدروس المستخلصة. وعادت الوقائع لتثبت أن الأمن يبقى أوّل احتياجات الشعب وأكثر مطالبه حيوية وضرورية.
واكتسب الأمن القومي وتطبيقاته في هذا السياق بُعدا مركّبا أصبحت بمقتضاه المفاهيم والتطبيقات لديه أدوات سياسية تُستعمل لتنفيذ خطط وأهداف تحت مسؤولية المؤسسات الرسمية. وإذا كان سعي الدول لتحقيق قيم أمنها القومي قد اعتمد على مختلف الوسائل المتاحة فإنّه تركّز بالأساس على وضع خطط واستراتيجيات لتحويل هذه القيم ومتطلباتها إلى أهداف ووظائف عملية تأخذ في النهاية صيغة "السياسة العليا ".

ولما كانت القرارات لا تصدر إلا بناء على معلومات، وأنّ المعلومة هي أساس صنع القرار، فإنّ احتمالات نجاح أو فشل السياسات والتنبؤ بمواقف وردود الأفعال مرهون في جانب كبير منه بمصداقية وحرفية أجهزة الاستعلامات والمخابرات لديها.

من المعلوم أنّ الأمن الحقيقي للدولة ينبع من معرفتها العميقة للمصادر التي تهدّد مختلف قدراتها ومواجهتها، فالصراع الحالي هو صراع معلومات. وهنا نتساءل كيف يمكننا فهم ما يجري حولنا إذا كانت أجهزتنا معطلة ونجهل ما يحدث لدينا؟

لازلت أؤمن أنّ هناك أدبيات وأخلاقيات في هذا الوطن يجب الالتزام بها وعدم تخطيها. ولازلت أراهن على النخبة الوطنية  حتى لا تصاب الدولة بالشلل ويهزم بعضنا بعضا لصالح عدو مشترك. لقد كشف وزير الداخلية السابق في مجلس النواب يوم 21 أفريل 2017 أنّه منذ انطلاق ظاهرة التجنيد وتسفير الشباب إلى بؤر التوتر في منتصف 2012 تم وضع استراتيجية ذات ثلاثة محاور تم تنفيذها تدريجيا، حيث خصّص المحور الأول للاستعلامات (جمع المعلومات، بناء قاعدة بيانات، تتبّع التحويلات المالية الأجنبية، التنصّت على المكالمات، مراقبة مواقع محدّدة، مراقبة الشبكات الاجتماعية...). فيما ركّز المحور الثّاني على الحالات التي أُبلغ عنها ( التحقيقات والتحريات، الاستجوابات، التعاون مع المصالح المعنية...)، واهتمّ المحور الثّالث بالوقاية خصوصا من خلال حظر السّفر.

وفي سياق متّصل، أقرّ الوزير أنّ تونس ليس لها منظومة استخباراتية خارجيّة ولا تتوفّر لها  امكانيات وتجهيزات للوصول إلى مثل هذه المعلومات، ملفتا الانتباه إلى غياب إطار قانوني ينظّم "العمل الاستخباراتي" لدينا.

لازلت أرى أنّ الواضع الراهن يدعو إلى القلق الشديد وغير قابل للاستمرار وأنّ حماية الأمن القومي أصبحت لها أولوية وأنّ اتخاذ القرارات الرسمية على هذا المستوى يحتاج الى المعلومة الدقيقة عن قدراتنا الفعلية وقدرات أصدقائنا وأعدائنا. فبديهيات السياسة لا زالت تؤكّد أنّ لا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة بل مصالح دائمة.
علينا أن ندرك أنّ تطوير المعرفة والقدرات الوطنية لاستباق المخاطر والتهديدات هي أسلحتنا على الخط الأوّل في الدّفاع والأمن بالنسبة للمرحلة القادمة.

محسن بن عيسى

عقيد متقاعد من سلك الحرس الوطني
 

هل أعجبك هذا المقال ؟ شارك مع أصدقائك ! شارك
أضف تعليق على هذا المقال
0 تعليق
X

Fly-out sidebar

This is an optional, fully widgetized sidebar. Show your latest posts, comments, etc. As is the rest of the menu, the sidebar too is fully color customizable.